الضفة الأخرى
عندما يغمض عينيه، لايحلم إلا بها وعندما يفتح كتابا تتراءى أمامه صورتها، وتطير به أجنحة الخيال إلى مائها العذب وهوائها النظيف وحدائقها الغناءة…إنها الضفة الأخرى.. ليست بالبعيدة جدا وليس من السهل الوصول إليها…الطريق وعر وخطروقد يخسر نفسه دون الاقتراب منها….ولكنه عزم الأمر وأخذ القرار وأصبحت الفكرة واضحة في نفسه وضوح الشمس وسط النهار…لا معنى لحياته في هذا السجن الكبير…أن يموت في الطريق إليها خير له مليون مرة أن يستمر في حياته البئيسة المقرفة التي يعيشها…
فكر كثيرا وخطط وشرع في التنفيذ.
اختار الطريق الذي يبدو له سهلا وإن كانت كل الطرق لا تخلو من مخاطر…
بخطى ثابتة حذرة بدأ المسير. كان يتعثرأحيانا و يسقط أحيانا أخرى ولكنه يقف للتوويعاود السير….يأخذه التيار في اتجاه، يجرفه إلى اتجاه آخر، يتربص به الحراس، يضعف عزمه بعض الشيء، يتسرب بعض الخوف إلى نفسه …الطريق ملغوم بالأشواك …..ولكنه مقبل لا يرده شيء، عيناه تتطلعان إلى السماء عسى أن تنفك إرادته من قبضة الأرض، قلبه يهفو إلى التحرر من الأغلال ولن يقبل بغير حياة الضفة الأخرى…..يواجهه أحد الحراس، ينقض بيده الغليظة المقرفة على عنقه ، يكاد نفسه ينقطع، بالكاد يتسرب نزر من الهواء إلى رئتيه ، صدره يصعد ويهبط وكأنما « يصعد في السماء « وبأعجوبة كبيرة، يفلت منه…..يخلد لبعض الراحة يحاول إغماض عينيه وتهدئة قلبه المتعب…قد يغفو بعض الشيء.ولكنه لن يستطيع النوم، فهو لم يشعر بطعم النوم منذ سنين…
تمر الأيام تباعا دون مبالاة لمايشعر به الناس من ألم ومن تقلبات…ويواصل القلب النظيف رحلته ، تسود الحياة في عينيه وتظلم القلوب حوله، ينعكف على قلبه ينظفه ويزكيه غير مبال بأحد. تنفرج الكربة قليلا فيجد قلوبا عامرة بالحب، يعانقها ، يرتوي من رحيقها بعض الأمل ويتزود من ثباتها بعض التحدي ثم يواصل المسير..
في الأفق تبدو بعض النجوم، كأنها تسانده و تضيئ له الطريق، تأخذ بيده وتمسح على قلبه، يواصل خطواته غير آبه بمن حوله وبما حوله مسمرا نظره على النجوم البعيدة القريبة ،لا يحيد نظره عنها ولا يتحول، يواصل الطريق بإصرارأكثر، لا يلتفت إلى نداء أو صراخ أو عويل، لا يشغله رثاء أوبكاء أو استجداء، فيه ما يكفي من الحزن والألم ولن تجدي الشكوى …شيء بداخله يدفعه إلى الأمام، لابد من تجاوز كل هذا الألم وكل هذا العجز ، يصر: « لا بد ألا أتوقف عن السير لابد أن أصل إلى الضفة الأخرى وإلا سأغرق كما يغرق الجميع في دموع البؤس واليأس ».
……………………
.
..بعد مكابدة ومعاناة شديدة، لم يصدق عينيه ، إنه على بعد خطوات من الجسر…اقترب بحذر شديد وحاول خفية أن يراقب حدود الجسروما يجري حوله…
حراس أشداء، عددهم كبير وعدتهم ضخمة…أصابه الهلع بادئ الأمر، لم يتوقع كل هذا الخطر…..رغم شدة الحراسة في كل مكان، إلا أنها حول الجسرأشد بكثير، إنها تثير الرعب في النفس وتزعزع القلوب من مكانها..أن تحاول قطع الجسرمعناه لامحالة أنك ستصارع الموت وترمي بنفسك في الهلاك المبين…الآن تيقن يقينا لا يخالطه ذرة شك بأنه كان فعلا في سجن كبير….
ولكن هيهات، هيهات لقلب ملأه اليقين بأن يتراجع…هيهات لقلب هفا للحرية أن يستسلم ويرضى بالذل والعبودية …قضى أياما وليالي وهو يراقب الجسر من مكان لا يراه منه الحراس، فكر كثيرا وقلب في رأسه كل الاحتمالات الممكنة ، وتوصل في النهاية إلى أن الخطر أكبر بكثير مما كان يتوقع وأنه لن يستطيع أبدا العبور منفردا معتمدا على قوته وحده…..
ورغم كل ذلك، لم تنقص عزيمته ولم تفتر همته ….ولى مدبرا وهو أكثر إصرارا على العبور إلى الضفة الأخرى….
1 Comment
صارت الضفة الأخرى هي الملجأ الوحيد للكثير من الناس.ضاقت أذرع هذا الوطن الفسيح من أن تعانق كل القلوب المتيمة .يتحول ما هو يومي الى كابوس يقض مضجع أناس لم تؤهلهم خطط التنمية البشرية رغم المجهودات الجبارة لذوي النيات الحسنة.وسط هذا الركام من الثعالب البشرية لم يبق الا حل واحد العزم مرة أخرى على العبور الى الضفة الأخرى أو اعلان الحرب ضد من سولت أنفسهم على التهام كل شيء.الأخضر واليابس…
شكرا لأم أنس على هذا النص الجميل…