Home»Correspondants»الدكتور فيصل القاسم : ‘ انا اعارض اذن انا غير موجود ‘

الدكتور فيصل القاسم : ‘ انا اعارض اذن انا غير موجود ‘

0
Shares
PinterestGoogle+

تاريخ النشر: السبت 26 يونيو 2004, تمام الساعة 03:15 صباحاً بالتوقيت المحلي لمدينة الدوحة

بما أن السياسي قد وظف رجال الدين أصلاً لتحريم المعارضة في ثقافتنا السياسية العربية، كما لاحظنا في المقال السابق، فلا عجب أن نراه هو نفسه يتصدى بعنف لكل من يعارضه سياسياً حتى لو بالكلام أو بالنكات. فالمعارضون السياسيون بالنسبة لبعض الحكام العرب إما خونة وعملاء للخارج أو « كلاب ضالة » مسعورة يجب تصفيتها كي لا تصيب العباد بمرض السُعار. بعبارة أخرى لا وجود لكلمة معارضة في عقل السياسي العربي « الأصيل » منذ عصور العرب الأولى. ولا أعتقد أن هناك أمماً ألصقت بمعارضيها ألقاباً سيئة وشنيعة كما فعل الحكام العرب بمعارضيهم، فقد شبهوهم بكل الحيوانات والحشرات المكروهة تقريباً ولا داعي لذكرها لأن المقال لا يتسع حتى لبعضها

.

وبما أن عدم المعارضة والتسليم بالأمر الواقع للحاكم أصبح ثقافة عامة في حياتنا العربية فقد امتدت عدواه لتطول كل مناحي الحياة العربية الأخرى بدءا بالبيت مرورا بالمدرسة وانتهاء بالمعمل والمصنع والدائرة

.

من منا كان يستطيع أن يعارض والده في شيء، فقد كان الأب وما زال في ثقافتنا العربية الأبوية طاغية وديكتاتورا من الطراز الأول، كلامه منزل وأوامره مطاعة. وقد غرسوا في نفوسنا مبادئ تعتبر معارضة الأب نوعا من قلة الأدب أو سوء السلوك لا بل ضربا من التمرد الاجتماعي المرفوض تماما. فقد اعتاد الإنسان العربي في صباه وشيخوخته أن يقول لأبيه سمعاً وطاعة حتى لو كان الأخير يهذي أو يهرف بما لا يعرف. لم يكن بإمكان الشاب العربي أن يناقش أباه في أصغر الأمور وأتفهها عملا بالمبدأ الاجتماعي العام الذي يحرم المعارضة ويدين كل من يمارسها. في المقابل تجد الطفل في بلاد الغرب يتمتع بشخصية مستقلة منذ نعومة أظفاره إلى حد أنه يجادل والديه ويعارضهما في الكثير من الأمور بحرية وبقوة. وكم كنت أتعجب من استخدام الأطفال البريطانيين الذين لا تزيد أعمارهم على خمس سنوات لمفردات وعبارات تعبر عن استقلال الشخصية واعتدادها بنفسها. فالطفل الغربي مثلا يلجأ إلى استخدام تعبير (أنا أعتقد) أو (أنا أظن) وهو تعبير ينم عن وجود رأي لديه يميزه عن رأي أبيه وأمه. ومجرد استخدامه مثل ذلك التعبير فهو يعبر عن معارضة من نوع ما لوالديه والناس من حوله

.

بدورها لا تستطيع المدرسة العربية أن تشذ عن الخط الهرمي التسلسلي في فرض الطاعة وتجريم المشاغبين. فكما أن رجل الدين والحاكم والأب في المنزل أناس مقدسون فلا بد أن تكون للمدرس أيضاً قدسية من نوع ما كي يستطيع من خلالها أن يساعد الحاكم في ضبط المجتمع وترويضه، فالمعلم العربي الذي يشتكي دائماً من وضعه المأساوي هو مشارك بطريقة أو بأخرى في إنتاج مجتمعات خاضعة خانعة سلبية مسلِّمة بواقعها وغير قادرة على إبداء أي نوع من المعارضة. من منا كان باستطاعته أن يعارض رأي المعلم في مدارسنا العربية؟ وكم كنا نرى معلمينا يخطئون حتى في تعليمنا لكن لم يكن بيدنا حيلة لنقول لهم أنتم على خطأ. لماذا؟ لأن معارضة المعلم كمعارضة الحاكم ضرب من الانتحار لا بل من الكبائر. بينما تجد أن العلاقة بين المدرس الغربي وتلاميذه تقوم على الأخذ والرد ولا يشوبها أي نوع من الإرهاب الذي نجده عادة ضارباً أطنابه في مدارسنا العربية

.

ألم يحن الوقت أن نأخذ بأساليب التعامل الحديثة في السياسة والدين والتعليم والاجتماع؟ ألم يحن الوقت أن نجعل من المعارضة فريضة في كل مجالات الحياة العربية؟ أما آن لنا أن نعيد تأهيل كلمة معارضة ونضعها في المكان الذي يليق بها بدلاً من شيطنتها ورجمها؟ لقد أصبح من واجب الآباء والأمهات والمعلمين والمعلمات والسياسيين ورجال الدين وعلماء الاجتماع أن يشجعوا الناس على المعارضة بدلاً من تحريمها. لقد آن الأوان أن تصبح المعارضة في حياتنا فضيلة لا نقيصة أو عيباً، فالعيب أن تمنع الناس من إبداء رأيهم في أتفه الأمور وأن تسوقهم بعصا واحدة. لقد أصبح حرياً بالمدرسة أن تغرس في نفوس الطلبة وتعلمهم روح المجادلة والحوار بدلاً من التلقين والتحفيظ؟ على الأب أيضاً أن يتنازل عن بعض سلطاته الديكتاتورية كي يخلق جواً من الحوار المتبادل مع أفراد المنزل. إلى متى ندعو إلى الجدل بالتي هي أحسن ثم نفعل العكس؟ ألا نستشهد دائماً بالآية الكريمة( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) ثم نفرض حالة من الجمود والتحجر على مجتمعاتنا سياسياً ودينياً وثقافياً واجتماعياً ونمنع الناس من مجرد التعبير عن معارضتهم حتى لرفع أسعار الخس والفجل والبطاطا كما يحدث في بعض الدول العربية «الثورجية» التي كممت أفواه شعوبها وقمعت أي رأي معارض تحت حجج سخيفة كحماية الأمن القومي والوحدة الوطنية مثلاً؟

المعارضة، يا جماعة الخير، أصبحت في العالم المتقدم مؤسسة بحد ذاتها، لا بل إنها ركن أساسي من أركان الدولة الحديثة وبالتالي فهي وظيفة سياسية ومدنية ينص عليها الدستور، لهذا يسمون أحزاب المعارضة في بريطانيا مثلاً «بمعارضة صاحبة الجلالة» على اعتبار أنها جزء لا يتجزأ من المؤسسة والحياة السياسية في البلاد وليست رجساً من عمل الشيطان كما هو الحال في بلداننا المتخلفة ديمقراطياً وحضارياً. بعبارة أخرى فإن المعارضة ليست ترفاً في الدول الديمقراطية بل ضرورة حياتية ملحة، فبدونها لا تتقدم المجتمعات بل تبقى رهينة الاستبداد والتخلف والمراوحة في المكان

.

لقد آن الأوان لأن نفهم المعارضة بصيغتها الحضارية الحديثة. لكن للأسف الشديد لا أنظمتنا الحاكمة فهمت معنى المعارضة ولا معارضاتنا في الداخل والخارج عرفت أصول المعارضة. فالحاكم لدينا ما زال ينظر إلى كل من يعارضه على أنه عدو جدير بالقتل والتشريد لا بالحياة. ولو نظرنا حولنا لوجدنا أن معظم المعارضين لهذا الحاكم أو ذاك إما في السجون أو في القبور أوفي المنافي. إنها علاقة عداء مستحكم خطير. والسبب يكمن في أن الحاكم لدينا ما زال يتعامل مع السلطة لا على أنها مهمة وطنية بل على أنها غنيمة حرب حصل عليها بفضل صعوده ظهر دباباته وسيطرته على مبنى الإذاعة والتلفزيون ومن ثم الجيش، وبالتالي عليه أن يحمي الغنيمة بالحديد والنار وأن يحول كل من ينازعه إياها إلى لحم مفروم صالح فقط لصنع أكلة الكبة اللبنانية

.

شتان بين المعارض والعدو. فالعلاقة بين الأعداء هي علاقة حقد وكراهية وتصفية جسدية، أما العلاقة بين النظام ومعارضيه فيجب أن تكون علاقة خلاف في الآراء والمصالح على مبدأ «لا يفسد الخلاف للود قضية »، لكننا كعرب نردد هذا القول ببغائياً دون أن نفهم معناه، فأبسط خلاف بيننا يتحول إلى حرب داحس والغبراء لأننا لا نعي معنى المعارضة بشكلها السياسي الحديث. وهي مشكلة متبادلة بين النظام العربي ومعارضيه المفترضين. فكما أن النظام ينظر إلى مخالفيه في الرأي على أنهم خصوم ألداء يجب ملاحقتهم وتصفيتهم فإن المعارضين العرب في الداخل والخارج ينظرون بدورهم للحاكم على أنه عدوهم وبالتالي فلا بد من تصفيته والقضاء عليه حين تحين الفرصة. لا بل إن المعارضين العراقيين ذهبوا إلى أبعد من ذلك حينما استعدوا قوى أجنبية وساعدوها كي تغزو وطنهم وتعيده إلى القرون الوسطى فقط كي تنتقم من عدوها صدام حسين. بعبارة أخرى فإن المعارض العربي يعارض النظام ليس من أجل التداول على السلطة معه بل كي يستولي عليها بأي طريقة. ولا تغرنكم الطروحات الليبرالية العربية الجديدة التي تروج للديمقراطية وتمارس أبشع أنواع التكفير والاستئصال. إذن المعارضون العرب ما زالوا يفكرون بعقلية الانقلابيين الذين استولوا على الحكم في أكثر من بلد عربي وحرموا منه الآخرين

.

متى يتعلم الحكام العرب بدورهم أن المعارضة مهمة وطنية وبالتالي لا يجب أن لا ينظروا إلى المعارضين على أنهم أعداء. فالمعارضون في الدول المتقدمة ليسوا أعداء لأوطانهم، بل غيورون عليها. لهذا يسمونها بالمعارضة الموالية في الدول التي تحترم نفسها وتحترم بلدانها. لكن بالطبع لا يمكن أن نلوم لا الحكام ولا المعارضين على التصرف بهذا الشكل الحقدي والانتقامي تجاه بعضهما البعض على مبدأ يا قاتل يا مقتول لأننا لم نتمكن حتى الآن من إقامة النظام الديمقراطي الحقيقي الذي يقوم على أساس التداول السلمي للسلطة. وطالما بقينا نفكر بعقلية العداوة حكاماً ومحكومين فإن ظاهرة المعارضة بشكلها الحضاري ستبقى غائبة عن حياتنا السياسية. متى يتعلم الحكام العرب أن عليهم أن يعاملوا معارضيهم بالتي هي أحسن كي يقوم المعارضون بدورهم بمعاملة الحكام بالتي هي أحسن عندما يخرجون من السلطة؟

وكي لا يتهمني أحد بأنني تجاهلت أحزاب المعارضة الموجودة في الدول العربية، فالتجاهل مقصود، فتلك لا تمت للمعارضة الحقيقية بصلة بل هي مجرد ديكورات سخيفة، فلا وجود أبداً لثقافة المعارضة في أي بلد عربي، فما زلنا نرمي المعارضين في غياهب السجون أو نطردهم للتسكع في بلاد الله الواسعة حتى يملوا الحِلَّ والترحال ويستجدوا جواز سفر يسمح لهم بالعودة إلى أوطانهم بعد طول غياب. وما زلنا نحرق الكتب والروايات والأشعار بدعوى التجديف والحسبة. وما زلنا نضع حرفاً قرمزياً على صدر كل من يشذ عن الخط الاجتماعي العام كما فعل المجتمع الظالم مع بطلة رواية (الحرف القرمزي) للأديب الأمريكي ناثانيل هوثورن لمجرد أنها حادت عن تعاليم مجتمعها البائدة. لا عجب إذن أن يلهج لسان حال المعارض العربي،أياً كان نوعه، بالقول: «أنا أعارض إذن أنا غير موجود

».

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *