قصة : عناق
مسيرتان ، غربية هنا و شرقية هناك ، البيارق تملأ سماء الأزقة الضيقة ، وأحذية منفعلة تدوس (زليجا) مستوردا ، وصورا لشخصيات بربطات أعناقهم الملونة. بلاغات وبيانات تتطاير فوق الرؤوس ، وحين تخونها الريح ، يكون مصيرها المحتوم تحت الأقدام . الحناجر تستنجد بقنينات المياه المعدنية ، لاسترجاع عافيتها ، إنها الحرب في مظاهرها القديمة ، شعارات ينتقل صداها بين الضفتين ، منددة بالإقطاع والرأسمال ، وأخرى تنعت الاشتراكية ومريديها بأقبح النعوت. مشهد حداثي من غزوة (بدر) ، نساء يزغردن من هذا الطرف أو ذاك ، وكأنهن يرددن ما قالته هند بنت عتبة ذات شهوة للنصر أو الثأر : ( إن تقبلوا نعانق ونفرش النمارق….أو تدبروا نفارق…فراق غير وامق) ، لكنها لعنة اللغة والتاريخ ، لا تراوح مكانها . شباب وشابات يزرعون حماسا باردا في هذا الجانب أو ذاك ، رجال يمشون على استحياء في مسيرة حاشدة ، ويتذكرون أيام الزمن الثوري في صمت ، إنه مكر السياسة والإيديولوجيات. في الحي الآخر تجمهر لا يقل حماسة ، نساء وشابات جميلات ، شباب يتباهى بعرض عضلاته المفتولة ومستعد للمنازلة. أجهزة الدولة حاضرة وفي حالة استنفار ، سيارات تجوب الشوارع المحاذية مطلقة صفارات مستفزة للآذان ، عيون وآذان مدسوسة هنا وهناك تثير الشك والريبة. زعماء محليون وآخرون قدموا من العاصمة يتقدمون المسيرتين ، انسحب البعض ممن آثر السلامة ، تفاديا لكل شر مستطير.
كانت الهراوات تعلو في سماء المسيرتين إعلانا للقوة واستعدادا لكل الاحتمالات ، سباب منفلت بين الحين والآخر من هذا الجانب أو ذاك. التقى الجمعان أخيرا ، فخيم صمت للحظات على الجميع ، في المشهد الخلفي بقيت الشعارات تملأ الفضاء ، عكس ما يحدث في المقدمة ، ثم بدأت تستسلم تدريجيا ، إلى أن ارتمت أخيرا في أحضان السكون. انقبضت الأنفاس على إيقاع هذا الصمت ، كشر الزعماء عن أنيابهم ، انتظر المناضلون والمساندون والفضوليون ما ستسفر عنه لحظات ما قبل المواجهة . هي إشارة أو نظرة من هذا القيادي أو ذاك ، وها كل شيء قد تتغير.
وصل ثقل الصمت الساكن في المقدمة إلى الخلف ، سكتت الحناجر، تساءل البعض ، رفض الآخر ، احتج المستنكرون ، فتحت الحناجر من جديد ، شعار متقطع في هذا الجانب تقابله نظرة مستنكرة على الفور ، خيم سكون قاتل ، تبضع المناضلون ما يلزمهم من ماء وسجائر ونشويات ، ليسترجعوا ما ضاع منهم من جهد ، دار همس متبادل في الآذان وتبادل البعض تحيات عن بعد ثم عن قرب ، تبعته ابتسامات ماكرة ثم عريضة بين القيادات ثم عناق ، تلتها نظرات ملؤها الدهشة والاستغراب ، انسحب جزء من الطرفين ، طال العناق ، ففسح المجال للحديث عن غلاء المعيشة وصعوبة الحياة.
قال كبير اليساريين وبجانبه كبير اليمينيين :
– » أيها المناضلون ، إننا إخوة في الكفاح الوطني و المصير المشترك ، وما يجمعنا أكثر مما يفرقنا ، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في العراق وأفغانستان وفلسطين….. »
رد من بقي من الحضور في استغراب :
– » آآآمين…… »
Aucun commentaire