الخدش ومخبأ الذئب…مجموعة قصصية
كان يجيد اللغتين الفرنسية والعربية، ويتقن قليلا الرياضيات والنشاطين العلمي والفني،كان يتهيب من المفتش، ويتتبع أخبار زياراته للمدرسة المركزية والمجموعات التابعة لها،كان يقترب كثيرا من المدير ويبادر في السلام عليه ، ويعرض عليه خدماته، لعله يحدث التوازن المفقود أو لعله يغطي عن غيابه، ويغض الطرف عن أخطائه،بينما كان يعطف على تلامذته ، يجتهد في تدريسهم، ويجدد في طرائق تعليمهم،كان مستواه الفكري يبز زملاءه، منذ تخرج من مركز تكوين المعلمين وهو يسند له قسم السنة السادسة، كان المدير يثق في قدراته،أما الآباء فكانوا يتهافتون على دروسه الخصوصية، لاتهمهم المبالغ التي يشترطها، بل يجزلون له العطاء، ويدرون عليه من الهدايا والطعام والشراب بسخاء لعلهم يشترون النجاح لأبنائهم…أولعلهم يشترون المعرفة والتكوين الصحيح من أستاذ مدعم… المهم تشريف عائلتهم باختيار شعبة الطب… أوباختيارالهندسة…. أوباختيارتكنولوجيا الصناعة ….لازال حديث الصحف هذه الأيام عن خطة تشغيل 10 آلاف مهندس… يخرق أسماعهم…يستهوي أحلامهم…إنهم مستعدون للدفع المسبق…إنهم مهيؤون للانخراط في حزب حاكم…لاتهم المبادئ …لاتهم القناعات…إنهم غارقون حتى ركبهم في وحل المصلحة…كن براغماتيا…فالكيس ليس من دان نفسه واستعد لمابعد الموت إنما الكيس هو الشاطر…هو العملي…الذي يعرف من أين تؤكل الكتف…
سهر الليل كله خارج الجهات الأربع يتصفح الصحف الإلكترونية ويبحر في محيطات المواقع يفتش عن نجمة أونجوم في عتمة قوائم المرشحين للترقية الاستثنائية…لم يعثر على شيء… انتفخت أوداجه …تخترت الحمرة في عينيه الضيقتين اللتين نال منهما التصحيح وتهييئ الجذاذات النمطية تثلج شعره وتبركن لسانه: أين المصداقية؟… ماجدوى من الحوار؟…. بل ما فائدة الامتحان المهني؟…إن كل شيء زور في هذه البلاد حتى النقط الإدارية…بل ونقط التفتيش… بيع وشراء … محسوبية وزبونيه… لقد صدق الخبر الخبر.
إنها المرة الأولى التي يصل فيها متأخرا إلى المدرسة الفرعية… لقد كانت بمثابة خانة في براري الإهمال… أو لعلها مقبرة للأحياء … وجده في استقباله عند بوابة المؤسسة يرتدي بدلة سوداء كسواد الأفق ورابطة عنق حمراء كحمرة الدم المنعقد في وجنتيه المنتفختين وقد نال منهما الصياح
– المدير:أول مرة تعملها يا سعد….
– المعلم: إيه…يا سيدي المدير… المغرب كله تأخر…ولاناه… ولامنته…حقا إننا نتزعم باقتدار العالم الرابع…ألم تعلم ياسيدي أننا تقدمنا على اليمن والعراق وجيبوتي؟
– المدير: دعك من المزح….فرتبة بلدنا نصنعها بالمواظبة… نصنعها بالمثابرة…لاتقدم إذا لم نحول العلم إلى ثقافة…إن لم نترجم القيم إلى سلوك مدني.
–
المعلم: سنين ونحن نعمل…عقود ونحن نصلح…أجيال ونحن نناظر…ماذا حصدنا… التقهقر… والقهقهة…
-المدير: نعيب زماننا والعيب فينا…
– المعلم:أي عيب ونحن نضع التصميم بعد بناء الدار…هل هناك عيب أكبر من ربط للتعليم بسوق الشغل دون ربط الاقتصاد بالبحث العلمي…
– المدير: تقول… البحث العلمي…نحن لم نسد الضروريات …ولم نشبع الحاجيات وتريدنا أن نفي بالكماليات.
-المعلم: صدقت…نحن شاطرون في تخصيص أكبر الميزانيات لملاعب الكولف …نحن فالحون في إقامة الحفلات…نعم نحن نمارس البحث العلمي بالشعارات…نمارسه بتقارير دون إنجاز…بخطاب المانبغية … وتلميع الصورة… إننا لم نجد عليه إلا بالفضلات.
– المدير: تريد أن نهرق المال العام في إطفاء جذوة النزوات والاشتهاءات التي تشبع لذة المعرفة المفهومية…تريدنا أن ندلك ظهر حصان النزعات الذاتية في مضمار فروسية النقل الأكاديمي.
– المعلم: وقد لبس شعار التوتر وتأهب لإلقاء خطبة في منبر أو لقاء تربوي:
– بل نريد إنفاقه في تسكين أوجاع الأرض…وصياغة تاج الكرامة من قطرات عرق الكادحين…والتحليق بأجنحة أحلام الطفولة في كون العيش الرغيد
– المدير:هب أن الأمور أسندت إليك…هل هناك أطر تعول عليها في إخراج البلاد من عنق الزجاجة؟
– المعلم: سنين وهم يكذبون علينا لاتقدم إلا باستيراد النظريات…إلا باستهلاك التكنولوجيا…إلا بإطفاء لذة الشراء… شراء المكنات ….شراء القمح الجيد… شراء الزيت الملوثة بالمعادن…بل شراء الإبرة…أين هو استثمار خصوصية البيئة؟ بل أين هي خطة ترقية الإنسان وتنمية البشر؟
بينما المدير يحاور سعد بحماسة محارب يذوذ عن الأرض والمبدأ إذ بالمعلم ينفلت من اللقاء كالسهم من القوس، سل نفسه مثل الشعرة من العجينة ليدلك عجينة أخرى…العجينة تشكلت خبزا موردا يلهب الشهية قبل طرحه في الفرن…أب أوولي أمر تلميذ فاره القامة كحراس الأمن الخاص الذين تحتمي بقدودهم نوادي الليل أوقاعات الأعراس أوبوابات مؤسساتنا التعليمية ، نار على علم بعمامته الصفراء المرقطة بالسواد، خشونة اليد التي صافح بها سعد تدل على احترافه للفلاحة.
-الأب: كيف حالك ياأستاذ؟
– سعد: كل شيء على مايرام…هل من خدمة؟
لاشك أن والد مصطفى حضر إلى المؤسسة وهو يجر وراءه ديكا تظهر عليه علامات النعمة يجر بدوره بندقية ربطت بإحدى رجليه…ذلك يدل على البدانة والثقل في الميزان…لعله يباهي بحسن تعهده لدواجنه أو يعلن هديته أمام الملأ…أوقل ربما رشوته…معاذ الله توصيته…لم يستطع المعلم إخفاء فرحته وظفر شواربه وريها بلعاب الاشتهاء… رغم وقوف السيد المدير مشدوها…لم يكن يتصور مكانة موظفه عند الأولياء…ديك بحاله….. ماأجمل ريشه…بل ماألذ طعم لحمه…أما عرفه فيترنح عجبا كطاووس تتقافز هامتها على إيقاع وقع خيلائها وقد أخفت رأسها في رمال الجهر بالجمال والأناقة…تقاطع المنتظر…سال اللعاب…وثبتت مأدبة العشاء…
– سعد: ساعدوني ياأبنائي…
الخطاب موجه لتلاميذ قسمه المصففين طوابير…غرة في جبين سلوك مؤسسته المدني…ذعر الديك من صرامة النظام ومن العنف الجسدي و الرمزي الذي أصبحت تنتجه مدرستنا في زمن وسطية المؤشر وغياب الغذاء الفكري لعله يحتج بطريقته على خطاب الالتفاف والسقوط في المزالق…هب المعلم مستنفرا كل موارد تلاميذه البدنية والذكائية لإخراج الديك من قعرالبئر…إنه ليس كبئر يوسف…نحن نلقي بأنفسنا في بئر التدني بعد شح أمطار الخير… وشحوب جمال العقل وضمور جسم القيم…نزل سعد إلى أسفل البئر في دلو الماء…الذي لم يعد زلالا…كل شيء قد تغير هذه الأيام…ها هو سعد يمسك بالديك…يأمر تلاميذه وقد اصطفوا كقطع الدومينو التي تتهاوى بمجرد نفخة موضة أوتقليعة جديدة تستوحي نمط العيش الفرنسي…نحن معجبون بحقوق فرنسا…معجبون بحضارة وعمران مدينة الجن والملائكة…معجبون بفكر الأنوار…بل معجبون حتى بكفاياتهم المدرسية…ها هو الدلو صاعد أو على الأصح مصعد بحبل يمسكه كبار في العمر وصغار في العقل في زمن الانحطاط والهدر…وإذا بالدلو ينتصف المسافة فتختلط ذرات الهواء مع ذرات التراب المنبعث من القعر…استشكل على أنف سعد المدني استنشاقه فهوى إلى أسفل بعطسة لم تذكر فيها رحمة الله وصلاحه عطسة اهتزت لها أكف الماسكين لحبل الموضة الذين حولوا العبادة عادة ومالله لغير الله هكذا علمهم سعد في درس الأخلاق أن تشميت العاطس عادة قديمة ماعليكم إلا استبدالها بتصفيقة السلوك المدني…ها هو المعلم المجتهد في شرع الله يجني شوك اجتهاده…طلوع وهبوط…تصعيد وتنزيل وتصفيق إلى يومنا شأنه في ذلك شأن سيزيف يكوم صخرة من الأسرار والصراعات ويصعدها إلى الجبل فتتدحرج منه فيعيد السلوك ليصير العذاب أبديا…لكن صبر سعد كان أيوبيا سرعان ماتدخل المدير وزملاء المهنة يحركهم لعاب الشوق إلى مأدبة العشاء أوإلى لمة اقتسام المارشيات المشتركة أو على الأقل تبادل أخبار بورصة المشاريع وأخبار الزيادات والترقية في السلالم…فضلوا سياسة الجزر بينما آثر قاضي الدشرة سياسة شد الحبل ومسك العصا من الوسط لقد فضلوا محاكمة البئر وفضل القاضي محاكمة سلوك الإنسان…
أعلن المسمع » البراح » في الناس أن قاضي الدشرة سيحاكم بئرا في دار القضاء غدا على الساعة العاشرة…استغرب سكان الدشرة لنوع المحاكمة واستسلموا لمخيال الناس…
محكمة…
-القاضي: أيها السادة محاكمتنا اليوم غريبة عجيبة كعجائبية محاكمة كافكا أوغرائبية تحقيقات لجنة صنع الله…نعم أيها السادة سنحاكم بئرا اعتدى على رجل تربية ونجلده لأنه استولى على هديته…ديك بلدي وازن مهدى من طرف ولي أمر تلميذ…ولكن قبل الشروع في المحاكمة كل فرد من الحضور يتصدق بدرهم من ماله الخاص ويضعه في دلو ماء عب من البئر المتهم…
ذهل الجمع لطلب قاضي المحكمة…لكن سرعان ما أذعنوا لأمره…ألقى المستجيب الأول الدرهم فغاص في القعر….وهكذا تتابع المستجيبون وتوالت معهم الدراهم في الاستقرار في أسفل الدلو إلا درهم سعد المعلم الضحية…درهمه أبى النزول…وعقد العزم على الطفو فوق سطح الماء..تماما كما طفا ديكه و عام جسده على سطح ماء البئر…ترى لماذا ياسادة ياكرام؟ يستطرد قاضي الدشرة لأنه يده اليمنى توطنت على الغوص في مرق المآدب حتى التخمة ودلكت أصابع يده الناعمة بفعل مرهم قبض الهدايا مايتوصل به من هبات جراء سلوكاته المدنية في امتحانات الإملاء والنقل و مداولات الترحيل القسري إلى المستوى الأعلى…والآن ياسادة ياكرام والكلام للقاضي فقد ثبت بالملموس الذي لايحتاج إلى تحقيق أو مرافعة أودفوع تجني سعد على البئر وعلى النبع بل وعلى النشء و… فاستحق الحرمان من الدروس الخصوصية والعيش في قعر البحر…حيث سمك القرش الفاتك بصغار الأحياء والعاشق حتى الثمالة العذرية لدماء البشر…خاصة إذا كانوا من الصنف البدين الدسم صنف سعد ذوي البطون المنتفخة أعداء الثقافة…انتفخت أوداج المعلم الجشع وصاح صيحة تردد صداها في أحشاء البحر المتوسط على مقربة من مغارة هرقل العظيم…لما أفاق من ذهوله وجد إلى جواره ملكة البحر…استغربت لوجوده وأعجبت بشكله الآدمي…
-ملكة البحر: ماذا تفعل ياهذا في مملكتي؟
– سعد:وقد ارتبك في الرد واحتار بأي لسان سيجيب: كنت أصطاد ياسيدتي على ضفاف بحرك الأزرق الهادئ طول النهار فلم أظفر إلا بخف حنين …ولما أشرفت الشمس على المغيب ألقيت بسنارتي…تصوري ماذا أخرجت؟
-ملكة البحر: لعلك ظفرت بمحار أوسمك الميرو…
– سعد: لا ياسيدتي…لقد اصطدت سلحفاة…تصوري يا سيدتي سلحفاة تكرع في الماء الصافي…
– ملكة البحر: وما ذافعلت بهذا المخلوق الأليف ؟
– سعد: فكرت ياسيدتي في بيعه أوتحويل صدفه إلى آلة وترية…لكنني قررت إعادته إلى البحر…وأثناء إعادته جذبني التيار إلى أعماق البحر.
– ملكة البحر: حسنا فعلت…ماأحوجنا إلى رأفة الإنسان بالبيئة وأحيائها…طبت مقاما في مملكة البحر…اهنأ بنعيمها…طلباتك كلها مستجابة…
– سعد:لا أريد شيئا من عرض الحياة…أريد فقط الاغتسال من الطمع فالطمع طاعون والطاعون قتلني…
– ملكةالبحر: سأقودك إلى يم المتطهرين … يسلخ مشرط التخلي جلدك و تلبسك مرآة التجلي جلدا جديدا…… ويجمل محار التحلي نفسك…وبعدها تصبح زوجا لي حسب قوانين الرفق وميثاق التحلل المعمول به في مملكة الماء…
عاش سعد ردحا من الزمن في مملكة البحر ينعم من طيباتها ويتزين بمرجانها ويواقيتها ويقيم في قصور من أحجارها الكريمة ونفائسها… اقتطع من حياته على سرير بروست أحلاما وردية مرت كمر السحاب تصرف كثيرا في تشكيل خطاب تفسيرها تماما كما تفنن بروكست في تعذيب ضحاياه تمطيط وتقصير، ترميز وتوضيح…إلى أن انصرم حبل الاشتطاط في الحلم وتوقد وهج الحنين لوالديه وإخوته… اشتعل رأس أبيه شيبا و نال قانون الجاذبية منه كثيرا… وعانت أمه من حساسية الشم جراء تلوث الأمكنة والقلوب و تسمم العقول والعلاقات بنفايات الطبيعة والبشر…وترك إخوته الذكور غارقين حتى ركبهم في عادات عبدة الشمس تصفيفات شعر مقعرة وجسد مكسو بالفضة والموضة والوشم…أما أخواته الإناث فوقعن ميثاق العري في زمن تحرر المدونة وسيدن حضارة الصورة ومحون من ذاكرة الألواح حروف فاتحة الكتاب ورموز الهوية والمشترك الثقافي…لم تفلح ملكة البحر في ثني عزيمة سعد عن الرحيل… لم يتبق لها سوى توديعه وربط وشائج الذكرى بتذكار صندوق العمر
– ملكة البحر: أوصيك ياسعد بأن تمضي إلى سبيل أهلك وإياك أن تفتح الصندوق…احفظ الأمانة..والتزم بالوصية…
تطيب سعد ببرد التوبة وضمد جراح جسده الآيل إلى الانبعاث حياة ببلسم حركة ملح الموج المكوم طهارة في بحر حضارة غدا مثلثا معكوسا…وتمسك بذرات الندم ممتطيا صهوة اللقاء لبلوغ شاطئ الأمان…
لم يعد حيه كما ترعرع في ذاكرته…كل شيء تغير…شكل بيته…فرن الحومة غدا مقشدة…أما حمامها البلدي المصمم على الطريقة التركية فأصبح جاكوزيا من الطراز الإيطالي الحديث…تغير طعم الحياة…وتبدلت مظاهر الناس و الجيران…اعتقد أنه أخطأ الحي…أو أنه في زمن غير زمانه بعدما أخذته سنة أهل الكهف…لم يتوان ثانية في سؤال صاحب السوق الممتاز الذي ثلج حميمية دكان الحي وقضى على عوائد الشراء بالتقسيط…
–
سعد:هل لازال يقيم بجوارك الحاج عبد الباري؟ إنه يقطن هذا البيت المجدد معماره…بشارع الأدارسة…
–
صاحب المحل: لقد تغير اسم الشارع منذ مايزيد عن نصف قرن وتغيرت معه كل المعالم كما ترى…إيه يا ولدي الزمن فيزيائي محكوم بحركة الفوتون كماء النهر لايمكنك أن تسبح فيه مرتين ولكنك تستطيع أن تعيد المحاولة مرة أو عدة مرات…
-سعد:صدقت ياعم دوام الحال من المحال… سيف الوقت فوق رقاب الفتوة ووهم بلوغ منتهى التعمير ملح يموت ويحيا…
اسودت الدنيا في وجه سعد رغم ازديانها بضوء القمر وتقطبت أسارير جبين عصبيته رغم بشاشة العمران الهندسي و نكوص الوجوم النفسي …ولم يجد بدا من فتح الصندوق لعله يقبر السر، سرالتبدل وتغير الحال…فتح سعد الصندوق فاندلعت ألسنة الألوان تطرز الحقب أقواس قزح في نهجه السيري وتصبغ بياض لوحة الخلود بلمسات قرب المصير…تساقطت الأسنان وتلعثم الخطاب بفعل توسع الفجوة بين الفكر واللغة …وتقوس الظهر بفعل ضغوط الحياة وثقل حركة الزمن المضاعفة…التهم الهرم توهج فتوة سعد وعجل بأفول ريعان شبابه…لعله لم يحفظ الأمانة مرتين…أولعل الله أخذه بجريرة الطمع والمتاجرة برسالة العلم والتنوير.
Aucun commentaire