يوميات معطل مغربي 8 / 11
يوميات معطل مغربي 8 / 11
طاقي محمد
أغلق عبد الرحمان على نفسه باب غرفته المتواضعة، وقد أغلقت الدنيا أبوابها في وجهه وأدارت له الحياة بقفاها.. ما فائدة عشرين سنة من الجلوس على مقاعد المدارس للحصول في الأخير على شهادته العلمية ؟ ربما كان عليه أن يتعلم شيئا غير مواد المقررات الدراسية. ليست قضية معارف، بل قضية معرفة..
فما جدوى حصص الرياضيات ومعادلات الخوارزمي والفيزياء الميكانيكية والمفهوم الفلسفي للشخصية ودراسة جغرافية دولة البرازيل وتاريخ الحرب العالمية الأولى وقواعد العروض وأسهم الإرث والخلايا الانشطارية وترجمة المتطابقات الهامة..
ليتعايش مع مناهج الحياة وخاصيات البقاء واحتمالات الأقدار وطفرات العاطفة.. كان محتاجاً لمقررات من نوع آخر. راح عمره في تعليم لا يقارب الواقع، ودروس غايتها الامتحانات السنوية. والآن، ما عادت عليه امتحانات الدنيا بتلك الدروس الراسخة. فكيف له أن ينساها ما بقي يتخبط بين مقررات الحياة ومقررات التعليم.
أكان لزاماً أن يقضي خمس سنوات بالجامعة على وتيرة نظام الوحدات ولغة المجزوءات ودستور الإصلاح البيداغوجي وترقيع المخطط الاستعجالي..؟ أم يرثي ماضيه في زحام الحافلات وضحالة الأوحال وبرودة الأقسام حتى تتورم أطرافه وينحني كتفه على طاولات المدرجات..
أدرك عبد الرحمان أنه عاش أكبر كذبة علمية بمنظومة تعليمية، وكابوساً منهجياً يفصل الحياة عن المعرفة، وينزع الوعي عن المجتمع.. ما يعني أن وزارتي « التربية والتعليم » و »التعليم العالي » مارستا الغش على أبناء الشعب، كما زورتا الكفاءة والعلم بتعليم جاهل، ودروس عديمة الفهم ومواعظ فاقدة للعبر. دلسوا على التلاميذ والطلبة بشواهد الألقاب.. هذا مجاز، وذاك تقني متخصص، وآخر مهندس، وذلك دكتور. فيما ذهب العلم الواعي أدراج الرياح..
في نتائج التحصيل العلمي رتبة المغرب أسخف مرتبة على الصعيد العالمي، وأنكر تصنيف في مصاف الجامعات، ولا عجب في إنتاج التأليف وتشجيع الإبداع التي تدفعك نحو حافة الجنون ..
كما لو جاء التعليم بهذه البلاد لحرس الجهل، وبناء صرح التخلف، وتشييد الرداءة.. اعترافاً بتخريج الطغاة وترقية المفسدين وحماية الظالمين. وما إن تمر بضع سنوات على إطلاق برنامج إصلاح من شأنه أن يرفع الجودة.. حتى تطلع علينا الجهة المكلفة بميثاق تعليمي جديد. الكتب المعتمدة فيها مقررات لا علاقة لها بهوية الأجداد. ذاكرة مشوهة وتاريخ انتقائي لأمجاد أسرة سطت على أمجاد حضارة. فيها تفاصيل لفضيلة الحماية الفرنسية ونبل الانتداب البريطاني ونهضة الاكتشافات الأوربية.. لأن القاعدة ترى المغلوب دائما مولعاً بالغالب. ألسنا أمام هزيمة المعرفة نخوض معارك الأذهان قبل معارك الأوطان؟
لا يخرج عبد الرحمان من غرفته إلا للأكل أو لبيت الخلاء.. أين يخرج ؟ وأين يسير في متاهات الأحداث؟. المقرر الذي تعلمه لا ينفعه لخوض تجارب المجتمع، فمادة الحياة لم تدرس ولم يسبق لها أن درست.. هذه المادة قبل أن تكون دروساً نظرية قد حققتها الاستنتاجات التطبيقية هي بالدرجة الأولى فن العيش ومهارة الفوز وقضية التأقلم..
مادة لا يتعلمها التلاميذ ولا يعلمها الأساتذة.
لتتعلمها عليك بمدرسة الشارع وسباق أرغفة الخبز. كم هو مفجع أن يعجز خريج جامعة من خط أول سطر في امتحان الحياة.. خسارة صارخة أن تمد الورقة فارغة بلا أجوبة. قمة الفظاعة أن تتمنى إعفاء اجتياز مادة الحياة فلا تعفى إلا بسنة بيضاء يطبعها الفناء.
يشعر بالغيرة من أصدقاء الطفولة وزملاء حومته بدرب امباصوا. منهم من هاجر إلى أوروبا حيث يعيش حياته الكريمة كأي إنسان، ومنهم من دخل غمار التجارة فغدا تاجرا أو رجل أعمال. يأسف لحياته الطويلة العريضة بين الأقسام والمدرجات.. فالتعليم هو المقرر الوحيد الذي يصنع الغباء يمشي على قدميه. فرق واسع بين تعليم يصنع التبلد وبين معرفة واعية تصنع الإنسان.
كان جسده المطروح على سريره غارقاً في حفرة الافتقاد.. في رأسه شعر كثيف ولحية بدأت تطول.. كأنه إنسان بدائي لم يخرج من عيش الكهوف..
خرج عبد الرحمان من سجنه الاختياري يوم صلاة الجمعة لأداء الخطبة، سمع الخطيب يحث الناس على عملية الإحصاء لسنة 2014 في حملة شعارها: « قيمة بلادنا سكانها ».. صبّر نفسه لسخافة الموضوع وخطابة الفقيه وقباحة التسييس. لم يعد يطيق مواعظ الوطنية بالأحرى أن يسمع خطبة دينية موضوعها إحصاء الرؤوس.. وقف من غير تردد ومن حيث لا يشعر ومن دون أن يحس بالإحراج أمام المصلين وهم ينصتون للخطيب.. صلى أربع ركعات خاشعةً وهو يفكر في عدد المغاربة وفي هذا الإحصاء البليد..
نظرات الناس في المسجد متباينة ترمقه باستغراب وباستهجان، يتساءلون في أنفسهم ما بال هذا الأخرق يصلي قبل انتهاء الخطبة.. هل هو مخبول أم مسطول؟ لماذا أصلا جاء للمسجد حتى يخلق البلبلة؟ ويشوش عليهم سماع خطبتهم العصماء في إحصاء الدهماء..
لا يدري المصلون أن هذا الشاب كفر بدين الوطنية من بابه الواسع، وجحد بعقيدة الانتماء.. في قرارة عبد الرحمان الخطيب يلغو، فمن لغى فلا جمعة له.. فلغو الخطيب كأنما لغو للمسلمين. فلا داع لأن يُتِم خُطبته ويضني نفسه كي ينصت لخطبة إشهارية في أمر لا يهم الناس لا في أمور دينهم ولا في أمور دنياهم.
خرج وسط الخطبة، وهو يلبس نعله الهش.. يستمع لآخر كلمات الخطيب تخبو على أعتاب أذنيه: » أيها المسلمون، إن الإحصاء واجب وطني.. وعلى كل الساكنة أن تساهم في العملية الوطنية تقييما لأداء سياسة البلاد، حتى يتسنى لها التدبير العمومي في مجال التنمية، ولما حققته بلادنا من تقدم اقتصادي واجتماعي، كما يشكل الإحصاء أداة ضرورية لإعداد مخططات جديدة.. من أجل ضمان العيش الكريم لكل المواطنين .. ».
ابتسم عبد الرحمان ابتسامة سخرية خافتة.. مردداً آخر عبارة « ضمان العيش الكريم لكل المواطنين ».
Tagui19@hotmail.fr
يتبع
Aucun commentaire