سر الحنين إلى قبائل لحياينة
بونيف محمد
هذا جزء من الأحداث التي ظلت تكبر وتعبر عن نفسها ، وتزداد نضجا معي ، وتزيدني ارتباطا بمسقط رأسي ، رغم أنني غادرته قبل سن التمدرس ، وهي نموذج من الوسط والبيئة الاجتماعية ، والتنشئة والتربية بقبائل لحياينة إقليم تاونات ، في فترة معينة ،وحقيقية أعتز بها وعشتها في طفولتي الأولى قبل سن التمدرس ، نقلتها بأمانة وصدق ولم إضف سوى زخرفة الأسلوب وجزءا من امتدات هذه المرحلة وتأثيرها في بعض مراحل طفولتي ، وهي أيضا تجسد نموذجا للعلاقات المتماسكة داخل الأسرة بقبائل لحياينة وارتباطها بالأرض
وفضلت التعبير عنها بهذا الشكل
سر الحنين إلى قبائل لحياينة
بدأت قصة العصفور عندما أسندتني إلى إحدى ركبتيها كعادتها وحشرت يدها الناعمة بين ملابسي وجلد عنقي وأخذت تداعبني برفق ، أحسست حينها بحنانها يجري في عروقي مجرى الدم وأنا أنظر إلى وجهها الصبوح ، وأحدق في عينيها السوداوتين وبشرتها النظيفة و نابيها المغلفين بالذهب والذين يزيدانها نظارة وبهاء ،
غمرني دفء اللحظة ورقتها الممزوجة بعطر أمي المفضل، ورائحتها ، ومشاعرها الفياضة ، وأحسست بالحنين إلى ثالثة بعيدة عنا ، ضمنا فضاؤها إلى جوفه مند ولادتي وهي « قلعة اولا عبد الكريم اولا بوزيان » : البادية التي حرك هواؤها لأول مرة نسيج رئتي ، وفتحت عيني على مناظرها وبساطتها ، لم يسع إدراكي ولا ذاكرتي الفتية حين تم اجثتاتنا منها لنرحل قسرا إلى مدينة جرادة ، حيت يعمل والدي ، سوى الثلاثي أمي وأنا وهي .
لم أكن أعرف والدي ، أو على الأصح لم يتح لي صغر سني ولا أيام العطلة السنوية القصيرة التي كان يقضيها معنا كما حكت لي أمي ، معرفته .
كانت أمي أقرب وأميل إلي من جميع إخوتي ، وكنت أعرف من أسرار حياتها ما لا يعرفه حتى والدي ، ربما لأنني أول مولود ذكر ، في مجتمع ذكوري ، آنست وحدتها ، وعوضتها عن غياب والدي الذي كان يعمل أجيرا بمفاحم جرادة، المدينة العمالية ، أو ربما لأنني كنت أملك من الرزانة والتجاوب وحسن الإصغاء والقدرة على الاحتفاظ بأسرارها ، على بساطتها ، ما يجعلها تطمئن إلي ويجعل مني أمينا لأسرارها وملاذها الذي تعود إليه كلما أحست بالحاجة إلى من تقاسمه همومها وأحزانها ، وحتى مسراتها القديمة والحديثة .
لم تكن متعلمة ولم تعرف نعمة الكتابة و القراءة ، ولكنها كانت فائقة القدرة على الحفظ والفهم ، وتملك سرعة البديهة وقوة الذاكرة ، مما جعلها تحفظ العديد من الأمثال الشعبية والحكايات والأحاجي المسلية ، التي راجت بقبائل لحياينة ومنها حكاية « عصفور أمي » وكانت تحكي لي عن اختلاف طبائع وعادات وسلوك قبائل لحياينة ، والتي كنت أطرب ولا زلت لسماع أسماء أجزاء منها ، مثل اولاد رحو ، والبرانص ، والقلعة ، والهبارجا ، والقصبة وتيسة …. وغيرها .
عديدة هي سور القرآن التي كانت مدرجة في المقرر الدراسي ، والتي أعجبها سماعها وطلبت مني تكرارها إلى أن حفظتها عن ظهر قلب .
لنعود إلى البداية حين قلت لها ورأسي مسنودا إلى ركبتها « اشتقت إلى القلعة » وردت وابتسامتها المعهودة ترسم على شفتيها التين لم أراهما يوما مصبوغتبن بأي لون سوى لونهما الطبيعي « وكيف لا تشتاق إليها وهي مسقط رأسك ».
ورغم أنني لم أعش في قلعة اولاد عبد الكريم بقبائل لحياينة التي تبعد عن واد أمليل ببعض الكيلومترات، إلا مدة قصيرة ، ولم تكن لي من الذكريات حين غادرناها إلا القليل . بالكاد كنت أستطيع استحضار حياتنا البسيطة أنا وأمي ، كنت أشعر بجاذبية قوية نحوها . و أذكر منزلنا المكون من غرفتين يتيمتين ونوالة (1) وساحة فسيحة غير مغطاة ، وكان بسيطا بساطة الطين والحجر والتبن الذي بني به ، نعم غرفتان ونوالة تقاسمناها مع بقرة وعجل ومجموعة من الدجاج ، ولم يكن لنا من الحراس إلا كلب صغير .
كان الطين جزءا هاما من حياتنا ، صنعت منه أمي مجموعة من الأواني التي لم تسمح أوضاعنا المادية بشرائها ، أو التي فرضتها حياة البادية آنذاك ، مثل : قسرية (2) الخميرة التقليدية ، وقصعة العجين ، وقدرة الطبخ ، والفرن التقليدي ، والبوش(3) . وكان الأغرب بالنسبة لي في الأثاث المنزلي هي الطنة (4)، قد يعود اسمها إلى إلى كونها مصنوعة من طين ، أو إلى شكلها ، وكانت تحفظ فيها الحبوب والقطاني .
ولا يمكن نسيان الرحى التقليدية التي تطحن بواسطتها الحبوب ، من قمح وشعير وذرة، ويقشر بواسطتها الفول وسائر القطاني اليابسة ، والأهم من دورها هذا ، هو الطقوس والعادات والحركات المرافقة للطحن أو السحق ، فالمرأة الماهرة تحرك قطب الرحى بحركات متناسقة ورشيقة ، ثارة باليد اليمنى وثارة أخرى باليسرى ، ومرة في اتجاه عقارب الساعة وأخرى في الاتجاه المعاكس ، ويتم استبدال اليد بسرعة مناسبة لا يتوقف معها دوران الرحى . وللتعويض عن العياء والملل خلال الطحن تردد النساء المستعملات لها أغاني خاصة ، وكانت فرصة ذهبية ونادرة بالنسبة للرجال والشباب لسماع صوت البدويات وهو يرافق هدير الرحى ، حيث كان الغناء في الحالات العادية وبدون سبب عيب .
ولم أكن أستطيع الكف عن الضحك وأنا أنظر إلى وجه أمي يعلوه مسحوق الدقيق وهي تستعمل هذه الآلة المتعبة فتصبح شهباء ، وتصبح خصلات شعرها السوداء المتمردة على الرداء الذي يغطي رأسها مكللة بالشيب. .
بالطبع تتوفر في أمي كل الأمداح التي قيلت في الأم ، فهي نبع الحنان ، والمدرسة التي إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق …………….
وكأن سيدنا سليمان عليه السلام علمه مما علمه الله ، منطق الطير وأسرارها وعهد إليه بالاحتفاظ بالعصفور والحفاظ عليه، وأمنه حارسا على حياته، هكذا روت لي أمي حكاية انسجام فلاح مع طائره ، وهي تسندني إلى إحدى ركبتيها ،
كان الطائر آخر ما يرى وهو ذاهبا إلى غرفة نومه ليلا ، ليخلد إلى الراحة ، ويستريح من عناء التعب اليومي ، فيقترب من قفصه الذهبي ويكلمه وكأنه يروي له حكايات قبل النوم ، وأول ما يرى فجرا أو صباحا عندما يستيقظ ، فيضيف الحب إلى ما تبقى في القفص ، ويغير مياه الخزان ويملأه ، وكان الطائر بالمقابل لا يبخل بالتجاوب والتناغم معه ، يقترب منه وهو يطل عليه ويحرك رأسه الصغير باتجاهه وكأنه يتفحص قسمات وجهه ، ويطلق أصواتا خفيفة وعذبة وكأنه يسر إليه أمرا .
عديدة هي المرات التي أدخل الفلاح فيها يده إلى القفص وأمسكه بلطف ولين وتفحص ريشه الزاهي الألوان ، وأزال منه المنفوش والطائش ، ونفض عنه الشوائب والغبار وأعاده إلى مكانه .
. ما حير الفلاح ، قالت أمي ، هو أن الطائر كان أحيانا يختم غناءه الجميل بنبرة حزينة يردد فيها كلمة بلادي بلادي، بلادي ، وكأنه ينتحب ، وأحيانا يبدأه بها.
سهت والدتي قليلا وكأنها تفكر في القلعة ، وتستعيد ذكرياتها ، وباغثتها أتممي يا أمي ، واسترسلت مبتسمة . .بعد مدة طويلة من الحيرة والتردد بين تحرير الطائر ، وعدم حرمانه من بلده ووطنه ، وبين صعوبة وعسر فراقه ، خشية من أن يصبح يوم الفلاح في غيابه يعد بألف سنة من البؤس والكمد ، واهتدى بعد جهد جهيد إلى فكرة يعرف بها موطن الطائر وبلده الذي يحزن كلما ذكره .
كانت تسكت أمي من حين لآخر وكأنها تعمد إلى تشويقي أو تختبر مدى انتباهي لقصة طائرها .
وذات يوم من أيام فصل الربيع خرج الفلاح ومعه الطائر إلى مكان فسيح ، وربط خيطا رقيقا وخفيفا إلى إحدى رجليه وأمسك بطرفه الثاني ، وصاح به هيا بنا إلى بلادك التي حيرت أمري بذكرها وزدتني شوقا إلى معرفتها ، وفكرت مرات في إخلاء سبيلك حتى لا أحرمك منها .
توقفت أمي هذه المرة وأمرتني قائلة . أطلق العنان لخيالك وأفكارك وتخيل معي كيف هو بلد هذا الطائر الذي لم يغب عن ذهنه طرفة عين ؟
فرحت أصور لها جنات من نخيل وأعناب ، وأنهارا جارية ، وأشجارا باسقة ، وظلال وارفة ، تحج إليها جمع أنواع الطيور والكائنات الحية من كل فج عميق ، فتبسمت من قولي ، وتابعت هذه المرة وهي تنظر إلي .
كان الفلاح وصديقه يسيران نهارا : الطائر في الهواء وهو يطاوعه ويجاريه على الأرض ، وكلما جن الليل دبرا أمر المبيت ، مرة يستجير الفلاح أحدا فيجيره ويبيت الليل عنده ، ومرات يبيتان في العراء .
وكانت المفاجأة كبيرة عندما حلا بصحراء قاحلة ، لا ماء فيها إلا ما يحمله الفلاح من زاد ، ولا وحشا فيها يسير ولا طائرا يطير . هبط الطائر بين الرمال والحجر وشرع يمرغ ريشه الجميل في التراب والرمال الناعمة ،وأخذ نفسا عميقا عميقا وصاح بأعلى صوته » الله تراب بلادي ، الله هواء بلادي ورددها مرات دون ملل .
وقف الفلاح ومزيج من الدهشة والحيرة باد على محياه ولكنه فرح لتقديم فرصة العمر لطائره الجميل .
وختمت والدتي بقولها وطنك هو وطنك وبلدك هو بلدك ، ولو اقتصرت فيه عن أكل التراب وشرب الماء فقط . فأحب بلدك ووطنك .
وقال الشاعر
وطني وإن جار علي عزيز ــــــــــــــــ وأهلي إن بخلوا علي كرام
1 ـ النوالة ـ تطلق على المطبخ البسيط في البادية لا وجه للمقارنة بينه وبين المطبخ العصري للفرق الكبر بينهما ، يستعمل فيه الحطب والفحم الخشبي لدى فسواد جدرانه عادي في البادية ، وأدواته كانت تقليدية .
2 ـ القسرية ـ جرة خاصة تربى فيها الخميرة التفليدية التي تستعمل لتحضير الخبز والحلويات في البادية .
3 ـ البوش إناء معروف مصنوع من طين يحتفظ فيه بالزيت أو مختلف السوائل ، ويستعمل أيضا لنقل الماء ، يختلف حجمه حسب إرادة الصانع .
4 ـ الطنة ـ إناء من طين ضيق من الأسفل والأعلى وعريض من الوسط تخزن فيه الحبوب ، وتستخرج منه بواسطة فتحة موجودة في أسفله تتسع فقط لإدخال اليد ، وتغلق في الغالب بخرقة قماش تكبره ، شكله خشن
Aucun commentaire