عدوى التوريث
ليس صدفة أن يتم تشريع نظام الإرث الذي تعمل به سائر المجموعات البشرية. إنه في الأصل إرادة ربانية استجابت لها كل القوانين الوضعية،وكيفتها مع الخصوصية والتمايز الثقافي. واعتمدتها آلية إلى جانب آليات موازية ،من أجل تفتيت الثروة والحيلولة دون تجميعها في يد واحدة قد تعبث بها دون شفقة.
وإذا كان مفهوم الإرث له من المشروعية القانونية والدينية ومن القبول الإجتماعي ما يجعله متجذرا في كيان الشعوب فكرا وممارسة ، فإن مفهوم التوريث ،الذي انزاحت به نزوات مغرضة عن المفهوم الأصلي للإرث،لن يحمل من الغايات السامية والنبيلة إلا ما يبر سعيه إلى الإستحواذ والتملك المشروع الذي يجيزه القانون،لكن المجتمع يرفضه أساسا من وجهة نظر أخلاقية.
نظام التوريث هذا،تحول مع مرور التجارب الإنسانية وتنامي الطلب على الإمتيازات المادية والرمزية،إلى ظاهرة تتوزع على مجالات مختلفة من حياة الإنسان. وغايتنا في هذا المقال هي الحديث عن مجالين تتجسد فيهما هذه الظاهرة بشكل لا تخطئه العين .يتعلق أحدهما بالسياسة والآخر بالفن.
فالمجال السياسي حافل بوقائع التوريث ،بدءا بأقوى بلد في العالم هي أمريكا بتسجيلها أكثر حالات توريث الحكم ديمقراطية في العالم المعاصر في شخص « العائلة البوشية » . إلى أبشع مظهر للتوريث جسده النظام السوري نموذجا ، ذلك الذي فتح شهية البلدان الأخرى التي تستصغر شأن شعوبها مثل مصر واليمن لسلوك نفس النهج . ولولا يقظة القوى الحية التي حالت دون إتمام السير في هذا المسار المتعسف على إرادة الجماهير.لكان قدر الجميع ابتلاع الإهانة وتسليم الرقاب للوارثين الجدد.
المجال السياسي إذن شهد تجارب محدودة لهذا النمط من التداول على السلطة، تراوحت بين التأييد والقبول الواعي في الحالة الأمريكية، لأن هنالك احترام لقواعد اللعبة وانخراط فعلي في تفاصيل تدبير الحكم. وبين إذعان قسري ناتج عن استبعاد المواطن عن دائرة الفعل السياسي مع إرغامه على القبول بنتائجه في الحالة السورية، وما شاكلها من حالات كان من المنتظر أن تتكرر في أي رقعة من العالم المقهور، لولا أن حل موسم الربيع الديمقراطي الذي عصف بآمال التوريث.
لكن هل يتفق معي القارئ الكريم في التماس الأعذار لهؤلاء السياسيين الطامعين في قيادة الجماهير والتحكم في مصائرها ، أو أولائك المهوسين بحب السلطة وتمكين ذريتهم من الإمساك بناصيتها حتى لا تفلت إلى نطاق التداول العام. إنهم في أسوإ الإحوال سيتخلون عن مهامهم إن هم فشلوا واستجابوا لوخز الضمير، أو سيضطرون إلى ذلك حينما تلفظهم كرها إرادة الجماهير.
لكن في المجال الآخر من مناشط حياة الإنسان وهو المجال الفني، فيبدو أنه من التحيز والمحاباة بمكان اعتبار الفن موضوعا للتوريث،مع أن الواقع يسجل بمرارة حضور هذه الظاهرة المقيتة بين ظهرانينا.
إن الفن موهبة راقية وملكة متأصلة،لا تصنع في المختبر أو تحدث بقرار عائلي،بل تنمى وتصقل بالخبرة والمران،مع افتراض وجود استعدادات أولية وميول لهذا الصنف من الفنون أو ذاك. لهذا فادعاء أن فلان فنان لمجرد أنه ابن فنانة أو فنان أو ينتمي إلى عائلة فنية.ثم يقال أنه دخل إلى الفن من أوسع أبوابه،هو ادعاء باطل يكذبه الواقع وآراء عموم الناس الذين يستنكرون أصواتا اقتحمت آذانهم ،غصبا عنهم،وبإصرار من الجوقة الإعلامية المساندة.
رجاء لكل الفنانين الذين ميزتهم،عن جدارة،أعمالهم الفنية، أن يوجهوا أحفادهم إلى مجالات أخرى غير الفن . فبدون شك أنهم سيبدعون فيها أيما إبداع،عوض أن يختبئوا وراء هالات آبائهم أو أمهاتهم. فعلى سعد لمجرد مثلا أن يطرق باب الأعمال والمقاولة،فقد يذهب بعيدا ويكسب شهرة تغنيه عن الظهور الإعلامي المزيف الذي يخصص له حاليا. وعلى محسن البدوي أن يوظف نرفزته الزائدة، التي يظهر بها في بعض أعماله الدرامية، في ولوج أحد المعاهد التي تؤهل للمهام الأمنية. وعلى عبد العالي الغاوي أن يتخير بين التتفرغ لتدبير ثروته أو تنشيط الحفلات الباذخة للبرجوازية المغربية. فقد عجبت من أحد الفنانين المدعوين يقول ذات سهرة تلفزية أن عبد العالي الغاوي دخل الفن من أوسع أبوابه.
نريد في خاتمة هذا البوح التلقائي أن نقول باختصار أننا بحاجة إل استحضار ما قاله عمر بن عبد العزيز(رضي الله عنه):رحم اللهعبدا عرف قدر نفسه. فتقدير النفس حق قدرها دون نزوع إلى البهرجة أو ميل إلى التحقير والإسفاف، يتيح إمكانية التمييز بين المجالات التي تمنح أكبر فرص للنجاح والبروز. أما سوء تقديرها فمن شأنه الزج بالفرد في اختيارات مكلفة وغير محسوبة، ليس أدناها فقدان ثقة الجمهور أو ببساطة، تجاهل ما قد بُقصف به من أعمال فنية موسومة في مجملها بفقدان الأصالة.
محمد اقباش
Aucun commentaire