آثار سلوك الدعاة السلبي على جمهورهم
آثار سلوك الدعاة السلبي على جمهورهم
محمد شركي
الأصل في الذين ندبوا أنفسهم للدعوة إلى الله عز وجل أن يفعلوا ذلك ابتغاء وجهه ومرضاته ، وإلا لا تصح دعوة وراءها غير هذه النية وهذا القصد . وصدق النية والإخلاص في الدعوة لا بد لهما من تأطير الحكمة التي تميز طبيعة الدعوة لقوله تعالى مخاطبا نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم ، ومن خلاله كل الذين يتولون أمر الدعوة إليه : (( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين )) ، فبموجب هذه الآية الكريمة تتحدد طبيعة الدعوة إلى الله عز وجل بدقة متناهية ، ذلك أن الدعوة أولا عبارة عن حكمة . والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم كما يقول الفيلسوف المسلم أبو حامد الغزالي رحمه الله . والدعاة لا بد لهم أولا من المعرفة بشقيها : معرفة بأفضل الأشياء ،ومعرفة بأفضل العلوم التي تفضي إليها . ولما كان أفضل ما في الوجود هو معرفة الله تعالى ، فلا بد من أفضل العلوم لمعرفته، وهي كتابه عز وجل ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، إلى جانب معرفة كل علم يتصل بهما بطريقة مباشرة أو غير مباشرة . والدعوة بعد ذلك عبارة عن موعظة ، والموعظة عبارة عن نصح، أي تذكير بما يحمل على إصلاح السيرة ، ويشترط فيه أن يكون خالصا مما يشوبه من قصد أو نية لا تحقق الإصلاح . ووسيلة الوعظ الموعظة ، وهي كلام الوعاظ . ويشترط في الموعظة الحسن ، وهو الجمال ، والجمال من الكمال، أي يكون كلام الوعاظ كاملا مشتملا على ما ينبغي ليكون حسنا . والدعوة بعد ذلك جدال ، وهي مهارة في الخصومة تقوم على الإقناع والإفحام. والخصومة لا تعني العداوة ، وإنما تعني الرأي المخالف، أو الاختلاف . ويشترط في الجدال أيضا الحسن ، وحسنه هو حسن الحجة والبرهان، لأن بهما يحصل الإفحام . فالله تعالى حدد بدقة متناهية مواصفات الدعاة إليه ، فهم أهل علم بأفضل الأشياء ، وأفضل الأشياء ما جاء في كتاب الله عز وجل ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . وهم أهل أفضل علم به تعرف أفضل الأشياء ، وهو كتاب الله عز وجل ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وما يتطلبانه من علوم مختلفة . وهذا الشرط ليس بالأمر السهل أو الهين ، وما كل الدعاة يتحقق لهم هذا الشرط ، وإنما تختلف أنصبتهم منه حسب تحصيلهم لأن العلم بالتعلم كما جاء في الأثر .
والدعاة وعاظ أي أهل نصح ، وهو ما يتطلب المواعظ أي الكلام الذي به يتحقق الوعظ، وأساسه التذكير بما يحمل على إصلاح السير . ولا يقدر على النصح إلا منتصح يبدأ بإصلاح سريته ليكون وعظ مقاله منسجما مع وعظ حاله ، والناس يحرصون على مقارنة مواعظ الوعاظ بأحوالهم ، فإن تطابقت أثرت فيهم ، وإن تنافرت نفروا منها . والدعاة أصحاب جدال أي مهرة بمحاورة خصومهم ، ويقوم جدالهم على التي هي أحسن ، وما تلك سوى الحجج الدامغة ، والبراهين المقنعة . فإذا ما استحضرنا هذه الشروط الواجبة في الدعاة عرفنا أن الدعاة بالمعنى الدقيق عبارة عن عملة صعبة ، ونادرة خصوصا في زماننا هذا .ومشكلة الدعوة إلى الله في عصرنا أن معظم الدعاة دون شروط الدعوة كما حددها القرآن الكريم حيث يسجل التضارب الواضح بين مواعظهم أي بين الكلام الذي ينصحون به الناس ، وبين أحوالهم . وآفة بعضهم أنهم منشغلون بإطراء الناس على مواعظهم في الوقت الذي يغفلون فيه عن أحوالهم المناقضة لمواعظهم . فما معنى أن ينصح الواعظ مثلا من يعظهم بإصلاح سيرتهم في الطعام على سبيل الذكر لا الحصر من خلال تذكيرهم بأدب الطعام كما جاء في سيرة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم حيث يكون الأكل مما يلي الآكل ، مع تصغير اللقمة ، والاكتفاء باللقيمات المقيمة للصلب … إلى غير ذلك من التوجيهات النبوية ، في حين يكون حاله في الأكل مخالفا تماما لمقاله حيث يأكل بشراهة ونهم وإفراط وإسراف ، ويبالغ في طلب أنواع الأكل ، فلا يكتفي بما يقدم له ، بل يطالب بغيره من الأطعمة راكبا أسلوب المزاح للتمويه على نهمه وشراهته ؟ وما معنى أن ينصح الداعية أو الواعظ الناس بنصيحة لقمان لابنه في خفض الصوت ما دام أنكر الأصوات صوت الحمير ،وهو يزعق بشكل منكر ؟ فمشكل مثل هذا الداعية أو الواعظ أنه لا ينتبه إلى تناقض مقاله مع واقع حاله .
والمصيبة أن يتأثر الناس بحاله أكثر من تأثرهم بمقاله ، فيأكلون على طريقته ، ويرفعون أصواتهم على طريقته ، ويقتدون بكل أحواله بما فيها المخالفة لسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويكون قد أساء من حيث لا يدري إلى نفسه أولا ، وإلى من يقدم لهم النصح الذي يناقض مقاله حاله . ويمكن بسهولة معرفة آثار سلوك الدعاة والوعاظ في من يحتك بهم من الناس، حيث تعكس أحوال المحتكين بهم أحوالهم مع ترديد أقوالهم . فمن الدعاة المندفع العاطفي ، ومنهم المتزن المتعقل ، والمحتكون بهؤلاء أو هؤلاء يقتبسون عنهم إما اندفاعهم العاطفي ، أو اتزانهم وتعقلهم . فبعض الدعاة المندفعين عاطفيا لا يكادون يعبرون عن لقطة عاطفية حتى يسبقهم جمهورهم إلى الصياح العاطفي المحموم ،لأنهم يجارون دعاتهم المندفعين عاطفيا . وبعض الدعاة المتعقلين المتزنين ينعكس تعقلهم واتزانهم على جمهورهم ، فيزنون الأمور بميزان العقل ، ويغلبون العقل على العاطفة المندفعة . والله تعالى ركز على الحسن في المواعظ وفي الجدال . ولا يكون الحسن فيهما إلا بالاتزان ، وهو توفيق بين العقل والعاطفة . وكمثال على الاتزان أذكر حالتين عاينتهما ، وتتعلقان بإسلام بعض غير المسلمين بين يدي داعيتين ، فبينما اختار الداعية الأول العزف على أوتار عاطفة الحاضرين ، فضجوا لسماع نطق الشهادتين ممن أعلن إسلامه بالتكبير المبالغ فيه مع الاجهاش بالبكاء في لقطات عاطفية مؤثرة ، اختار الداعية الثاني طريقة الاتزان والتعقل فمر إعلان إسلام من أعلن إسلامه بهدوء وتعقل . وكانت الطريقة الأولى العاطفية توحي بمركب نقص لدى الحاضرين ، وكأن الإسلام كان في حاجة ماسة إلى آخر من التحق به ، علما بأن ملايين المسلمين يعطلون شهادتهم بترك الواجبات الدينية دون أن يكون ذلك سببا في اندلاع العواطف الجياشة الشبيهة بالعاطفة المندلعة بسبب إسلام الأجانب .
ويبدو واضحا من المشهد العاطفي المبالغ فيه، وكأن الناس يعانون من غبن في دينهم ، وأن إسلام الأجانب يرفع عنهم هذا الغبن . وقياسا على هذا المشهد العاطفي المبالغ فيه يسير بعض الدعاة في دعوتهم بحيث لا يستطيعون وعظ الناس دون حقنهم بالتأثير العاطفي الزائد عن الحد . والمشكل أن التأثير العاطفي المبالغ فيه يجعل من يخضع له فاقدا للسيطرة على تصرفاته ، وغالبا ما يسيء من حيث لا يشعر ، وهو تحت تأثير العاطفة الجياشة . وهذا النوع من التربية يعطينا مجموعة من الناس يقودهم اندفاعهم العاطفي فقط ، ويفتقرون إلى أدنى حد من التعقل والاتزان ، فيعيشون على أوهام وأخيلة ، حتى يستفيقون في يوم من الأيام على واقع يكشف لهم حقيقة وقوعهم ضحايا الانسياق العاطفي المبالغ فيه بدافع التدين المغشوش ليس بسبب نوايا أصحابه،بل بسبب سذاجتهم ، وتعطيلهم لعقولهم مقابل الخضوع للعواطف
. ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ربى أصحابه على الاتزان ، والتوازن بين العاطفة والعقل من أجل تأهيلهم لخوض غمار الحياة بنجاح كما أراد لها خالقها سبحانه وتعالى . فيا ليت الدعاة الذين دأبوا على الاندفاع العاطفي المبالغ فيه في دعواتهم يعودون إلى سيرة سيد المرسلين للنهل منها ، وتمكين جمهورهم منها بعيدا عن المزايدات العاطفية ، وعن تكلف العاطفة الجياشة التي تصير مثل المخدر الذي إذا ما أعوز أصحابه تحولوا إلى وحوش كاسرة تدين وتكفر ، وتجرم ، أو تحولوا إلى عكس ما أراد من رباهم على هذه العاطفة المبالغ فيها ،أو انتكسوا انتكاسات وخيمة العواقب . وأخيرا أكرر بأن الدعوة قد ضبطها الله عز وجل بضوابطه ، فمن أحدث فيها شيئا فهو رد عليه، وسقط في يديه .
Aucun commentaire