في مَديح ماكرُون للمَملكة المغربية الشريفة…!!
قلم: إدريس الواغيش
حين يتعلق الأمر بحُبّ الوطن، نتسلح بما نملك من وطنية، ويكون لزامًا علينا أن نتتبّع ما يجري في هذا البلد الحبيب، ونُحلل بما نملك من أدوات ومفاهيم، بعيدًا عن الأحكام القطعيّة الثابتة، وفق معرفتنا البسيطة بحاضر وماضي العلاقات المغربية الفرنسية، في ظاهر تقاطعاتها وتجاذباتها على الأقل، وأيضًا من باب المحبّة الكبيرة، وفق ما نملكه من صدق في حُبّ هذا الوطن.
المغاربة العاديون يفهمون ويعرفون فرنسا جيّدًا بماضيها وحاضرها، فما بالك بمن هم في مركز القرار، والفرنسيون يعرفوننا بدورهم جيّدا، كما نعرفهم، فقد دوَّن المُبشرون والطوبوغرافيون الفرنسيون في الأرشيف الفرنسي الكولونيالي، ما قد لا نعرفه نحن كمغاربة عن حدودنا التاريخية الحقّة، ومعلومات عن بعض قبائلنا وعادات أقاليمنا المغربية. ولكن يبقى مشكل الفرنسيين أنهم لا يريدون فهمنا، ولا التخلي عن الغطرسة الاستعمارية القديمة، وقد جرّبت الفرنسيين بدوري فُرادى في أحاديثي مع الكثيرين منهم. وسبق للحسن الثاني، رحمه الله تعالى، أن قال للفرنسيين ذات يوم: “أنتم من يجب أن يعرفنا، لأننا نعرف عنكم كل شيء“. وهنا، من حقنا كمواطنين مغاربة أن نتساءل: هل عرفتنا فرنسا هذه المرة، وفهمتنا حقيقة، هي التي دائمًا ما كانت شاردة عن فهمنا، وإلا كان قد حصل كل ما شاهدناه من تفاهم على أعلى المستويات في الرباط منذ زمن قديم. وقد نتساءل مرة أخرى، ولكن ببراءة: هل هذا الفهم والتفاهم حصل حقيقة، وجاءت معه هذه “الشراكة الاستثنائية“ التي أعلن عنها ماكرون في خطابه، وتحت قبّة البرلمان المغربي؟ أم أنّ الأمر لا يغدو أن يكون جبر خواطر شريك مغربي، لا يمكن لفرنسا الاستغناء عنه أبدا، وأن هذا الاعتراف الاضطراري بمغربية الصحراء جاء لقضاء منافع اقتصادية عابرة، كما أشياء أخرى؟
الأكيد أن شراكة استثنائية بين دولتين لهما تاريخ عريق وعمق حضاري، لم تأت من فراغ، ولكن نتيجة فهم فرنسا للمغرب، وتسليمها بالأمر الواقع أخيرًا، بعد أن اقتنعت الدولة العميقة في فرنسا أن التعنّت مع المغرب لا فائدة منه، وأن منطق “رابح- رابح“ الذي نادى به المغرب، ويعمل به مع أصدقائه وشركائه من الدول الإفريقية وغيرها، لا مَحيد عنه، وهو الذي يجب أن تعمل به فرنسا نفسها مع المغرب، وبالتالي يبقى هو الحل الوحيد الذي لم تُجرّبه فرنسا بعدُ مع المغرب. وها هي تفعل أخيرًا، وربما هذه المرة بشكل أكثر تأثيرًا ومصداقية من غيرها، لأنها هي أصلا من صنع هذا المشكل كدولة استعمارية سابقة في المنطقة، بعد كل مناوراتها، الظاهر منها والخفي.
لا نُنكر أن سياسة فرنسا وديبلوماسيتها أكسبتها شهرة عالمية منذ الحرب العالمية الأولى، وما قبلها، بصفتها دولة استعمارية سابقة بماضيها، وهي اليوم دولة قوية بحاضرها. وفوق ذلك، هي عضوٌ دائمٌ في مجلس الأمن الدولي، وتمتلك حق الفيتو. المغرب بدوره نوّع من حُلفائه وشراكاته الاقتصادية، وعرَف في السنوات الأخيرة نمُوًّا اقتصاديا وصناعيا لا بأس به، وطوّر من خبراته في شتى المجالات، وعرف تطوّرًا مهمًّا في بنياته التحتية، واكتسب صداقات دول قوية اقتصاديا وماليا وصناعيا في الشرق والغرب، وعُرف بدهاء وقوّة ديبلوماسيته التي لا تنقطع عن الاشتغال يمينا ويسارًا، شمالا وجنوبا، وأصبحت قوية أكثر منذ تولي ناصر بوريطة زمام وزارة الخارجية، يُسانده الرجل الوطنيّ عمر هلال الذي غالبا ما يُربك حسابات خصوم وحدتنا الترابية في الأمم المتحدة، وجنود خفاء آخرين يعملون في صمت، قد لا نعرف أسماء بعضهم، كل ذلك طبعا بتوجيهات عليا من جلالة الملك محمد السادس. ولذلك، فإن هذا الاعتراف الفرنسي الرسمي بمغربية الصحراء، وفي مؤسسة عمومية مغربية لها رمزيتها، بعدَ مُمانعة فرنسية طويلة، لم يأت صدفة، ولا هو صدقة جارية من فرنسا، لأنه في العلاقات الدولية، لا مكان للصداقات والهبات أو حتى المجاملات.
المغرب كان دائمًا ذكيًّا في تعامله مع فرنسا، وبالتالي بقيت العلاقات التجارية مع الشركات الفرنسية قائمة، بالرغم من الضغوطات الاقتصادية التي مارسها المغرب، ولكن كانت تتمّ بإتقان. وظلت أغلب المُعاملات التجارية تسير بسلاسة بين البلدين، ولم ينزلق المغرب إلى عداوة واضحة مع فرنسا، وهي شريكه الرئيسي في أوروبا، بالرغم من كل ما شاهدناه من توتر في العلاقات بين البلدين خلال السنوات الأخيرة. وفي كل ذلك، أظهر المغرب عن حكمة بالغة، وهذا ليس غريبًا عن طباع المغاربة، أليسوا هم من يقولون من ضمن أمثالهم الشعبية: “العداوة ثابتة، والصواب يكون“.
تعامل المغرب مع فرنسا باستراتيجية ودهاء كبير، وهو يرى بأمّ العين تراجعها الاقتصادي والسياسي على المستويين الإفريقي والدولي، وكان في كل مرّة يكسب أيّ هفوة تقع فيها، ويضم إليه كل قطعة نفوذ تفقدها، ويحتضن كل حليف يضيع منها، وخصوصا في دول الساحل والصحراء. هذه الديبلوماسية الحكيمة والعقل المُدبّر والدّهاء، لم يكن وليد اليوم، فقد عُرف سلاطين المغرب بدهائهم منذ القِدَم، كما عُرف به الإنسان المغربي عمومًا مع آبائنا وأجدادنا. هذه العوامل مُجتمعة إضافة إلى عوامل أخرى، مثل: الضغوطات الديبلوماسية، الاقتصادية وغيرها، جعلت الدولة العميقة في فرنسا تقتنع أخيرا، وترفع الراية البيضاء في مُعاكسة المغرب في وحدته الترابية. وقد جرّبت فرنسا كل السُّبل للوُصول إلى أسواق إفريقيا، في دول: مالي، النيجر، التشاد، بوركينا فاسو، السينغال وغيرها. وكان آخر هذه الطرق، هي الوصول إلى إفريقيا عبر صحراء الجزائر، والاستغناء عن طريق صحراء المغرب، ولكنها فشلت فشلا ذريعًا. ثم عادت من جديد إلى قناعة كانت تتفاداها قدر الإمكان، وفي الأخير اعترفت عبر أعلى هرم يمثل الدولة العميقة في فرنسا، ويمثل السلطة فيها. جاء ماكرون بنفسه في زيارة رسمية، واستقبل استقبالا شعبيا ورسميا، بشكل أظهر الوجه الحقيقي والحضاري للمغرب، وفعلها من قلب البرلمان المغربي أمام نوابه، مُعترفا بمغربية الصحراء، جهرًا لا سرًّا.
وسمعنا منه ما لم نسمعه من الرؤساء الفرنسيين السابقين غيره، من قبيل: الثناء والمديح في حق المغرب والمغاربة، التاريخ المشترك، تضحيات الجنود المغاربة “الكوم“ ومُشاركتهم في تحرير أجزاء من فرنسا، ومديح في تاريخ مملكتنا المغربية الشريفة، حتى كرة القدم لم تفلت من خطابه. وهو خطاب تاريخي واستثنائي، ألقاه من داخل البرلمان المغربي. كان خطاب ماكرون مدروسًا بعناية، وموزونا بميزان، كل كلمة فاه بها، كل جملة نطق بها، تحمل بين طيّاتها عدة معاني ودلالات. حتى أن الخطاب نفسه، ألقاه تحت قبّة البرلمان المغربي، وكانت له أيضًا دلالات عميقة، معاني ورمزية خاصة.
عود على بدء، ما قاله جلالة الملك محمد السادس في خطابه الأخير تحت ذات القبّة، كان يحمل بين طيّاته حقيقة واحدة، وهي أن وحدتنا الترابية مرتبطة بدولة فرنسا، ولا علاقة لها مع دولة الجزائر، وهو الأمر الذي اقتنعنا به حينها كمواطنين، وعرفنا من خلال ما نملكه من حقائق بسيطة، أن الجزائر لا تغدو أن تكون دولة وظيفية في هذا الملف، وإن كان الطمع في منفذ إلى زُرقة المحيط الأطلسي قد أعمى عيونهم، وتسلل في وقت من الأوقات إلى عقول جنرالات المرادية، بعد خُسران المليارات من الدولارات وخمسين سنة من التنمية، وهو ذات المُخطط الذي سبق لفرنسا أن رسمته حين كانت مُستعمِرة في مقاطعتها الجزائرية بالجزائر، وحامية هنا، كما كانت تدّعي، بالمَملكة المغربية.
تركيز الرئيس الفرنسي على التاريخ المغربي العظيم وتمجيده، لم يكن عبثا ولا إطراء منه، لأنه يعلم علم اليقين، بما بين يديه من وثائق تاريخية، أن المملكة المغربية كانت فعلا امبراطورية عظيمة، استطاعت أن تجمع في وقت من الأوقات بين ثقافتي ضفتي المتوسط: الإفريقية في المغرب والأوروبية في الأندلس، وهو ما يعني حتمًا أنها كانت تجمع بين قارّتي إفريقيا وأوروبا. اعترف ماكرون أن عوامل متعدّدة وكثيرة تجمع بين المغرب وفرنسا، وقد ركز عليها الرئيس الفرنسي في خطابه: الثقة، التاريخ، الهوية، الرجال، الامبراطورية، العراقة، الحداثة…إلخ. فرنسا بدورها، قبل أن تصبح جمهورية، كانت امبراطورية عظيمة، وإن كانت المَملكة المغربية سبقتها إلى ذلك، وهي من أقدم المَمالك في العالم. امتدّ نفوذها خلال فترة حُكم المُوَحّدين والمُرابطين إلى الأندلس شمالا، ليبيا شرقا والسينغال جنوبًا، وهو ما تقوله الجغرافيا ويشهد عليه التاريخ.
الرئيس ماكرون استحضر فترة زمنية، لم تكن سهلة أبدًا على البلدين معًا، في مدّها وجزرها، سواء في عهد الرّاحلين السلطان محمد الخامس والرئيس ديغول أو في زمننا الحاضر، وما شهدته العلاقات الفرنسية- المغربية من توتر في السنوات الأخيرة على الأقل. فرنسا كانت دائمًا بوّابة المغرب في الشمال إلى أسواق الاتحاد الأوروبي، كما أن المغرب بدوره كان قديما وحديثا بوابة إفريقيا لكل دول أوروبا، سواء من خلال الزوايا ومشايخها أو زعماء القبائل، وكلهم كانوا يدينون بالولاء إلى سلاطين المغرب. ماكرون دعا إلى تجاوز هذه الأمور الإنسانية والتفكير في الطموحات الأكبر مستقبلا، وجاء خطابه هذه المرة مُعترفًا على غير العادة، ولأول مرة، بمنطق “المُشارَكة“ وأيضًا “التّشارُكية“، وهو منطق مُغاير عمّا عهدناه في سياسة فرنسا الإفريقية.
قبل أسابيع قليلة، كنت بمدينة العيون في الصحراء المغربية، ورأيت تقدما ملحوظا في المدينة، مُقارنة بصُوَر العيون القديمة، كما رأيت بأمّ العين المباني القديمة في بعض الأحياء، وحاولت مقارنتها بالمباني الجديدة، فوجدت أن لا قياس مع وجود الفارق. استمعت كذلك إلى الناس في السّاحات، الحدائق، الفنادق، المتاجر، المطاعم ووسائل النقل، ووجدت فعلا بأن « المغرب في صحرائه والصحراء في مغربها ». ودخلت إلى خرائط العَمّ غوغل، وجدت خريطة المغرب كاملة مكمولة، لا تنقصها صحراؤها. ولكن مع ذلك، يمكنني القول بأن اعتراف فرنسا بمغربية الصحراء سيُغير الكثير من الأشياء في المعادلة، وله قيمة مُضافة أخرى، وأن المغرب قد ربح كثيرا بهذا الاعتراف: نصرٌ ديبلوماسي، صوتٌ دائمٌ في مجلس الأمن، شراكة اقتصادية مع فرنسا بصفتها تشكل سابع اقتصاد عالمي (وفق آخر تصنيف دولي)، استثمارات فرنسية مهمة سترافق هذا الاعتراف، وستُضخّ أموال ورساميل في أقاليمنا الجنوبية، وغيرها من الأرباح الأخرى.
فرنسا من جهتها، واثقة من وفاء المغرب والتزامه بعُهوده، وتعرف أكثر من غيرها الأرباح التي ستجنيها من وراء هذا الاعتراف، بل كانت ضامنة لها، قبل أن يمتطي إيمانويل ماكرون طائرته الرئاسية في المطار بباريس، وأكبر الأرباح هو عودة فرنسا إلى دول الساحل والصحراء من البوّابة المغربية. وهكذا يكون مبدأgagnant-gagnant أو (رابح- رابح) في هذه الزيارة ثابتا ميدانيا وعلى الأرض، لا غالب فيه ولا مغلوب لأي طرف، بل الكل فيه رابح. وذلك من خلال التوقيع على اتفاقية شراكة وطيدة واستثنائية وتاريخية بين المغرب وفرنسا، وإبرام اثنان وعشرون اتفاقية استثمار في كثير من المجالات الاقتصادية والتنموية، تستفيد منها الدولتان معًا على السواء.
Aucun commentaire