نحو مقاربة سوسيولوجية لثقافة الغش المدرسي بهوامش المدن
بقلم هشام البوجدراوي
يعتبر الغش من الظواهر التي قلما يخلو منها مجتمع من المجتمعات. وهو من أبرز المشاكل التي يعاني منها المجتمع المدرسي، وأكثرها تأثيرا على سلوك التلميذات والتلاميذ بالمؤسسات وخارجها. وقد استأثر باهتمام الباحثين التربويين والمختصين بعلم الاجتماع. وازداد الاهتمام به عندما أصبحت الظاهرة تمس الشريحة المثقفة من المجتمع التي يفترض بها أن تكون لها قيم ومعتقدات ومواقف تتوافق مع المعايير الاجتماعية التي يضعها المجتمع ويتعارف عليها الأفراد.
وقد تعالت أصوات المهتمين والمربين والأساتذة، منددين بحالات الغش ووضعياته التي أصبحت تعرفها الامتحانات المدرسية، في وقت أصبح فيه النظام التربوي عاجزا عن معالجة الظاهرة، واحتواء آثارها، مما ساهم في ظهور اختلالات على مستوى مخرجات المنظومة التربوية.
ولاشك أن الجميع يتفق على أن الغش سلوك لا تربوي، مشين، ينم عن شخصية غير أمينة، وغير سوية، لا تخضع للمعايير الاجتماعية والدينية والوطنية، تتصف بالعجز، السلبية، التواكل، وضعف الثقة بالنفس.
وقد جرمه القانون المغربي بإصداره للقانون رقم 02.13 المتعلق بزجر الغش في الامتحانات المدرسية، والذي يتضمن بالإضافة إلى العقوبات التأديبية ( التوقيف المؤقت مدة سنة أو سنتين)، عقوبات جنائية تتراوح بين الحبس من ستة أشهر إلى 5 سنوات وغرامة تتراوح بين 5000 و100.000 درهم، والتي تسري على حالات التزوير وانتحال الصفة، وكذا على حالات تسريب مواضيع الامتحانات المدرسية.
وعلى الرغم من خطورة ظاهرة الغش بالامتحانات، إلا أنها لم تحظ بالاهتمام الكافي من مكونات المجتمع المدرسي، والأحزاب السياسية والمجالس المنتخبة…، إذ يؤدي العجز عن معالجة الظاهرة وكذا التهاون في اجتثاث منابعها، إلى عدم الدقة في تقدير وتأويل نتائج التحصيل الدراسي، وضعف مخرجات المنظومة التربوية، وفقد الثقة في مصداقية الشهادة المدرسية.
وتؤكد الدراسات السوسيولوجية، على أن تبني الغش كسلوك بالامتحانات، يرتبط أساسا بعوامل التنشئة الأسرية والاجتماعية، وكذا بالعوامل الاقتصادية والسياسية. كما يرتبط أيضا ببيئة محلية حاضنة توفر المناخ المناسب، لبروز ونماء ثقافة مدرسية تتجه نحو التطبيع مع الظاهرة. فالطفل الذي تعود على الغش منذ صغره وعايش شخصيات من المجتمع تمارسه في مجالات مختلفة (من خرق لقانون السير إلى أسمى قانون في البلاد) وتعتبره سلوكا مقبولا في سياقات مختلفة، غالبا ما سيلجأ إليه كلما دعت الضرورة لذلك. فالإقبال المتزايد على سلوك الغش المدرسي، يرتبط باستبطان مسبق لثقافة عايشناها من قبل، ونتفاوض معها بأشكال متعددة. قد يحقق الانسان ترقيا علميا أو مهنيا أو اجتماعيا ولكن رغم ذلك تبقى تجليات هاته الثقافة حاضرة في سلوكاته (لجوء الفئة المثقفة من الموظفين وطلبة المعاهد العليا للغش أثناء اجتياز المباريات والامتحانات المهنية، التحايل على القانون، التهرب الضريبي، الغياب غير المبرر، الغش في ساعات العمل، العمل بدون ترخيص…). فحينما نرغب في تلبية رغبات ودوافع شخصية قد نقبل بالغش وبالغشاشين، لكن حينما يستوجب الأمر محاربته داخل المؤسسات فإننا نرفضه ونحارب كل من يلجأ إليه.
ويعتبر الغش بنية ثقافية تحيل على نوع من الممارسات ونوع من المواقف، التي تتجدر وتنتقل من جيل لآخر. وتنبني على الشعور بالتهميش واللاعدالة الاجتماعية وبالوعي بثقافة إعادة الإنتاج وفقدان الثقة في النماذج الاجتماعية وبالصراع من أجل النجاح.
فثقافة الغش المدرسي ليست بالضرورة نتاج لنواحي العجز الذاتي (تعثر دراسي، كسل، عدم التهييء للامتحانات…) ولكنها في أحيان كثيرة، نتيجة لرواسب اجتماعية، لواقع اجتماعي تعيشه ساكنة هوامش المدن. فالغش لا يتشكل مرة واحدة، بل يتطور تدريجيا ويخضع لمبدأ المحاولة والخطأ، ومبدأ التعزيز، وإلى خبرات واتجاهات الفرد واستعداداته النفسية، وإلى أساليب التنشئة الاجتماعية، ليصبح عادة تتكرر في مواقف متعددة، ثم يعمم في معظم مجالات الحياة. فالأطفال يعتقدون، منذ التحاقهم بالمدارس، أنه لا جدوى من التعب والكد ومقاومة الفقر بالعلم والتعليم، ما دام أغلب خريجي المدارس الثانوية عاطلون عن العمل، وأن النماذج الاجتماعية الناجحة الآن هي التي تسلك الطرق السهلة للنجاح، مثل العمل بالتجارة الالكترونية أو إنتاج مقاطع الفيديو على اليوتوب، لذا يكون الاستسلام للغش الطريق الأسهل في ظل القبول الاجتماعي والأسري للظاهرة، وفي ظل الحقد الاجتماعي الذي يتولد عن اللاعدالة الاجتماعية واللاعدالة التعليمية واللاعدالة المجالية.
وترتبط ظاهرة الغش المدرسي في المجال شبه الحضري بخلل يعتور البناء الاجتماعي، ويعتور أيضا المنظومة التربوية في جميع مكوناتها. فهي تحيل على اختلال في معادلتي اللاعدالة الاجتماعية واللاعدالة التعليمية، فهناك من يستفيد من تعليم جيد ومن ظروف اجتماعية مشجعة ومن سكن لائق ومن استقرار أسري …وهناك من لا يستفيد. ويظهر هذا الإقصاء والحرمان في جوانب متعددة: في السكن غير اللائق في هشاشة البنية المجالية في التعثرات الدراسية العميقة التي يعاني منها تلاميذ هوامش المدن، في عدم الاستفادة من امتيازات برامج التعليم الخصوصي، في عدم القدرة على الاستفادة من توجيه دراسي مناسب، في عدم التحكم في اللغات الأجنبية التي تتطلبها الشعب العلمية، في عدم الاستفادة من الساعات الإضافية، في عدم القدرة على الارتباط بشبكة الانترنيت، في المشاكل النفسية التي تؤدي إلى الانتحار، في العنف، في الإدمان على المخدرات… كل هذا يمكن أن يؤدي إلى تعميق الهوة الاجتماعية، وتغيير ثقافة الطبقات الهشة، التي تتجه نحو التعاطف مع الغاش، نتيجة الاعتقاد بحقه في الاستفادة من تفضيل إيجابي، تعويضا عن الإقصاء الاجتماعي والتعليمي الذي يعاني منه.
وتعد المشكلات الأسرية مؤشرا على وجود بيئة حاضنة لثقافة الغش، فالتفكك الأسري أو فقدان أحد الوالدين أو الصراع بينهما، يجعلهما ينشغلان عن تربية أبنائهما التربية السليمة، وعن تتبع تطورهم الدراسي بالإضافة إلى أن هاته المشاكل تؤدي إلى إصابة الأبناء بالأزمات النفسية التي تنعكس على تحصيلهم الدراسي.
وبسبب الظروف الاجتماعية والاقتصادية لساكنة هوامش المدن (البطالة، اليتم، الفقر والعوز…)، ونتيجة للقيمة التي تحتلها شهادة البكالوريا في تمثل الأسر (مرحلة أساسية في تحقيق المشروع المهني، السبيل للترقي الاجتماعي والخلاص من الفقر)، يسعى الآباء إلى الضغط على أبنائهم وبناتهم من أجل النجاح والتفوق والحصول على معدلات مرتفعة. هذا السلوك يؤدي بالطفل إلى الاتجاه نحو الغش من أجل إرضاء الوالدين رغبة في تغيير واقعه الاجتماعي.
وتعتبر جماعة الأقران وسيطا للتنشئة الاجتماعية، ومصدر تأثير على الأفراد الذين ينتمون إليها. فهي توفر لهم فرصا للتفاعل مع نظرائهم الذين يشتركون معهم في مجموعة من الخصائص. كما توفر لهم فرص تعلم واكتساب السلوكات والمواقف والاتجاهات التي تتبناها جماعة الأصحاب. وقد تؤثر جماعة الرفاق في درجة التطبيع مع سلوك الغش. فبمجرد نجاح أحد الأفراد في تحقيق عمليات الغش المدرسي، يتأثر الآخرون بذلك، ويشجعهم على الإقدام عليه. ويتجاوز هذا التأثير حدوده عندما يتهم التلميذات والتلاميذ النزهاء بالجبن والضعف وعدم التعاون (معقد، خواف، قراي..) وربما يمارس عليهم العنف الرمزي أو الجسدي مما يجبرهم على التماهي مكرهين مع الظاهرة.
وقبل أن نخوض في مقترحات الحل نقدم ثلاث ملاحظات نؤسس من خلالها لما يلي:
تتمسك أسر المناطق الهشة، التي تعيش ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة، بثقافة الغش وتبدي نوعا من الانتصار لها بسبب: الاحتجاج على هدر الزمن المدرسي نتيجة الإضرابات المتكررة وكذا طول مدتها (ثلاث أشهر مقريناش، معنديش باش ندير السوايع،…)، شيوع ثقافة الساعات الإضافية المؤدى عنها، ضعف مستوى مترشحي البكالوريا….
تعتبر مؤسسات التنشئة الاجتماعية (الأسرة، المدرسة، الإعلام) النواة المركزية للإصلاح. فهي حمالة لكل الأعطاب، ومنتجة للصراع الطبقي، وبيئة حاضنة لثقافة الغش.
تتميز اتجاهات وقيم جماعات الرفاق بالارتباط الشديد بشبكات التواصل الاجتماعي، الانهزامية، الإحباط، الاعتماد المفرط على الغير…
ولمقاربة الحل أقترح خمس دعامات أساسية:
الدعامة الأولى: تتمثل في الدعم الاجتماعي لأسر المناطق الهشة. وذلك بتعميم وأجرأة برامج وزارة التضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة، المرتبطة بالسياسات الاجتماعية والأسرية الداعمة لمبدأ الإنصاف، والعدالة الاجتماعية للجميع. والتي تنبني على الدعم الاجتماعي لأسر المناطق الهشة. وتنبني أيضا على مواكبة الأسر ببرامج تكوينية تهتم بالتربية الوالدية والوساطة والإرشاد الأسريين. كما ترتكز على تفعيل منظومة الحماية الاجتماعية واستفادة الأسر الهشة من خدمات: مؤسسات الحضانة، المراكز النهارية للأشخاص المسنين، التمكين الاقتصادي للنساء الأرامل والمطلقات، المواكبة والتكفل بالأشخاص في وضعية إعاقة، وتنشيط عمل منظومة « الأجهزة الترابية المندمجة لحماية الطفولة » و منظومة « خدمات المساعدة الاجتماعية المتنقلة »، و تعميم « الفضاءات متعددة الوظائف » التي تتكفل بالنساء ضحايا العنف.
الدعامة الثانية: تغيير بنية المجال شبه الحضري وتوفير المرافق الضرورية التي يتطلبها العيش الكريم من سكن لائق، مرافق اجتماعية أساسية (دور شباب مفعلة، الحدائق الجذابة، ملاعب القرب، تصميم عمراني يتجه نحو القضاء على السكن العشوائي، التخلص من الأزبال التي تنتشر بالشوارع وبجنبات المؤسسات التعليمية…)
الدعامة الثالثة: العمل على إعادة بناء ثقافة المجتمع التي تؤمن وتنتصر للمجهود والكفاءة والتجربة. بتوظيف الإعلام الهادف، الذي يسعى الى دعم برامج التربية على القيم الاجتماعية، ويسهر على تقديم البرامج التوعوية، التي تقدم النماذج الناجحة من الممتحنين، وسرد تجربتهم ومجهودهم خلال الاعداد للاستحقاق الوطني، بدل تقديم نماذج للغشاشين الذين يتباهون بسرد طرق التضليل والتدليس التي سلكوها خلال تحايلهم على مراقبي الامتحانات.
الدعامة الرابعة: مساهمة مؤسسات التنشئة الاجتماعية « الأسرة، المدرسة، المسجد، الكتاب، الصحافة والإعلام » في التربية على القيم الدينية والوطنية والكونية، وفي تشجيع النشء على قيم الجد والمثابرة والاجتهاد والإخلاص في العمل وتكثيف البرامج والأنشطة التربوية والتثقيفية الهادفة التي تستهدف جميع التلاميذ والتلميذات، وتغيير منهجيات عملها لتتناسب مع الثورة المعلوماتية وتستجيب لمراكز اهتمام الشباب.
الدعامة الخامسة: بناء سياسة تربوية/اقتصادية تسعى إلى دعم المتعلمات والمتعلمين من أجل تجاوز تعثراتهم الدراسية والنفسية، ومصاحبتهم نحو تحقيق مشاريعهم المهنية، في انسجام مع متطلبات واحتياجات سوق الشغل.
بقلم هشام البوجدراوي
Aucun commentaire