« نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني »
الدكتور محمد بينيعش
أستاذ الفكر والحضارة
وجدة ،المغرب
أولا: الطفل بين التخلي الخفي والعلني
إذا كان الطفل قد ضمنت له الشريعة الإسلامية حقوقه في كنف الزواج الشرعي والنسب المضبوط بالفراش وقواعده الرئيسية فإنه قد يطرأ على سلامة هذه النسبة انقطاع و اختلال لا دخل له فيها بإرادته ووعيه ،لأنه في مبدئه لا يعلم من الوجود شيئا بالإدراك والعقل كما ينص عليه القرآن الكريم في قوله تعالى « والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون « .
إذن؛ فهو غير مسئول عن وجوده ولا عن نسبه ،ومن ثم فلا معرة أو ملامة تقع عليه شخصيا حتى يشعر بدونية أو نقص اجتماعي ونفسي إذ »لا تزر وازرة وزر أخرى « »وأن ليس للإنسان إلا ما سعى » و » لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه » .
فلا خطيئة موروثة ولا تحمل لشخص عن الآخر آثامه في الإسلام ،وخاصة في الأحكام وتبعاتها وجزاءاتها…لأن الناس « سواسية كأسنان المشط ».
ومن هنا فالطفل يبقى رغم كل الظروف والطوارئ محل الصيانة والعناية الواجبة له في حضن أهله، كما أنه يعتبر أمانة مفروضة على المجتمع ككل حينما ينقطع نسبه ولم يعرف له أصل قضائيا وأسريا.
وحينئذ يكون الشرع هو الذي يعطي له النسب أصالة ، أي يصبغ عليه صفة الشرعية في بعده الروحي الذي يتحدد فيه موقعه الاجتماعي وحقوقه المادية والمعنوية ،وهذا الاستحقاق يتحدد عندما يعرف « بمجهول النسب » الذي قد يكون بسبب شرعي أو غير شرعي ، وهو ينقسم إلى قسمين :إما أن يكون مجهول النسب الكبير أو مجهول النسب الصغير الذي هو محط دراستنا ،إذ لكليهما يضمن الإسلام النسبة الروحية التي هي أساس النسبة الاجتماعية وحقوقها المادية والمعنوية ،وهذا ما يصطلح عليه الشرع بالأخوة في الدين والموالاة،مصداقا لقول الله تعالى « فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم « و »إنما المؤمنون إخوة « وقول النبي صلى الله عليه وسلم « لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ».
فالذي يهمنا بالدرجة الأولى هنا هو مسألة « الصغير » الذي يعرف حالتين في قطع صلته بنسبه وهما :التخلي الخفي والتنازل العلني ،وبالمقابل قد يعرف استقبالين وهما: الاستقبال الإجباري والاستقبال التطوعي .
إذ التخلي الخفي هو الذي اصطلح عليه الفقه الإسلامي باللقيط،و هو الطفل المنبوذ:واللقيط بمعنى الملقوط .وهذا النبذ الذي قد يتعرض له الطفل لا يخرج في غالب الأحيان عن دائرة الخوف وأسبابه ،وهو له عدة صور كما أنه إما أن يكون خوفا عليه أو منه! .
فالخوف عليه يدخل في إطار غريزة الأبوة والأمومة وحب البقاء بالسهر على حماية الطفل من الأذى المحدق به كما ذكر لنا القرآن الكريم قصة موسى عليه السلام مع الفرعون الذي كان يذبح الأطفال من الذكور من بني إسرائيل ويستحيي إناثهم خوفا من أحدهم الذي سيكون هلاكه على يده وهو موسى عليه السلام فيما توقع له كهنته ،إذ كما يقول الله تعالى عن هذا الصراع بين الحق والباطل منذ الولادة حتى الكهولة والمواجهة الواعية والمدركة ومبرزا نعمته على موسى عليه السلام: »إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له،وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني « ؛ »وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه ،فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني ،إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ،فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ،إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين ،وقالت امرأة فرعون قرة عين لي و لك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون « .
فهذا الإجراء من طرف أم موسى عليه السلام مشروع بل واجب ،لأنه تأسس على وحي ويقين جازم بسلامة المآل رغم ما يبدو ظاهريا من مخاطرة ومجازفة ، إذ الهلاك المحقق كان لو بقي موسى عليه السلام في حضن أمه لأنه مقصد المطاردة المنظمة والمصرة على الوصول إليه،ولهذا غلب الإلقاء في اليم حتى لا يعرف نسب المولود عند الفرعون الذي كان يركز على قتل ذكور بني إسرائيل خصوصا.فحيث أنه لم يعرف نسبه بالتقاطه من اليم كما ذكره القرآن الكريم فإن الدافع إلى قتله كان أقل احتمالا مما لو بقي في حضن أمه .فكان الحال هنا أن الجهل بالنسب وسيلة فعالة للتورية ودرء الخطر المحدق بالشرفاء الذين كثيرا ما كان ينكل بهم الطغاة بسبب نسبهم الشريف وهو ما يؤدي بهم إلى التخفي وتغيير الأسماء والألقاب تورية وحفاظا على النفس والعرض. وهذا مما وردد في التاريخ بصورة مكررة حسب ما كان الشأن في اضطهاد الشرفاء الأدارسة بالمغرب حينما أسقطت دولتهم وطوردوا من طرف أعدائهم …
كما أن الآية فيها دلالة على مسألة التبني الذي عرفته المجتمعات عبر التاريخ وذلك حينما يفتقد البنون في بيت من البيوت ،وذلك عند قول آسية زوجة فرعون »أو نتخذه ولدا ».وهو الشيء الذي سبق في نص آخر وقصة أخرى لنبي آخر وهو سيدنا يوسف عليه السلام كما يقول الله تعالى عن مآله عند التقاطه من البئر « وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا « الآية .
هذا الإجراء يبين نوعا من النزوع الغريزي للتعويض عن فقد البنوة عند العثور على طفل ملتقط لا يعرف نسبه ، وذلك باللجوء إلى التبني الذي كان سائدا قبل الإسلام ثم ألغاه عمليا بواسطة النبي صل الله عليه وسلم لتحديد المحرمية من غيرها في العلاقات الأسرية، و التي أكدت هشاشتها عند التبني قصة زليخا في تعلقها بيوسف عليه السلام حينما ألغت كل الاعتبارات التعويضية بسبب المتطلبات الغريزية وضغوطاتها عند التقارب والاختلاء بغير احتياطات شرعية أو مراقبة …
أما الخوف من الطفل فهو إما أن يكون لسبب مادي محض كالفقر مثلا وإما لسبب سلوكي محظور له بعد معنوي سلبي يعود على النفس والمجتمع معا ،وهو خطيئة الزنا تحديدا .
إذ الفقر يجعل من الطفل لدى البعض خطرا ضاغطا على مستوى القوت وتحصيل المعاش، ومن ثم فقد يكون التخلي عنه إما لما عليه الواقع أو لما هو منه متوقع.
وهاتان الحالتان قد ذكرهما القرآن الكريم بسياقين وهما « و لا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم « و »ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم ».
ثانيا : مصير الطفل بين رهانات الواقع والمتوقع
فالأولى تصور الخوف من الواقع ،والثانية تحدد الخوف من المتوقع ،وكلا الإجراءين غير مشروعين لأنهما مؤديان إلى هلاك الطفل وإهدار وجوده للحفاظ على أصله ،وهذا تناقض وسلوك غير سليم يعبر عن مرض غريزي قد ينتاب أحيانا بعض الآباء و الأمهات ،إذ المفروض أن الحفاظ على استمرارية وجود الأصل لا تتأتى إلا بحماية الفرع،وهو هنا الطفل حتما ،وإلا انقرض الجنس البشري عموما إذا سادت مثل هذه العقليات المنحرفة والأنانيات الأبوية على حساب رعاية وحماية الأطفال…
لكن قد يضطر بعض الآباء نظرا لشظف العيش وضيق الحال أو توقع سوء المآل إلى التسليم المؤقت في أولادهم والتنازل عن تربيتهم ،وهذا كثيرا ما يقع في المجتمعات البشرية عموما ،وأكثر ما يحدث عند وجود فاقة عامة أو سنة،وهو ما يحكيه الكثير من الناس وخاصة بعد الأزمة الاقتصادية العالمية في القرن الماضي أو في مراحل الوباء والحروب المتتالية عبر التاريخ مما هو مدون أو غير مدون …
هذا التنازل قد يكون بسبب الخوف من الفقر لا الخوف من الطفل، إلا أنه يكون طرفا في المعادلة فيصبح التخلي عنه وسيلة لدفع هذا الخوف وتهدئته شكليا ،لكن قد يترتب عليه قلق غريزي فيما بعد وهو معاودة بحث الأصل عن الفرع أو العكس ربما قد يلتقيان أو لا يلتقيان إلى الأبد .
كما أن التسليم في الولد قد يكون بصورة علنية وبتوافق بين الوالدين والشخص أو المؤسسة المسلم إليها الطفل ،وقد يكون بشكل سري على نمط اللقيط المنبوذ إما في أماكن عمومية أو خلوات وفلوات وما إلى ذلك .
إذ الإجراء الثاني قد يكون غير مقبول شرعا لأنه قد يعرض الطفل إلى خسارتين جد محتملتين وهما :إهدار حياته وذلك حينما لا يجد من يلتقطه مع عجزه عن طلب قوته ،أو يقع في أيد غير أمينة ومتاجرة في الأطفال وأعضائهم مما أصبح آفة العصر وصورة الانحدار البشري نحو الظلامية المادية ،أو يكون فريسة لوحش أو إصابته بأمراض وهلاكه بالأمطار والرياح …إلخ
أما الخسارة الثانية فهي تعريض نسبه وأصله للضياع وبالتالي قطع رحمه وجذوره، مما قد يترتب عنه مشاكل مستقبلية على عكس إرادته من بينها: الزواج بالمحارم من حيث لا يدري سواء كان الطفل ذكرا أم أنثى،وهو ما سنرى حكمه في مثل هذه العقود الاستثنائية و الشاذة أو ما يسمى بالعقود الفاسدة وأثرها على النسب .
فهذا النوع من التخلي الخفي هو السائد في الحالة الثانية كخوف من الطفل وهو السبب السلوكي السلبي والمتمثل في ارتكاب خطيئة الزنا وترتب الحمل عنه مما قد يوقع المرأة في حرج ظاهري لا تستطيع إخفاءه ،وبالتالي قد يجر عليها وعلى أهلها عارا وقذفا وما إلى ذلك مما قد يكسر معنوياتها بسبب هذه الفضيحة التي توجب الحد عليها مجرد حملها ولو بغير إقرار بالزنا ،خاصة إذ كانت خالية من الزوج ،اللهم إلا إذا ادعت وطء بشبهة أو اغتصابا وهذه لها شروط واعتبارات فقهية وقضائية تستدعي التثبت في الدعوى كما يقول ابن رشد:
« وأما اختلافهم في إقامة الحدود بظهور الحمل مع دعوى الاستكراه فإن طائفة أوجبت في الحد على ما ذكره مالك في الموطأ من حديث عمر،وبه قال مالك إلا أن تكون جاءت بأمارة على استكراهها مثل أن تكون بكرا فتأتي وهي تدمي أو تفضح نفسها بأثر الاستكراه،وكذلك المرأة إذا ادعت الزوجية إلا أن تقيم البينة على ذلك ما عدا الطارئة فإن ابن القاسم قال:إذا ادعت الزوجية وكانت طارئة قبل قولها ،وقال أبو حنيفة والشافعي :لا يقام عليها الحد بظهور الحمل مع دعوى الاستكراه كذلك مع دعوى الزوجية وإن لم تأت في دعوى الاستكراه بأمارة ولا في دعوى الزوجية ببينة لأنها بمنزلة من أقر ثم ادعى الاستكراه…و لا خلاف بين أهل الإسلام أن المستكرهة لا حد عليها « .
يقول ابن جزي أيضا: »وأما الحمل فإن ظهر بحرة أو بأمة ولا يعلم لها زوج ولا أقر سيدها بوطئها ،وتكون الحرة مقيمة غير غريبة فتحد خلافا لهما في قولهما لا حد بالحمل ،فإن غصبت أو استكرهت لم يقبل ذلك منها إلا ببينة أو أمارة على صدقها كالصياح والاستغاثة… ».
هذه المسألة بالضبط- أي الحمل عند المرأة -هو الخصوصية التي تميز بين الرجل والمرأة في الأحكام وتدحض دعوى المساواة الطلقة بين الجنسين سواء على مستوى الحريات والولاية وكذلك سن الزواج وأيضا القوامة ،إذ الرجل يبقى أمره مستورا عند الزلل و لا يردعه إلا تقواه أو وجوده بمكان فيه شبهة ،كما سنرى حكم الشبهات ،أما المرأة فإنها ولو استترت إلا أن حملها هو الذي يفضحها ولهذا فهي تحتاج إلى مراقبة نفسها وغيرها لها ،لأن المسالة قد تمس المجتمع ككل حينما تأتي بخطيئة تكون نتيجتها الحمل غير الشرعي ربما قد تلجأ البعض من الزانيات إلى إجهاضه قصدا -أي العمل على قتل الطفل وهو مازال في رحم أمه -في حين يكون قد أصبحت له أهلية الوجوب الناقصة أي له الحق في الوجود والميراث والنسب.
فالتخلي عن المولود بدعوى دفع المعرة قد يكون سببا رئيسيا في استشراء عدد اللقطاء في المجتمع،فيكون الهروب من السيئ إلى الأسوأ لا يحل مشكلته الملاجئ الخيرية و لا الجمعيات الانتهازية والاستغلالية لموضوع الطفل المنبوذ بجمع التبرعات واقتناص الأموال بدافع الرحمة والشفقة ،في حين لم تشفق عليه أمه التي ولدته بسبب انزلاقها في أوهام فكرية وتسيب سلوكي أدى إلى انحرافات جنسية ،يغذيها أولئك المروجون أنفسهم لتلك الملاجئ والمنتديات ،وهو ما يسوق لها الإعلام الغربي والعربي على حد سوء في زماننا هذا…
وحيث أن الطفل قد أصبح قدره النبذ من طرف أصله بسبب المؤثرات التي أشرنا إليها فإن الشريعة الإسلامية ستضمن له حقه في الحياة والتربية والنسب والميراث أو المال الإحساني…إخ
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : »ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة،اقرءوا إن شئتم « النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم « فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ،وإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه ».
Aucun commentaire