عندما يُستغل الزلزال لإلحاق الخرافة بالقرآن
بسم الله الرحمن الرحيم
الحسن جرودي
عندما يُستغل الزلزال لإلحاق الخرافة بالقرآن
لن يمر سوى وقت قصير على حدوث الزلزال، حتى خرج علينا المسمى عصيد بفيديو زَعَم أن موضوعه هو « العلم والخرافة »، وهو موضوع جدير بالاهتمام، لولا تعمده كعادته ضرب الإسلام بمناسبة وبغير مناسبة، وهو ما يلاحظ منذ كلماته الأولى التي قدَّم بها للفيديو، حيث عمَّم نعت « مشايخ السوء » على الذين وصفهم بأنهم يُعطون للزلزال « تفسيرا أسطوريا » حسب زعمه. وحتى يُقنع متابعيه بأن هذا التفسير لا يتعلق بأشخاص معينين فقط، وإنما بالإسلام نفسه، عمد إلى جرد أمثلة لتفسيرات خُرافية لظاهرة الزلازل، كما كان سائدا في الهند القديمة، وفي كولومبيا واليونان واليابان وغيرها… ليخلُص دون أي سند منطقي، إلى أن هذه الخرافات والأساطير تسربت إلى « الديانات الإبراهيمية » عبر « التوراة لتنتقل إلى الأناجيل ثم إلى القرآن« * مما يدفع بالمتتبع غير المحصَّن إلى الخروج بنتيجة واحدة ووحيدة، يمكن صياغتها على شكل كوجيتو، أطلقتُ عليه أسم كوجيتو عصيد، وهو كالتالي » بما أن القرآن يتضمن خرافات، إذن كل تفسير ينطلق من القرآن فهو خرافة ». وهذا الكلام إن دل على شيء، فإنما يدل على قمة المكر والافتراء على الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يقول في الآية 42 من سورة فصلت: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾، فوالله الذي لا إله إلا هو، لحرقُ المصحف على يد كافر في بلد كافر، لأهون من هذا الافتراء على الله وكتابه من شخص « يزعم » بأنه مسلم، ذلك لأن الفعل في الحالة الأولى يتعلق بالإساءة للمظهر في بلاد الكفر، بينما يتعلق في الحالة الثانية بالإساءة للجوهر، في بلد دينه الإسلام وبه إمارة للمؤمنين.
مما سبق يتبين أن عصيد يستهدف الإسلام بشكل صريح، بالإضافة إلى كل المغالطات الممكنة، من بينها مغالطة التعميم انطلاقا من حالات منفردة، في الوقت الذي يقتضي فيه المنهج العلمي الذي يتبجح به إلى حد تأليهه للعلم، بأن لا يأتي التعميم إلا بعد دراسة أكبر عدد ممكن من الحالات. ولأبين تهافته بهذا الخصوص، سوف أُسلِّم له جدلا بكون واحد من الذين سمَّاهم مشايخ السوء قد صرح بأن الزلزال عقابٌ من الله، مع أني لم أسمع بهذا، في الوقت الذي عايشتُ فيه إطلاق صفة الشهداء عن الموتى، من قبل كل الشيوخ الذين تدخلوا في الموضوع، وذلك باستنادهم إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال، « الشهداء خمسة: المطعون والمبطون، والغريق، وصاحب الهَدْمِ، والشهيد في سبيل الله »، بل ذهب أحدهم إلى الإفتاء بأولوية صرف الزكاة للأحياء منهم، قبل غيرهم ممن تجوز فيهم، وأكثر من هذا، رأينا مجموعة منهم قد هرعوا إلى عين المكان، للترحم على الموتى ومواساة المكلومين من الأحياء معنويا ومساعدتهم ماديا، في الوقت الذي لم يُكلِّف فيه عصيد « المسلم » نفسه، حتى الإدلاء بكلمة ترحُّمٍ على الأموات طوال الفيديو الذي دام 17 دقيقة، كما أنه لم يُعرِّف بالشيخ المغربي الذي صرح بكون الزلزال عقابٌ من الله، في الوقت الذي هرع فيه إلى الاستدلال ب »تناقض » أحد الشيوخ المشارقة في وصفه لكل من زلزال تركيا وزلزال المغرب، مع العلم أننا غير معنيين برأي هذا الشيخ، أو غيره من خارج الوطن إيجابا أو سلبا. ومما يُبين على أن اعتماد مغالطة التعميم أمر متأصل في فكر عصيد ومَنْ وراءه، تخصيص حلقة من برنامج « مباشرة معكم » لمناقشة محتوى فيديو تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي، في موضوع تكفير أحد الشيوخ لمجموعة من الأشخاص والمؤسسات، ذلك أنه رغم تصريح أحد الضيوف بأن هذا « الشيخ » لا ينتمي حاليا لأية جماعة إسلامية، فإن ذلك لم يمنع عصيد ومن والاه في هذا البرنامج من مناقشة الأمر، ليس باعتباره حالة شاذة، وإنما بصفته عيِّنة ممثلة لكل الجماعات الإسلامية، مما يتيح لهم فرصة تعميم التطرف، وجعله خاصية من خصائص الدين الإسلامي، إلا أن الملفت للانتباه في هذا « الحوار » هو إشارة أحد المشاركين في الحوار، إلى أن المشكل لا يكمُن في الشيخ في حد ذاته، بقدر ما يكمن في عدد المُعجبين به في وسائل التواصل الاجتماعي، مما تم التساؤل معه عن سبب هذا الإعجاب، والذي أجاب عنه أحد الشيوخ الذي شارك في « الحوار » بقوله بأن السبب الرئيسي يكمن في التطرف العلماني الذي أصبح دائم الاستفزاز لكل من فيه ذرة من الإسلام.
أعود لما وصفه صاحبنا بالتفسير الخُرافي، لأبين أنه إذا وُجد هذا النوع من التفسير، فبالتأكيد لن يكون تفسيرا إسلاميا، ذلك لأن الإسلام أول من يحظ على العلم، بشقيه الدنيوي والأخروي، ومع ذلك كان على عصيد أن يقبل به، لأنه من المفترض أن يُدرِج ذلك ضمن حرية التعبير وضمن التعددية الفكرية، شأنه في ذلك شأن تعدد فهوم العلمانية، بحيث نجد أن علمانية روسيا والصين على سبيل المثال تحضران المثلية، في مقابل علمانية فرنسا التي تجتهد في الدعوة لها في نفس الوقت الذي تصر فيه على حضر ارتداء، لا أقول الحجاب، وإنما العباءة وتغطية الرأس…، بينما يجد المسلمون في علمانية إنجلترا متسعا للحركة، حتى أنه يُسمح للمسلمة العاملة ضمن شرطتها ارتداء الحجاب.
ومن ثم، فالمسلمون ليسوا في حاجة إلى عصيد، لبين لهم أهمية العلم الدنيوي، بقدر ما هو في حاجة إلى تعلم أبجديات العلم الأخروي، وحتى إذا كانوا في حاجة إلى من ينورهم في الموضوع، فبكل تأكيد لن يكون هو من يُلجأ إليه، وذلك لسببين: الأول هو جهله بدقائق علم الزلازل وباقي علوم المادة، لكونه غير متخصص فيها، والثاني لأنه يتعسف في الفصل بين علمين متكاملين، بل ويُلغي الثاني في مقابل تأليه الأول، على الرغم من قصوره في التنبؤ بموعد الزلزال، بل وحتى بمكانه، بحيث وقع في مكان غير متوقع تماما، ذلك أنه حسب بعض المختصين، عوض أن يقع في « المنطقة التي يُرجَّح فيها النشاط الزلزالي والتي توجد في شمال المغرب، حيث تلتقي صفيحتان تكتونيتان، أفريقية وأوراسية، في منطقة بحر البوران، بين ساحل ملقة وشمال إفريقيا ». فإنه وقع في صفائح لم يسبق أن رُصد بها أي نشاط زلزالي. وهذا الأمر يفهمه المسلمون في إطار قوله تعالى في الآية 85 من سورة النساء﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾. ومما يدل على هذا، هو أن العلم رغم كل الوسائل المتاحة أمامه، لن يصل بعد حتى إلى مستوى بعض الحيوانات، فيما يتعلق بالتنبؤ بالزلازل، كالطيور**، والبقر والثعابين، وقد يدخل ضمنها الحمير والبغال التي توصف بكونها أغبى مخلوقات الله على وجه الأرض، مع العلم أنها كان السند الأساسي لإيصال المساعدات إلى بعض الأماكن التي عجزت التكنولوجيا عن الوصول إليها.
وبعد هذا، ومن وجهة نظر « عملية محضة » pragmatique، يجدر بنا أن نتحرى الفائدة التي حققها كل من التفسيرين للظاهرة، الأمر الذي تَبيَّن معه بالملموس، أن الأول لم ينفع في شيء، باستثناء جرد معطيات لم يكن لها أي تأثير إيجابي عملي على المتضررين، وهذا لا يقلل في شيء من أهمية هذا العلم، بقدر ما يَحُظ على التأمل والتدبر في التفسير الثاني، الذي يمكن أن يُنطلَق فيه، من قوله صلى الله عليه وسلم: « يُبْعَثُ كلُّ عبدٍ على ما مات عليه » بحيث يُخبِرُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه يُبعثُ كلُّ عبدٍ مِن ذكرٍ أو أُنثى على ما ماتَ عَليه، مِن خيرٍ أو شرٍّ، مِن اعتقادٍ وعَملٍ فيُجازِيه اللهُ عليه، ويُراعَى في ذلك حالُ قَلْبِه لا حالُ شَخْصِه كما ورد عند بعض شراح الحديث، مما يستفاد معه أن الحالة القلبية التي يموت عليها الإنسان، سواء في زلزال، أو في حادثة سير، أو إثر سكتة قلبية، أو أثناء تشجيع فريق لكرة القدم…هي الحالة نفسها التي يُبعث عليها، وهذا من العلم الذي يختص به الله تعالى دون غيره. وإذا سلمنا بأن حصول أية كارثة، زلزالا كانت، أو غيرها من الكوارث قد تُصادف في طريقها أصنافا كثيرة من الناس، من مؤمنين، وكفار، ومنافقين، وضالين، وغافلين، إلى غيرها من الأصناف التي حصرها أحد الباحثين في علوم القرآن في 12 صنفا، وإذا افترضنا تواجد كل الأصناف، أو بعضها حين وقوع كارثة من الكوارث، فليس لأحد الحق شرعا، أن يحكم على مصير أي كان، وإن بدا أنه ينتمي لصنف من هذه الأصناف، لأن الله وحده هو الذي يعلم سريرته، لكن هذا لا يمنع من أن يُبعث على ما مات عليه، مصداقا لقول الرسول الكريم المشار إليه أعلاه، ومن ثم تُعتبر الكارثة بمقياس الدين، عقابا لكل من مات وقلبه على غير هدى من الله، وشهادةً لكل من مات وقلبه متعلقا بالله، وهذا هو التفسير الذي ذهب إليه معظم من سماهم الأستاذ عصيد « بمشايخ السوء »، وهو التفسير نفسه الذي اعتمده الدكتور زغلول النجار أحد أكبر علماء الجيولوجيا المسلمين.
نخلص مما سبق، إلى أن التفسير « العلمي » لم يكن ذا فائدة تذكر بالنسبة للأموات والأحياء على السواء، ومن ثم ما جدوى معرفة المنكوبين بأن الزلزال ينتج عن احتكاك صفيحتين تكتونيتين تحركهما طاقة داخلية، بعيدا عن التفسير الغيبي، الذي يَعتبِر أن هذه الكوارث آيات من آيات الله، يتصرف فيها كيف يشاء ومتى يشاء، الأمر الذي يدفع بصاحب هذا الاعتقاد، إلى العمل على الالتزام بالأوامر والنواهي، لأنه يعلم أن كل نفس ذائقة الموت، وأنها لا تأتي إلا بغتة، وأن الله سبحانه وتعالى قد حذر عباده من مخالفة أمره، كما جاء في الآية 63 من سورة النور حيث قال: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾، كما يعلم بأن التخويف من مقاصد إرسال الآيات، مصداقا لقوله تعالى في الآية 59 من سورة الإسراء ﴿ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾، وهذا من شأنه أن يدفع كل من عايش كارثة من الكوارث، سواء تعلق الأمر بالزلزال كما كان الشأن عندنا، أو بالإعصار كما حصل لإخواننا في ليبيا، إلى الاتعاظ والاعتبار، عسى أن يثنيه عن التمادي في غيه، والأوبة إلى الله قبل الغرغرة.
ثم بعد هذا وذاك، يبقى الموت موتا، سواء كان عن طريق الزلزال، أو غيره من الأسباب التي يحددها الله سبحانه وتعالى، ويبقى الاختلاف في مدى استيعاب الأحياء للمقصد منه ومن الحياة نفسها، وهو ما حدده الله سبحانه وتعالى في الآية الثانية من سورة الملك حيث قال جل جلاله:﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾، مع العلم أن تفاعل المجتمع معه، يختلف بين الحالة التي يصيب فيها فردا أو أفرادا معدودين، وبين الحالة التي يعم فيها أهل جهة أو جهات كاملة. فلو قمنا على سبيل المثال بإحصاء عدد الموتى والجرحى عندنا من جراء حوادث السير فقط، لمدة عشرة أو عشرين سنة، لوجدناه أكبر من عدد ضحايا الزلزال، ومع ذلك، وبسبب امتداد الحوادث في الزمن، لا يصل عدد الموتى في فترة زمنية محدودة، إلى ما يمكن أن نطلق عليه تجاوزا « عتبة الإثارة » (Seuil d’excitation)، وذلك عكس ما يقع أثناء الكوارث، التي تُتجاوز فيه عتبة الإثارة في لحظة وجيزة، لينطلق معها مبدأ التماسك الاجتماعي بالاشتغال بشكل آلي، ويَعُمَّ مختلف مكونات المجتمعات التي تحكمها مرجعية ثقافية أو دينية أساسها التراحم والتآزر، كما هو الشأن بالنسبة للإسلام الذي جعل من الزكاة ركنا من أركانه، ومن الأُخُوة فيه مبدأ أساسيا، عندما قال الله تعالى في الآية 10 من سورة الحجرات: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة﴾ ، ومن التعاون على البر والتقوى، ونبذ الخلافات، ركيزة من ركائز أمن واستقرار المجتمع، عندما قال جل جلاله في الآية 2 من سورة المائدة: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، هذا بالإضافة إلى الأحاديث الكثيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم التي تحث على التلاحم والتماسك، أذكُر منها على سبيل المثال لا الحصر، الحديث الذي رواه أبو موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا ».
في الأخير ومواساة لإخوانها الذي أصابهم القرح، أقول لهم بأن ما أصابكم ما كان ليخطئكم، لأنه من قضاء الله وقدره، مصداقا لقوله تعالى في الآية 23 من سورة الحديد: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ.
اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وأعنا على اتقاء فتنة لا تقتصر على الظالمين منا، بل تشمل الكل إذا كثر الخبث، مصداقا لقوله تعالى في الآية 25 من سورة الأنفال﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾. صدق الله العظيم.
* انظر الفيديو انطلاقا من الدقيقة 17 و15 ثانية
** لقد لاحظ أحد الإخوة الذي كان متواجدا بساحة « جامع الفنا أن مغادرة الحمام لصومعة مسجد الكتبية سبق ترنح الصومعة يمينا وشمالا تحت تأثير الزلزال.
Aucun commentaire