المقولات العلمانية المتهافتة تحت مجهر نماذج من مفكرين مسلمين معاصرين من ذوي العلم والمعرفة والاختصاص الحلقة الأولى : ( نموذج الدكتور عبد الوهاب المسيري )
المقولات العلمانية المتهافتة تحت مجهر نماذج من مفكرين مسلمين معاصرين من ذوي العلم والمعرفة والاختصاص
الحلقة الأولى : ( نموذج الدكتور عبد الوهاب المسيري )
محمد شركي
من الأمثال العربية السائرة قولهم : » إن البغاث بأرضنا يستنر » ، والبغاث يلفظ بضم، وفتح، وكسر الباء ، وجمعه بغثان بكسر الباء ، وهو طائر ضعيف أغبر اللون بطيء الطيران . والاستنسار، هو التشبه بالنسرالطائر، الكاسر، اللاحم ،المعروف بكبر حجمه ، وبطول جناحين ، وبمنقاره المعقوف ، وبمخالبه الجارحة ، وهو إلى جانب ذلك شديد حدة البصر. وهذا المثل يضرب سخرية من العاجز الذي يستغل فراغ الساحة بغياب قادر محاولا محاكاته ادعاء .
ولقد سيق هذا المثل في بداية هذا المقال من أجل الإشارة إلى بغثان العلمانية عندنا ، وقد اتنشروا، فأكثروا الضجيج الإعلامي في الآونة الأخيرة للإيهام بأنهم قد احتلوا ساحة زعموا أنها قد خلت من أهل الفكر، والعلم ،والمعرفة، والاختصاص، وتوزعوا بينهم مهام مهاجمة الهوية الإسلامية من عدة محاور ، فانصرف بعضهم إلى التشكيك في مرجعيات هذه الهوية ، وكان أقصى ما بلغه جهدهم في ذلك، أنهم أعادوا مقولات استشراقية متهافتة ، قد أكل عليها الدهر وشرب ، وكان نسور الفكر الإسلامي في القرن الماضي قد بزّوا البغاث الاستشراقي بالحجج الدامغة ، وكشفوا تحامله المكشوف على الإسلام من خلال التشكيك في السنة، تمهيدا للانفراد بالقرآن الكريم ، وتأويله وفق أهوائهم مع سبق إصرارهم على تعطيله، من أجل فسح المجال واسعا لعلمانيتهم على مستوى الممارسة ، وليهودية بعضهم، وصليبية البعض الآخر على مستوى القناعة ، والاستشراق المعادي للإسلام ملة واحد، كما أن الكفر ملة واحدة . وما قام به بعض البغثان عندنا اليوم، هو تلقف لمقولات الاستشراق الحاقد عن بعض المستلبين علمانيا والمأجورين، وهم من طلاب الشهرة لدى الغرب العلماني ، فأعادوا تسويقها بكثير من الغباء، كما كشف عن ذلك المفكر الدكتور إدريس الكنبوري في رده على صاحب النقول الاستشراقية ،والشيعية المسروقة التي سماها » البخاري نهاية أسطورة « . ولقد آز هذا البغاث المتطاول على العلم الشامخ الإمام البخاري رحمة الله عليه ، وعلى المحدثين، وعلى علماء الحديث بغثان اختلفت مشاربهم، ما بين مشتغل بالأعشاب الطبية ، وبين متعصب عرقي ومتهتك … إلى غير ذلك ممن لا يميزون بين كوع وبوع في أمور الدين ، وهم أهل جهل مكعب به ، ومع ذلك قد أكثروا الطنين الاعلامي كما يفعل الذباب المتهافت على القذارة ، وكانت قذارتهم التي تهافتوا عليها محض هذر مما فضل عن قذارة الاستشراق الحاقد.
وقبل أن نخوض في موضوع عرض المقولات العلمانية المتهافتة على مجهر نماذج من مفكرين مسلمين معاصرين من ذوي العلم، والمعرفة ،والاختصاص ، لا بد من التذكير بالظرف الذي أنتج طنين الذباب العلماني عندنا ، وهو وضع ما بعد الإجهاز على ثورات الربيع العربي ، وهو إجهاز طبخته العلمانية الغربية الحاقدة ، وكلفت أذنابها المستأجرة بتنزيله ، والحكاية معروفة ، لا داعي للتفصيل فيها ، ونكتفي بذكر السبب الرئيس الذي أقلق الغرب العلماني، ألا وهو تشبث الأمة العربية بهويتها الإسلامية ، ورهانها على الإسلام من أجل الخلاص من وضع ما بعد النكبة ، والنكسات .
والنموذج الذي سنركز عليه في هذه الحلقة الأولى، هو المفكر المسلم ، وعالم الاجتماع المصري ، المرحوم عبد الوهاب المسيري المتوفى سنة 2008 ، تغمده الله بواسع رحمته ، وهو مفكر خبر الفكر الغربي العلماني عن قرب ، وعن دراية واطلاع ، وتخرج من الجامعات الغربية ، وسبر أغواره فلسفتها ، وهو صاحب موسوعة في غاية الأهمية عن اليهود واليهودية والصهيونية ، وصاحب مؤلفات أخرى ، و صاحب مقالات علمية وفكرية عديدة ، وله مساهمات كثيرة في مؤتمرات، ندوات، ولقاءات فكرية عالمية ، وهو عضو في العديد من مؤسسات الفكر العالمية، وهو مفكر لا يشق له غبار فيما يتعلق بخبرته بالعلمانية وبالحداثة الغربية وبنشأتها ، وبما بعدها .
والعلمانية أو الحداثة من منظور هذا المفكر الكبير، و بشكل موجز هو أن الغرب الكاثوليكي الذي عرف استبداد وطغيان الإكليروس والذي ترتب عنه النفور من الدين ، ظهرت فيه فكرة البخث عن بديل عنه أو بالأحرى البحث عن نقيض له هو اللادين، حيث صار الوجود عند أصحاب اللادين عبارة عن عالم طبيعة مادية ، الإنسان مؤله فيها ، ولا وجود في هذا العالم لما يسمى روح ، ولا إله له والحياة مادة ، والإنسان حر في التمتع المادي إلى حد الإسراف والتخمة .
ولقد حدد المسيري موقفه من هذا التوجه العلماني الغربي بعد طول تأمل فيه ، وبعد سبر أغواره، كما عبر عن ذلك في كثير من كتاباته ، ومحاضراته، والتي نذكر منها على سبيل المثال ما يلي :
قوله : » الله هو الركيزة الأساسية لكل شيء ، الركيزة الأساسية للتواصل بين الناس ، لضمان أن الحقيقة حقيقة ، فإن نسي الله، ركيزة الكون كلها تنتهي » .
وقوله : » بغياب الله يتحول العالم إلى مادة طبيعية صمّاء ، خاضعة لقوانين الحركة والضرورة التي يمكن حصرها ودراستها والتحكم فيها » .
وقوله : » قطاع اللذة يعد الإنسان بالفردوس الأرضي الذي سيريحه تماما من عبء التاريخ والالتزام الخلقي ، والإحساس بالمسؤولية تجاه الآخرين » .
وقوله : » النسبية الإسلامية، هي أن يؤمن الإنسان بأن هناك مطلقا واحدا هو كلام الله ، وما عداه، فاجتهادات إنسانية نسبية في علاقتها بالمطلق الذي يوجد خارجها «
وفي حديثه عن تجربته الفكرية يقول المسيري :
» إن الإيمان لم يولد داخلي إلا من خلال رحلة طويلة وعميقة ، إنه إيمان يستند إلى رحلة عقلية طويلة ، ولذا فإنه إيمان عقلي، لم تدخل فيه عناصر روحية ، فهو يستند إلى عجز المقولات المادية عن تفسير الإنسان ، وإلى ضرورة اللجوء إلى مقولات فلسفية أكثر تركيبية » .
ومن مقولاته أيضا :
» إن المطلوب هو حداثة جديدة، تتبنى العلم والتكنولوجيا ، ولا تضرب بالقيم أو بالغائية الإنسانية عرض الحائط ، حداثة تحيي العقل ، ولا تميت القلب ، تنمي وجودنا المادي ، ولا تنكر الأبعاد الروحية لهذا الوجود، تعيش الحاضر دون أن تنكر التراث » .
وفي هذه المقولات ما يكفي للرد على تطرف العلمانية سواء في نسختها الأصله الغربية ، أو في نسختها العربية الشائهة المستوردة . فالوجود عند العلمانية ليس كما تزعم عبارة عن مادة ، والإنسان جزء منها بلا روح ، وبلا علة وجود ، وبلا مسبب لهذا الوجود . والعلمانية تستخف بفكرة الدين ، وبفكرة العالم الآخر الذي سيحل محل هذا العالم المادي ، وبفكرة البعث والنشور ، وبفكرة الحساب والجزاء ، وهي ترى من يؤمن بهذه الأفكار إنسانا يعيش خارج التاريخ ، وتعتبر من يعتنق قناعتها المادية إنسانا يعيش التاريخ أو داخله , وبتعطيل التصورالإسلامي للوجود ، تصير الحياة عند العلمانية مجرد استهلاك ، واستمتاع ماديين ، مع مارسة لا حدود لها للحريات على اختلاف أنواعها .
والصراع الحالي بين التصورالإسلامي للوجود، والتصور العلماني عبارة عن صراع حضاري ، وثقافي . و المثير للانتباه في هذا الصراع أن العلمانية تخوضه بذهنية استئصالية تستهدف الخصم ، وهي تؤسس وجودها على حسابه أي بإقصائه النهائي من الوجود، لأن وجوده يعتبر تهديدا لوجودها ، وهي لا يؤمن بالتعايش مع الخصم ، وإن كانت تموه على ذلك بمقولات يكذبها الواقع المعيش، كما هو الحال بالنسبة لادعائها احترام المعتقد المخالف لمعتقدها ، وإلا كيف سنصدق أنها تؤمن بحرية التدين في نطاق نفوذها وسيادتها نظريا ، وهي في نفس الوقت تنقض ذلك عمليا ، وتكفي الإشارة إلى المجتمع الفرنسي على سبيل المثال لا الحصر الذي يضيق الخناق على الممارسة الفعلية للتدين الإسلامي من خلال منع المرأة المسلمة من لباس تدينها، سواء تعلق الأمربلباسها العادي أو بلباس استحمامها ، ومن خلال التضييق على نسك نحر الأضاحي ، ومن خلال التضييق على رفع الأذان للصلوات الخمس … وهلم جرا . ولا تكتفي المجتمعات الغربية العلمانية بهذا المنع الجائر، بل تتعمد الاعتداء على مشاعر المسلمين بالنيل من رموز دينهم ، وعلى رأسها النبي الكريم عليه الصلاة والسلام من خلال رسم الصور الكاريكاتورية الساخرة منه ، ومن خلال إحراق نسخ من المصحف الشريف ، ومن خلال تدنيس مقدسات المسلمين … إلى غير ذلك من المضايقات الصارخة.
والمشكل أن أذناب العلمانية عندنا، يخوضون الحرب العلمانية الغربية على الإسلام نيابة عنها من خلال استهداف مرجعياته بدعوى أنهم أهل علم ، ودراية بها ، وهم يستعملون نفس الأداة التي استعملتها العلمانية الموظفة لهم خلال صراعها مع سلطة الإكليروس .
والمتتبع لفكر الدكتور المسيري، يجد فيه تتبعه الدقيق لفريق فلاسفة التوجه المادي اللاديني خلال القرن الماضي ، وهو يربط بين وجهات نظرهم بخيط ناظم ، وهي وجهات مفضية إلى اختزال الوجود في مجرد مادة تتفاعل دون الإيمان بمسبب لها مفارق لها ، وخارج عنها ، و هو مفعّلها . وبتعطيل هذا المسبب ، تجعل هذه الفلسفة الإنسان هو المتصرف المادي في هذه المادة ، وهي تنكر أن يكون له كيان آخر مفارق لكيانه المادي .
وأخيرا نقول: لو أن الذباب العلماني عندنا كان يقدرالعلم، والمعرفة ،والاختصاص ، ولا يتطاول عليها ، ولا يدعيها لنفسه لكفاه الدكتور المسيري مرجعا ينور حالك فكره ويحرك جموده ، و يمد قصور نظره ، و يوسع ضيق أفقه . ولقد أخبر فيما ألف عن رحلته العقلية الطويلة والشاقة التي انتهت به إلى الحقيقة التي لا زالت غائبة عن هذا الذباب العلماني الضائع ، والمتهافت على قذارة الفكر العلماني الذي صار مرفوضا عند العديد من رعايا المجتمعات العلمانية الغربية ، وهم ممن تحررت عقولهم من قيود المادة ، وتخلصت قلوبهم من أسر اللذة المادية ، ومن نهم الخسة البهيمية .
وإلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى مع نموذج آخر من نماذج المفكرين المسلمين المعاصرين من ذوي العلم، والمعرفة، والخبرة ،والاختصاص ، وقد خبروا عن دراية حقيقة العلمانية ، ومن عرف هؤلاء عن حسن اطلاع ، سيقتنع بأنه من إضاعة الوقت ، وهدره الالتفات إلى طنين الذباب العلماني المستأجر لدى العلمانية الغربية الحاقدة ، والتي فاحت رائحة كراهيتها المنتنة للإسلام ، وزادت عفنا عما كانت عليه من قبل .
Aucun commentaire