من مغرب الأمس: الكونت دو شافانياك بين فاس ووجدة (2)
رمضان مصباح الادريسي
كيف بدت وجدة للكونت دوشافانياك،سنة1881؟
تقديم:
أنجز الكونت موريس دوشافانياك هذه الرحلة ما بين 7 و17 فبراير سنة 1881؛ وبغض النظر عن أهداف صاحبها التجسسية –كغيره من الأجانب الذين جابوا بلاد المغرب في نهاية القرن التاسع عشر , وبعده- تستحق هذه الرحلة ,التي لم تترجم من قبل ,حسب علمي, القراءة ,لما يتميز به الكونت من دقة الملاحظة ,وحسن العبارة ؛ولأهمية زمن الرحلة في ما يخص الوضع بالمغرب.
استغرقت المسافة بين عيون سيدي ملوك ووجدة – حولي ساعة بالسيارة،اليوم- أياما ؛لدواع عديدة،كما تطلبت خفرا رسميا،لما كانت تشكله مفازات أنكاد من خطورة ،وقتها.
رحلة ممتعة ،في مغرب الأمس،أقدمها هدية صيف للقراء.
***
في ضيافة باشا وجدة،علي بن محمد بن الحاج:
وجدة:377كلم. خارج الأسوار نمر بمقبرة عربية,وضريح؛وبعد أن نلج إلى الداخل نمر بضريح آخر ,في حالة متردية جدا؛رغم ما به من زخرفة بديعة ,لاتزال بادية للعيان..
نمر بأبواب عديدة متراصة,قبل أن نصل إلى ساحة واسعة,تحيط بها غرف صغيرة ,يقطنها الجنود؛والى جانبهم رباطات خيولهم.
باب منزل الباشا مُشرعة على هذه الساحة؛وقد خرج لاستقبالنا بعد إخباره بقدومنا. رافقنا الى غرفة صغيرة بالطابق الأرضي,منفتحة على حديقته.
بعد عبارات الترحيب المألوفة ,قدم لنا وجبة طعام دسمة؛لكن ما سرنا أكثر هو أن نرى على مائدتنا فجلا طريا ,وسَلْطات رائعة شديدة الطراوة ؛ينتجها ,بوفرة بستاني الباشا ,وهو من أصل مالطي.
إن الغرفة التي نوجد بها هي نفسها التي يعقد بها الباشا اجتماعاته.لقد تكرم بوضعها رهن تصرفنا ,لكننا رفضنا عرضه ,مفضلين نصب خيامنا في ساحة تشرف على الحديقة؛بدل حرمانه من غرفة عمله؛وهي ,على كل حال لاتخلو من براغيث ,رغم حرصه على أن ينظف كل شيء بها ,قبل أن تفرش بالزرابي ,وتوضع بها الأسرة الحديدية المخصصة لنا.
أثناء تناولنا للغذاء: الباشا ,السي قدور، وكاتبه الى جوارنا, وهما جالسان على الأرض,برهنا ,مرة أخرى,على أنهما ,رغم عدم استعمال الملاعق والشوكات, يحققان – معنا- نفس النتائج؛الوسائل وحدها تختلف.
باشا وجدة هو علي بن محمد بن الحاج ,في الأربعين من عمره تقريبا؛يشي وجهه بالذكاء,دون علامة مميزة.ما ينقصه على مستوى البنية الجسدية يعوضه بلباقته.انه إداري جيد ,ورجل كرم ,رغم الندرة الشديدة لهذه الصفة ,بهذا البلد.
في كل جمعة يوزع , من ماله الخاص,على الفقراء والسجناء, كمية كبيرة من الخبز
نعرف أنه في المغرب , كما في أغلب الدول العربية, تترك الحكومة أمر تغذية السجناء للأهل والأصدقاء.
مائة فرنك من الكونت ،لاطعام السجناء:
للثناء على خصلة الكرم هذه ,المحبوبة لدى الباشا, بعثت إليه بمائة فرنك ليخصصها لهؤلاء البؤساء؛لكنه رغب في أن يحضر أحد رجالي عملية توزيع الخبز,وقد اقتناه بنصف المبلغ,وأخبرهم بنفسه بأنه ,وبعد ثمانية أيام ,سيوزع عليهم نفس الكمية,وبأن عليهم أن يشكروا (على هذا) ضيوفه المسيحيين..
لقد أعجبني كثيرا تصرفه.كان بإمكان باشا آخر ,مكانه,أن يحتفظ بالمبلغ لنفسه ؛أو على الأقل ما كان ليستغل الفرصة لشكر هؤلاء النصارى ال………….(حذفت,تأدبا, الوصف الذي استخدمه شافانياك))
مدينة وجدة أكثر نظافة وعناية من كل المدن التي زرناها ؛إن جهود علي بن محمد هي التي حققت هذه النتيجة.بفضل عنايته أحيط السوق السنوي المهم الذي يقام هنا , والذي تعرض فيه كل منتوجات الجنوب ,بعدد من الأسوار.سوق البهائم يبدو بدوره حديثا.تحصينات المدينة , وهي مشيدة باللبِن, موضع عناية جيدة ,تعلوها ,على مسافات , أبراج مربعة.
وبأوامر الباشا أنجزت أشغال سقوية ,حولت مشارف المدينة إلى واحة خصبة, تناقض جدب الأراضي المجاورة.
لا يشتكي الباشا من تصرفات مرؤوسيه تجاهه؛ الثورات نادرة,لكنه أخبرني بأنه كثيرا ما ييأس, ويمل من الغضب, من جراء التجدد المستمر للشقاق , والمواجهات الدموية بين الساكنة.
تشكل أعمال النهب ,التي يسهلها القرب من الحدود , أحد مشاغله .بعد ارتكاب هذه الأعمال ,سواء بالجزائر أو المغرب,يعبر الفاعلون الحدود ,للإفلات من العقاب.
لدى وصولي الى الجزائر,أدهشت أشخاصا متنوعين وأنا أحدثهم عن الضيافة الصادقة والكريمة ,التي حظينا بها,بدون تحفظ؛وعما شعرت به ,باستمرار ,من أحاسيس صادقة لدى علي بن محمد.التزاما بالصدق أقول بأنه بدا لنا متحليا بخصال عديدة، لا نلاحظها عادة لدى العرب.خصاله هذه لا تقابل بالجحود من طرف مواطنيه فقد سمعتهم , في مرات عديدة, يثنون كثيرا على مؤهلاته الادارية ,وكرمه الشخصي..
استجابة لرغبته مكثنا عندة ثلاثة ايام ,وقد بدا سعيدا باحتفاظه بنا؛وكان كثير السؤال عن الممارسات الفرنسية في مجال الادارة والاقتصاد؛مبديا آراءه بخصوص ما يراه جيدا أو رديئا.
اختبار مباغت للأسلحة:
التقيت عنده برجل حرب مغربي,مشهور كثيرا بشجاعته؛يسمى سيدي بكر ؛يكلف ,عادة من طرف السلطان, بقمع الثورات بهذه الجهات .رجل طويل القامة ,أسود اللحية,بشرته برونزية ,ومظهره يوحي بالصرامة.كلامه مقتضب وحاد,ويدل على ذكاء كبير.كل ما فيه يلزم بالاستسلام ,ويوحي بالاحترام. فحص باهتمام أسلحتنا ,وأطلعنا على اسلحته ؛وقد لاحظت ,من بينها, بندقية صغيرة ذات طلقتين ,عيار24مم,بارتداد مركزي وماسورتين مخططتين. أخبرنا بأنها سلاحه المفضل ؛السلاح الذي يحمله في خرجاته.
نقضي وقتا في التجوال بمدينة وجدة ,وأسواقها .رغم ما تحضى به هذه الأسواق من شهرة ,لم اعثر بها على ما يلفت الانتباه. كل السلع التي نصادفها – تقريبا- من انتاج فرنسي؛وعبثا حاولنا العثور على منتوجات من الجنوب.
ما عدا في ايام المعرض السنوي الذي ينعقد بها ,لا يحتفظ التجار بسلع الجنوب.تؤكد المعلومات التي افادني بها الباشا بخصوص اهمية سوق المدينة ,تؤكد أنه ,ونظرا لصعوبة ادخال السلع الى الجزائر , فإنها في تناقص سنة بعد أخرى ؛على حساب ازدهار المدينة.
لا حظنا أثناء تجوالنا خارج المدينة أن امن السكان, وخدمات السقي, يسهر عليهما العديد من الحراس.
من أعلى تل صغير ,جنوب المدينة ,يعلوه ضريح موقر ,لكنه في وضعية متردية,( ضريح سيدي امعافة:المترجم)؛نستكشف المدينة وأسوارها .من هذا الموقع تمكنت من رسمها.لم يكن هذا ممكنا من الجهات الأخرى لأن أشجار الزيتون تحجب المدينة كلية ؛وقد غرست حتى في أسفل الأسوار.
مسيحيون ويضحكون من قلوبهم:
غداة يوم وصولنا ,غادرَنا السي قدور راجعا الى بلدته؛ لكن ليس بدون شرب شاينا وأكل حلوياتنا؛لقد ملأ جيوبه بالحلويات والبيسكويت ,وباختصار بكل هذه اللذائذ التي يمكن ان نحصل عليها ؛ ذاهبا بها لأخيه ,واعدا بأنه سيخبره بأنها هدية منا إليه ,كما اقسم بأنه سيدعو الله لنا كل يوم حتى يزيدنا من نعمه..
أخبرنا بأنه » سعيد بالتعرف على مسيحيين ,يتكلمون ويضحكون ,من كل قلوبهم- يقول- لقد استضفت ,السنة الماضية,انجليزيا برفقة زوجته,ولم يحصل أن رأيناهما يبتسمان . لقد تساءلت -يقول- هل كل المسيحيين على هذه الشاكلة؟وخمنت أن الإنسان سيشعر,ببلادهم,بضجر شديد.لقد راقني أن أعرف أن هذا غير صحيح؛وأن الإنسان بإمكانه,وهو يستطلع ويستمع ,طلبا للفائدة, أن يتحدث بانشراح ,وأن يكون ضيفا محبوبا.
لم يعد بحوزتي ما أمنحه له ؛احترت في أي تذكار أقدمه له ,فلم أجد بدا من خلع منظاري الذي حملته معي وسلمته له. سعد بالهدية وقال: » سأسلمها لأخي على أنها من قِبلك « ؛وهكذا كشف مرة أخرى عن أهم شيء لديه في هذا العالم.
مسدس أمريكي ووسادة مذهبة:
يمتلك السي علي بن محمد زنجيا صغيرا ,في عمر الزنجي الذي برفقتي؛لكن هذا الطفل البئيس يبدو سقيما وحزينا.كان ينظر ,باستمرار, إلى الثياب الجديدة التي يرتديها مسعود ,وكأنه يتمنى لو كانت له؛في حين أن هذا الأخير – وعلى عادة المزاج العربي- يقابله بنظرات افتخار ,موليا لنفسه أهمية.
إن إخراج مسعود من المغرب يقلقني بعض الشيء ؛إذ يمنع كليا على العرب – وبالأحرى على مسيحي لا حق له حتى في الشراء- أن يعبروا بالعبيد الحدود؛
لكن حينما كلفت من يطلب من الباشا الرخص الضرورية لاصطحاب رجالي إلى الجزائر ,لم تكن هناك أية صعوبة , سواء بالنسبة للزنجي الصغير , أو الآخرين؛وقد بعث لي ,أيضا, بشهادة لم أطلبها ,تتضمن أنني سافرت من فاس إلى وجدة ؛وأنه كان في غاية السرور وهو يستضيف من أوصى به السلطان خيرا.
قبل أن أفارقه اعتذرت عن كوني لم يعد معي ما أقدمه له كتذكار عدا مسدسي الأمريكي ,المطلي بالنيكل،وذي الطلقات الخمس.
كان لهذه الهدية وقع كبير على نفسه ؛فبعد أن فحص السلاح بعناية , وبعد أن أكثر من تجريبه ,أقدم على ما لم أر أي عربي يفعله: ليقابل هديتي بالمثل ذهب في الحين إلى منزله وأتاني منه بوسادة مخملية مطرزة بالذهب ,وحايك أبيض جميل ,مخطط بالحرير والصوف.قدم لي الهدية معتذرا بكونه اُخذ على حين غرة ,وليس لديه ما يقدمه لنا أفضل من هذا.
ودعناه في غمرة من التحايا لاتنتهي ,وأماني السعادة. تاركين في نفسه ,على حد عبارته, ذكرى عذبة ودائمة , عن مرورنا بوجدة. ،
من جهتنا لم ننس أبدا السي علي بن محمد ,ضيافته الحلوة الشمائل ,وأحاسيسه الممتازة؛وأجد متعة في ذكر ذلك هنا.
بعد مضي أربع ساعات على مغادرتنا وجدة ,وصلنا , مخفورين بعشرة جنود, إلى مغنية ؛بعد ان قطعنا ,من فاس, مسافة أربعمائة وواحد كلم,استغرقت منا سبعة وستين ساعة من المشي.
عن:
société de géographie
3triméstre 1887
***
Mestferkiculture.wordpress.comموقع الكاتب:
Aucun commentaire