في كل صباح باكر,تارة بصقيعه البارد,وتارة بدفئه الممزوج بنغمات العصافير,كنا نتوجه زرافات من دوارنا باتجاه المدرسة الوحيدة انذاك بقرية تويسيت,لنتلقى دروسنا على ايدي اساتذتنا الافاضل,واثناء اوقات الفراغ بين الحصص الدراسية الصباحية والمسائية,كان التلاميذ الذين يقطنون بأحياء قرية تويسيت يتوجهون الى ديارهم قصد الراحة وتناول غذائهم,بينما كانت فئة اخرى ممن يسكنون في الدواوير المحاذية للقرية,يظلون بين الحوانيت,يتناولون غذاءهم البسيط على جبل من النفايات المعدنية,ثم ينزلون من قمة الجبل لقضاء باقي الوقت بين الدور والدكاكين,في انتظار عودتهم الى الدراسة.

وفي بعض الاحيان,يتنقلون باتجاه الحي الاوروبي,الذي كان يقطنه,كوادر شركة المعادن من مهندسين,ورؤساء المكاتب,والاغلبية الساحقة من الغربيين العاملين في الشركة ايضا,كان هذا الحي يخفي اماكن للاستجمام ,حرمنا نحن ابناء الفقراء منها,وكم كانت غصتنا تزداد حينما كنا نرى ابناء الغربيين,يزاولون كرة القدم على ملاعب ذات ارضية رفيعة,او يزاولون كرة المضرب برفقة ابائهم وامهاتهم,او يسبحون في ايام الحر في مسبح شيد على قمة هضبة بالقرب من الحي.ولم يكن ابناء العمال المغاربة من كوادر الشركة اقل حظا من ابناء الغربيين,بل هم ايضا كانت لهم اماكن للاستجمام وقضاء اوقات فراغهم في حبور دافق.

كنا ننقل نفس الالعاب الى دوارنا,نلعب كرة القدم في خمائل الدوار المعشوشبة,بكرة مصنوعة من الميكا,وابان الليل نزاول العاب سريلو وغيرها من الالعاب الجماعية,هذه الالعاب التي لا يزاولها ابناء الحي الاوروبي قطعا,لانهم كانوا يجهلون قواعدها,اضافة الى عدم توفر فضاءات اللعب كما هي في الدوار.

اما في ايام الحر,فكنا نتجه الى بحيرة على واد قريب من دوارنا ,كنا نسميها محليا بكلتة سيدي لخضر,نسبح فيها رغم صغرها,طوال اليوم ولا نعود الا وقت مغيب الشمس ,ولعل الفرق بين مسبح الاوروبيين في الحي الاوروبي ومسبحنا في كلتة سيدي لخضر,هو تواجد الضفادع والسلاحف في مسبحنا وعدم تواجدها بمسبحهم,كما ان الفضاءات المجاورة للوادي مليئة بالظلال,ونغمات العصافير التي لا تنقطع الا بحلول الليل الدامس,ومما يزيدها رونقا وجمالا,تلك الخراف وبعض البقرات المنتشرة في الخمائل المجاورة للوادي ,تبحث عن الكلأ,او تربض لتجتر ما أكلت في صمت رهيب.

كانت أشحار البلوط البري تنتشر بكثافة على مقربة من الوادي,نتسلق اليها اثناء رجوعنا باتجاه الدوار,فنجني كميات هائلة منه,ورغم طعمها المر,كانت امهاتنا تضعها في قدر به ماء,وتضيف اليه كمية من الملح,وتتركها تغلي لمدة قليلة لتصبح ذات طعم لذيذ,نتناول قسطا منها,ونحمل ما تبقى الى زملائنا بالدرسة.

ورغم الفوارق الاجتماعية بيننا وبين سكان الحي الاوروبي,ورغم اماكن الاستجمام التي حرمنا منها نحن وتوفرت لهم,فقد كان التفوق الدراسي لصالحنا نحن ابناء الدواوير,وابناء الاحياء البسيطة الاخرى ,ولعل اغلب الاطباء المتواجدين اليوم بمدينة وجدة هم من الدواوير المحاذية لقرية تويسيت,اضافة الى رجال ونساء التعليم والوظائف الاخرى.

انها ذكريات لن تنسى,بحلوها ومرها,لن ننسى وادي سيدي لخضر الدافق والذي جف اليوم,لن ننسى اشجار البلوط التي لم تعد تثمر,لن ننسى اعشاش القبرات تحت الحشائش والتي عزفت اليوم عن صنع اعشاشها,لن ننسى وجبات الجرجير البسيطة مع ارغفة الخبز الساخن المصنوع من الشعير,لن ننسى نبتات التالمة والتافغة,والجبن المصنوع من حليب العنزات ونبتة الحكة.

كلها امور اندثرت ولم تعد,وكأنها تبكي تاريخ تويسيت الزاهي,وكانها حزنت لتفرق الاحباب والصحاب في كل حدب وصوب,او ترثي من مر بهذه القرية وصار الى دار البقاء.