الشاعر المغربي بوجمعة العوفي يطرز البياض الذي يليق بسوزان
ا
كان العنوان ولا يزال العتبة الأولى التي يدخل منها القارئ إلى عالم النص ، ليس لأنه لفظ مكثف للدلالات وشاحن للصور فحسب، وإنما لكونه حاشد أمين للأحاسيس المتفاعلة، ومجدول رقمي للمشاعر المربكة التي تعتمل في عقل الشاعر ووجدانه ، رأيي أن نتوقف لاحقا عند دلالات العنوان عند شاعرنا المغربي بوجمعة العوفي، بدءا من – بياضات شيقة- 2001. –أصدقاء يغادرون حنجرتي- 2002. وصولا الى ديوانه الأخير .- البياض يليق بسوزان-. الصادر في طبعة أنيقة بالجاكت عن مطبعة انفو برانت بفاس – المغرب- في 115 صفحة من الحجم المتوسط ،ولوحة غلاف للفنان المبدع أمحمد الشريفي.
واختزالا لكل التفاصيل حول حمولات العناوين ودلالاتها ، والتي أراها تحتاج إلى دراسة عميقة متأنية ، لا تتوقف عند ال
عتبات، بل تلج عوالم النصوص لتستغور دلالاتها ، وتفض اشتباك نصوصها ، وتطبطب فوق أكتاف الزمن الذي أبدعها ، لا بد من البوح بان الشاعر بوجمعة العوفي تجربة ثقافية من طراز ينماز ، لقد استطاع أن ينجز إبداعات وترجمات غاية في العمق والإبداع غادرت الحناجر والحدود ، تجربته في مجال النقد التشكيلي تشكل باعتراف الدارسين إضافة نوعية متألقة، ظلت مفتوحة على متون وإبداعات كونية ، ولن نغيب عن بالنا نهله الوافر من أدب أمريكا اللاتينية ، وقراءته لكبار الكتاب والأدباء اللاتينيين . ولقد ترجم الكثير من ذلك في وكتبه دواوينه التي تألق بعضها بجوائز في منتديات عالمية . لقد جرب العوفي باقتدار ووزانة الكتابة والنقد في أكثر من مجال ،فالكتابة بالنسبة إليه فعل متقاطع بلا قرار ، من هذا المنطلق التجأ الشاعر العوفي الى كتابة العمود الصحفي بإحدى الجرائد = تازة الجهوية =، وربما أن كتابة العمود الصحفي منحته نفسا، فبات يفكر في التماهي مع الواقع بتلوينات نقدية متعددة مسرحية سينيمائية تشكيلية . وبقراءتنا ومسحنا لقصائد ديوان العوفي الأخير –البياض يليق بسوزان- بعناوينه الآتية :
1.
البياض يليق بسوزان
2.
ثلاث خطوات على البياض
3.
مدائح
4.
هذه الاحتمالات
5.
قصائد من اجل سوزان برنار
6.
مقهى للحب فقط
7.
من أوصى بإقالة إسماعيل؟
8.
شاعر قتلته القبيلة
9.
وصايا لك أنت
10.
قصائد ملونة من اجل تيد هيوز
11.
وجوه لا يدركها المجاز
12.
بغداد مدينة يخصبها اليورانيوم
نجد أن الشاعر العوفي قد نجح في إبداع واستخدام الشكل الفني للقصيدة الذي عبر من خلاله بفنية رفيعة عن استغلال فادح للبياض ، مؤكدا جدية مشروعه الشعري الناضج ، ولان الشعر الحقيقي تعبير عن الذات في مداه ، فقد ظلت الأخيرة حاضرة ، بقوة في ديوانه ، طموحة كاسرة منكسرة تواقة مشيرة محيلة متفاعلة مندمجة ، تستنفر وجدان القصيدة ، وتكتشف ، أعماق الإحالة بقفاز من كلام ، عبر رهان بصري مجد ، وتسبح في سحيق سحيق ،الى حيث توقظنا صرخة شاهقة ، نستجيب معها للنداء الكبير "نداء الجمال والفن والحياة " نداء الشعر .
يلزمني:
كي اصعد آلامك
أن اجرح اسمي
أن أصل الأرق الأبهى
وأجابه معنى الوحشة بين أصابعك ص7
لكن قبل أي خوض ، من حقنا أن نتساءل : من هي سوزان برنار حتى يسافر العوفي عبر قارات الروح كي يرتق البياض الذي يليق بها؟ و يغزل من جراحات الشعر فستانا لها الأبهى ، وما عساها تكون قصيدة النثر حتى تستحق هذا النداء الروحي العميق ، وتلك التجاوبات المضمخة بألق البياض ، الذاهبة توا الى مغارة المشاعر والوجدان؟
هناك كلام كثير في أمر البياض وشاعريته ، سأنتقي لك أبهاه ، قال لي الصديق الشاعر والناقد عبد الرحيم أبو صفاء .حين رجوته ، وأضاف "
ربط البياض بسوزان متعة أبدية ،أغبط الشاعر العوفي الاستفراد بها ، أليست س .برنار من أوائل المؤسسيين لقصيدة النثر التي تشتغل على البياض ….؟
صوتك " سوزان يقول الشاعربوجمعة العوفي :
شفق للذهول ،
تشربه الفراشات كي يليق البياض بسوزان ..
لك الأبهى ،
لي الشهقة ..
وهذا الخواء الذي ترممه أصابعك ص8
في علاقة بالسؤال أعلاه ، هناك ثمة إجماع من قبل النقاد والشعراء الى "أن الجهود النظرية المتعلقة بقصيدة النثر – وشاعرية البياض – جاءت في نهاية الخمسينات، بعد أن تمت ترجمة كتاب (سوزان برنار) المعروف. وربما كان مصطلح قصيدة النثر الذي ورد فيها لأول مرة –الجهود النظرية- يرجع أساسا الى العام الذي تحدث فيه ادونيس مستعينا ومترجما بكتاب او مقدمة كتاب “سوزان برنارد” “قصيدة النثر” الصادر في باريس سنة 1959 .
إذ في سياق اهتمامها بالشعر والاكتواء بنقده ،" قدَّمتْ- سوزان برنار- دراسة مفصَّلة عن شعر رامبو، جُمِعَتْ في كتاب سمته –إشراقات.– وقد بيَّنتْ الكاتبة من خلاله " العديد من الآراء من خلال المقالات التي نُشِرَتْ في الصحف آنذاك لمجموعة من الكتاب والنقَّاد، كانت تدور وتتمحور حول تاريخ كتابة القصائد وصدورها في كتاب واحد".
وقد ذهبت بعض الآراء بعيدا متهمة علاقة "شعراء معاصرون " بكتاب سوزان برنارد الشهير الذي تسبب- حسب الآراء نفسها- في تسميم عقول جيل مجلة شعر ، وفي مقدمته ادونيس، فقد اهتدى ادونيس الى كتاب صدر في فرنسا ، وأصبح فيما بعد إنجيل المؤمنين بقصيدة النثر، وهذا الكتاب هو “قصيدة النثر من بودلير حتى أيامنا “ لمؤلفته الكاتبة الفرنسية سوزان برنار" .
الكتاب صدرت طبعته الأولى عام 1959 ولم تمض على صدوره سوى شهور حتى طلع ادونيس بمقالة عنوانها “في قصيدة النثر “ نشرت في مجلة شعر شتاء عام 1960 ، " ولم يكن ادونيس بهذه المقالة أول من عرب المصطلح “قصيدة النثر” واستعمله في اللغة العربية فحسب ،بل كان أيضا او من شرح مفهوم قصيدة النثر هذه ، ومبررات كتاباتها وشروط هذه الكتابة ، وقد اعتمد ادونيس في كل ذلك على كتاب سوزان برنار باعترافه هو نفسه في مجلة شعر العدد 14 صفحة 75 الى 83.".
تذهب سوزان برنار إلى أنَّ قصيدة النثر هي"قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور…خلق حرّ، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجاً عن كلّ تحديد، وشيء مضطرب، إيحاءاته لا نهائية"
بهذا المعنى ، تبدو
قراءة أولية لقصيدة العوفي الفاتنة الخطوة 3 وجه بضروب التخمين = نص الأم= لا تستطيع حتما الكشف عن أسرارها وخصوبتها :
كيف هوت
يدك البعيدة
من قمة هذا الآتي
قبل أن يدركني الدوار
وتختار يدي
من ستفاوض في وحل القرابة ص 21
كنت أومن ولا زلت كقارئ عاشق للشعر بان " العمل الإبداعي الجيد يفرض نفسه أبدا ، وينتزع من قارئه الحب ، مما يؤهله للبقاء في النفس والذاكرة توهجا ، كما يضع مبدعه في موضع الإشادة والتقدير" وعندما أقرا القصيدة التالية .
في قيلولته
يتعرى " ماتيس" من سيرته
ويبادل عينيه بزهرة اكريليك
كي
ينبت لهما قيظ اخضر
وسماء نازفة
وعشيقان
ينامان على حافة قبرهما الشخصي .
أزداد إيمانا بإبداعية الشاعر ، وقدرته على الدفع "بالريح سريعا نحو سماء لا جدر لها ، لاستجلاب مطر هذا الغيم الغزير كالدمعة". 10
يقول أنسي الحاج –أحد أهم شعراء قصيدة النثر العربية إن لم يكن أهمهم- عن شروط قصيدة النثر: حتى "تكون قصيدة النثر قصيدة حقاً ، لا قطعة نثر فنية، أو محملة بالشعر، ثمة شروط ثلاثة:1 الإيجاز 2 التوهج 3 المجانية.
ينتفض الشاعر مستجيبا :
أول ما خطته على الورق يدها
العاشقة بدا لدخيلتها
أن تكتب للعالم دهشتها، تهليلتها الأولى:
جسدي.41
لقصيدة النثر عند الشاعر المغربي بوجمعة العوفي إيقاعها الخاص، وموسيقاها الداخلية المتناغمة حد الروح ، والتي تعتمد على الألفاظ وتتابعها المزروع على البياض بعناية القلب ، والصور الشعرية وتكاملها الفني في أرقى الدرجات .
في الديوان ، يتحتم سؤال علاقة شعرية بالبياض بسوزان
فالقصيدة لدى العوفي مرهونة بحالة الدهشة من البياض والجمال الذي يصورانه في نفس القارئ ، لكن مع سوزان يسجله لذة عمر ومتعة أبدية ، يستعيد تفاصيله الدقيقة شعراً ناصعا خالصاً يتوج سوزان عروسا.مدائح لثلج، وللقلب وللجسد شهوة .
فاتحة الديوان.. قصيدة " البياض يليق بسوزان" مصافحة أولى لبياض الحب الذي تدونه حالة العشق لقصيدة عاشقة قد يشد القارئ الشوق إليها كلما اختطفته حالة السهو..اوانتابه ولع الدهشة ، الفرحة ، تلك التي أشعلت في الشاعر العوفي حرائق الشعر الفاتن منذ بياضات الشوق ، الى بياضات الرحيل من الحناجر.
تراوح قصائد الديوان الاثني عشر بين المتوسط والقصير، إذ يعمد الشاعر بوجمعة العوفي إلى استجلاء المواقف والمشاعر ، بهسيس الوجدان، بلغة شعرية تفاوض من اجل تميزها ، تنهل من معين المعاني الإنسانية الوجدانية الفياضة الخالصة،.. بل هي لغة توازن بين كل الحيوات في الصور، لغة تستحضر بأسلوب رائع ،كثيف ، عميق ، ناصع، موغل في بياض معاني، كل المعاني التي قد يختزنها الإنسان في تضاعيف تجربته الحياتية في تواطئها المربك .
وإذا كان موضوع الشكل الكتابي، او كتابة الشكل الموثر للقصيدة ، أخذ يلفت الأنظار إليه بوصفه عنصراً دالاً مندغماً في كلية النص، فان " النظرة العاجلة على نصين مكتوبين للشاعر العوفي " تدفع إلى القول إن هذا شعر راق، وهذا شعر أرقى أيضا ، وذلك من مجرد معرفة الطريقة المألوفة لكتابة الشعر وزرعه فوق بياض ، خطوطا وهندسة أحيانا تدنس البياض، الفراغ ، وأخرى تزحمه حد الامتلاء حسب الشاعر والناقد ابوصفاء عبد الرحيم. يقول الشاعر العوفي :
هذا
البياض
جنة
أم خرائب؟
عناقيد عنب تدلت من القلب
أم
لذة فاكهة مستحيلة؟؟
ويبدو أن الشاعر العوفي ظل حريصا على توصيف قصائد ديوانه بعيدا عن كل انفعال ، وبحس المرهف البديع ، لذلك فاضت الشاعرية من الجانبين الصورة والبياض .
وبذلك غدا الحديث عن جسد القصيدة ، أو فضائها، أو تشكيلها المكاني مرة أخرى، سوزانيا . بمعنى أن الشاعر العوفي استباح متماهيا انتهاك بياض البياض ب السوزانية . ثم شرع في توليف القصيدة بما يليق من الق الوجدان ، المجترح من عميق الروح.
نعم أخي الشاعر البياض وشعريته ، "ليس فعلا بريئا أو عملا محايدا، أو فضاء مفروضا على النص من الخارج، بقدر ما هو عمل واع ، ومظهر من مظاهر الإبداعية وسبب لوجود النص وحياته …" إن البياض لا يجد معناه وامتداده الطبيعي إلا في تعالقه مع السواد، " وأنت تؤكد ذلك حين تقول :
الآن وقد
وطأت قدماك الهائلتان
ليل الغواية
لن تحتاج روحك المرصعة بالنجوم
لارتداء خوذتها
اتقاء لشهوة الحقول
أنت_ الآن)
خارج تقويم الألم.ص5
القصيدة هنا " الخوذة النفسية " تفصح عن نفسها ، بوصفها جسدا مرئيا عن لعبة البياض والسواد بوصفه إيقاعا بصريا " لكنها أيضا النافذة التي تسمح باحتضان الربيع الذي لن يكون سوى سوزان برنار . وبمعنى أدق قصيدة نثر في أرقى بهاء .
ولقد بالغ النقاد أحيانا في" توصيف علاقة الشاعر بالامتلاء والفراغ إلى درجة جعل ذلك معبراً عن قلق واحد، وهو انعكاس مباشر أو غير مباشر عن الصراع الداخلي الذي يعانيه المبدع".
في قصيدته الرائعة برقية الى الجنرال يعكس الشاعر بعضا من همومه وانكساراته وخيبة أمله :
سيدي الجنرال
ليس
كل ما يحمله البريد إليك
مديحا للصفات
بل تقسيطا للعزلة
يقذفه الناس الى برجك
كي تزداد تألقا في العراء
استقرارا في المطلق
وما يتعشقه الناس من الرتبة
توصية في الصف
ترقية في الهالات
ووسيطا يعبرون به نحو الواجهة
كل نياشينك المتآلفة على الصدر
لا تحمل إلا معنى واحدا
حروبا خضتها
من اجل أن تنتصر الغواية
او يعود الصوت إليك
وما أدركت
في النهاية
إلا شبهك
نفس نياشين الأمس
تزيح اليوم اسمك عن مهمته.
الأجدر هنا ، قراءات متعددة للقصيدة ، مفتوحة على متاهات ، وعاهات الزمن العربي الجريح .زمن تتشابه النياشين فيه وتتقاطع الأوسمة هزائم وانكسارات ، عبر العصور و الأجيال.
الشاعر بوجمة العوفي ، ارحل بنا حيث تشاء ، وارم بنا في متاهاتك ، اهبط بأوجاعنا الى قرارات الألم ،واكسر رحلتك الولهانة على لوح الزمان قصائد مكتومة . فكل بيت شعري من قصائدك التي يليق بياضها بسوزان "هو بداية رحلة نحو المتاهة التي ليست إلا البياض ، قادمة " من شجن لا يكفي الوقت لردمه" .
يبقى ديوان " البياض يليق بسوزان" كما جاء في قصيدة من الديوان نفسه "عودة قاتلة ، مفعمة باللبس وبعنف الاختلاف "أراد من خلالها الشاعر بوجمعة العوفي ، تثبيت شاعريته في أصقاع معالم اللذة والجمال ، وهو القادم إلينا من الفلسفة أم المعارف ، ومن ذاكرة حفر واستغوار في أدب أمريكا اللا تينية ، تجربة أريد لها أن تظل مفتوحة على ألق الكتابة ، مشرعة على تخوم النقد والتشكيل الى حين. فهنيئا لسوزان بهذا البياض وهنيئا للعوفي على شاعريته وإبداعه الجميل
عزيز باكوش
Aucun commentaire