نسبية الأعمال ومبدأ المشارطة لضبط السلوك عند الصوفية
الدكتور محمد بنيعيش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب
أولا:الأعمال الدقيقة بين المراقبة الذاتية والتشاركية
إن المراهنة على المستوى السلوكي،وممارسة الرياضة النفسية وتزكية أو تنمية الأعمال عند الصوفية هي بمثابة مجال الكَمّ المتصل والهندسة البِنائية للتنمية ،فالميدان أوسع وأعم وأقرب إلى التحليل والتعليل من الناحية النظرية على الأقل، لأنها تمثل مشتركا إنسانيا يمكن التعبير عنه بعلم المعاملة أو السلوك.إذ كما يقول ابن عطاء الله السكندري »تنوعت أجناس الأعمال لِتنوع واردات الأحوال »و « الأعمال صورٌ قائمة وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها »و »لولا ميادين النفوس ما تحقق سيرُ السائرين؛ إذ لا مسافة بينك وبينه حتى تطويَها رحلتك، ولا قطيعة بينك وبينه حتى تمحوَها وصلتك. »
وهذه الحكم وما تحتويه من قيم تجعل من الممارسة السلوكية قاسما مشتركا بين المريد والشيخ في نفس الوقت، كما أنها تتطلب المراقبة من الجانبين ،كل له مقامه ودوره.تماما كما يقول ابن عباد النفزي في الشرح: »إخلاص كل عبد في أعماله على حسب رتبته ومقامه فأما من كان منهم من الأبرار فمنتهى درجة إخلاصه أن تكون أعماله سالمة من الرياء الجلي والخفي، وقصْدِ موافقة أهواء النفس ،طلبا لما وعد الله تعالى به المخلِصين من جزيل الثواب وحسن المآب وهربا عما أَوْعد به المخلِّطين من أليم العذاب وسوء الحساب ،وهذا من التحقق بمعنى قوله تعالى »إياك نعبد « أي لا نعبد إلا إياك ولا نشرك في عبادتنا غيرك ،وحاصل أمره إخراج الخلق عن نظره في أعمال بِره مع بقاء رؤيته لنفسه في النسبة إليها والاعتماد عليها ،وأما من كان منهم من المقربين فقد جاوز هذا إلى عدم رؤيته لنفسه في عمله ،فإخلاصه إنما هو في شهود انفراد الحق تعالى بتحريكه وتسكينه من غير أن يرى لنفسه في ذلك حولا ولا قوة ،ويعبر عن هذا المقام بالصدق الذي به يصح مقام الإخلاص .وصاحب هذا مسلوك به سبيل التوحيد واليقين وهو من التحقق بمعنى قوله تعالى « وإياك نستعين »أي لا نستعين إلا بك لا بأنفسنا وحولِنا وقوتنا .فعمل الأول هو العمل لله تعالى وعمل الثاني هو العمل بالله ،فالعمل لله يوجب المَثوبة والعمل بالله يوجب القربة ،والعمل لله يوجب تحقيقَ العبادة والعمل بالله يوجب تصحيح الإرادة… ».
فنحن إذن أمام أعمال ومقاصد قد تبدو في الظاهر موحدة الإجراء، تجريديةً بامتياز، ولكنها عند الصوفية تخضع لقانون النسبية والترقي بحسب بواعثها ومرتكزاتها الروحية ،وهذه العلاقة تحتاج إلى قواعد رياضية صارمة كربط العناصر ببعضها على سبيل النسبة relation،أو الشرط والتشارط condition أو الاشتمال inclusion ،والتقاطع intersection ،هذا مع اعتبار مبدأ النسبة المئوية pourcentageفي تقييم الأعمال، وخاصة حينما يختلط الإخلاص مع الرياء.وهذه القواعد توظف بدقة متناهية لحساب الحركات وضبط المسار مع الالتزام بالوقت ودورته عبر اليوم والشهر والسنة،حتى إننا قد وجدنا عند الصوفية تقسيما سابقا لزمانه يعدد الساعات في اليوم ،تماما كما هو عليه الحال في عصرنا ،ألا وهو أربع وعشرون ساعة .
يقول أبو حامد الغزالي عن المراقبة في الكتاب الرابع من الإحياء : »واعلمي يا نفس أن اليوم والليلة أربع وعشرون ساعة ،وقد ورد في الخبر: »أنه ينشر للعبد بكل يوم وليلة أربعٌ وعشرون خزانة مصفوفةً ،فيفتح لها منها خزانةٌ فيراها مملوءة نورا من حسناته التي عملها في تلك الساعة فيناله من الفرح والسرور والاستبشار بمشاهدة تلك الأنوار التي هي وسيلةٌ عند الملك الجبار ما لو وزع على أهل النار لأدهشهم ذلك الفرح عن الإحساس بألم النار،ويفتح له خزانة أخرى سوداءُ مظلمةٌ يفوح نِتْنها ويغشاه ظلامها وهي الساعة التي عصى فيها فيناله من الهول والفزع ما لو قُسّم على أهل الجنة لتنغّص عليهم نعيمُها، ويفتح له خزانة أخرى فارغةٌ ليس فيها ما يسره ولا ما يسوؤه ».
ثانيا:التشارط السلوكي وتحصيل المراقبة والأرباح
لا أريد أن أفصل في عرض القواعد الرياضية الموظفة عند الصوفية لتحقيق الإخلاص وارتكازه على مبدأ النية وكيف أن هذه الأخيرة تمثل قاعدة نفسية تشارطية أو تناسبية بامتياز، وذلك عند حصرها في هذه الثلاثية التعريفية القارة وهي: »الإرادة الباعثة للقدرة المنبعثة عن المعرفة ».
بل سأكتفي هنا بإشارة خفيفة إلى أهم مبدأ متولِّد عن هذه القاعدة لتحقيق المراقبة على أساس رياضي محض وهو مبدأ « المشارطة » لتحقيق المرابطة واستئناف العمل المؤدي إلى النتائج الإيجابية ذات البعد التنموي بكل معانيه ومقاماته.
والمشارطة هاته ،فعل من فاعلين، تنبني على مبدأ تجاري غايته المرابحة وتأسيس الشراكات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها بحيث »إن مطالب المتعاملين في التجارات المشتركين في البضائع عند المحاسبة سلامةُ الربح، وكما أن التاجر يستعين بشريكه فيسلّم إليه المال حتى يتَّجر ثم يحاسبَه فكذلك العقل هو التاجر في طريق الآخرة، وإنما مطلبه وربحه تزكية النفس لأن بذلك فلاحُها قال الله تعالى: »قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها » ،وإنما فلاحها بالأعمال الصالحة .والعقل يستعين بالنفس في هذه التجارة إذ يستعملها ويستسخرها فيما يزكيها كما يستعين التاجر بشريكه وغلامه الذي يتجر في ماله،وكما أن الشريك يصير خصما منازعا يجاذبه في الربح فيحتاج إلى :أن يشارطه أولا ويراقبَه ثانيا ويحاسبَه ثالثا ويعاقبَه أو يعاتبَه رابعا ،فكذلك العقل يحتاج إلى مشارطة النفس أولا فيوظفُ عليها الوظائف ويشرطُ عليها الشروط ويرشدُها إلى طريق الفلاح ويجزمُ عليها الأمر بسلوك تلك الطرق ،ثم لا يغفلُ عن مراقبتها لحظة ،فإنه لو أهملها لم ير منها إلا الخيانة وتضييع رأس المال كالعبد الآبق الخائن إذا خلا له الجو وانفرد بالمال « على حد تعبير الغزالي.
وبهذا فيكون الصوفية بجمعهم بين الحساب العددي بالذكر والتوظيف السلوكي في زاوية ثابتة وقائمة قد استكملوا شروط المراقبة والمحاسبة لتحقيق التنمية الروحية والنفسية السلوكية التي هي أساس التنمية الاقتصادية السليمة والمستدامة.كما أنهم قد كانوا خير مفسر لقول الله تعالى : »وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون » إذ في الآية تقسيم موضوعي وتصاعدي أو تنازلي لمستويات المراقبة يمكن لنا تلخيصه في العناصر الختامية التالي:
تقسيم العمل إلى ظاهر وباطن ،خفي وجلي
-الأمر بالعمل على وجه التعاون والرضا
– الإذن بالعمل بحسب خصوصية العامل
ب – الرؤية الإلهية رؤية أزل وحقيقة
– الرؤية النبوية رؤية سنة وشريعة
– الرؤية المؤمِنية رؤية انتماء وطريقة إنمائية
يقول الله تعالى »يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد ».صدق الله العظيم وهو نعم الرقيب.
Aucun commentaire