جرادة : قيم وإرث الطبقة العاملة بين التمجيد والنسيان
تساءل Josef Lépine وهو كاتب فرنسي عاش ويعيش في المغرب الشرقي في رواية له حول جرادة والطبقة العاملة ، تحت عنوان » Lumière du noir » ألم يكن صمت شركة مفاحم جرادة استراحة من أجل التفكير والتأمل ؟ (1) » . وقال أيضا » إذا كان لون الفحم الحجري وغباره يخفيان معالم وجوه العمال فإن أدمغتهم ظلت يقظة تطرح القضايا وتفتح آفاق جديدة كانت تنبثق من أعماق معارك الطبقة العاملة ، ويرى أيضا أن بصيص النور انبثق من الثقب الأسود أي من أنفاق الفحم (2).
وقد جسد الطبقة العاملة في بطل روايته العامل عبد القادر بن العيد ، كما جسد أبناءهم وخلفهم في شخص لخضر معروف بن عبد القادر، ابن بطل قصته ، وقد استوحى أبطال روايته من شخصيات حقيقية عاشت بجرادة ، نسج حولها أحداث ووقائع هذه الرواية .
لم يكن جوزيف ليبين الذي لمست في روايته هذه بوادر تمرير ما يسمى بالرسالة الحضارية للاستعمار الفرنسي في المغرب ، وحده الأجنبي الذي جسد في روايته وإنتاجاته الفكرية ، الإنجازات التي حققتها الطبقة العاملة بفعل نضالاتها الطويلة والمريرة ، والتنشئة الاجتماعية ، والتربية التي خصت بها أبناءها وخلفها ، واستخلصوا منها الدروس والعبر ، وتعلقوا بها إلى حد نسج علاقات دائمة مع جرادة المدينة، وجرادة التاريخ ، بل غيره كثيرون ممن ارتبطوا وتعلقوا بمدينة جرادة ، وما الزيارات التي تقوم بها وفودهم سنويا إلا دليل على ذلك .
إذا كان هذا هو باختصار شديد، حال بعض الأجانب ووفائهم للعمال بجرادة ، فماهو موقف خلف الطبقة العاملة من أبناء المدينة ، و الوافدين من جهات أخرى من المغرب ، وكل الذين يكسبون لقمة عيشهم في أحضانها ؟؟
يشيد أبناء مدينة جرادة بتاريخ المدينة النضالي ويتباهون به ، وتفننوا ويتفننون في تسميتها ، منهم من سماها بالجوهرة السوداء والغادة الحسناء ، وآخرون نعتوها بالأم الحنون ، وتغنى فنانو المدينة وشعرائها بشموخها وكبريائها ، وعزتها وعنادها .ولا أشك في صدق ومصداقية الكثيرين منهم .
ولكن ليس للإشادة بتاريخ المدينة والتباهي بالانتماء إليها وبأسمائها أي معنى، إذا لم نكن خير خلف لخير سلف ، وإذا لم نعتبر المدينة وتاريخها أمانة في أعناقنا وإرثا طوقتنا به الطبقة العاملة عبر أجيالها المتعاقبة التي بدلت التضحيات الجسام ،من أجل توفير الطاقة للوطن ، و من أجل إعمار المدينة ، والرقي بها ، وغرس القيم العمالية والإنسانية النبيلة ، والنهوض بالجانب الاجتماعي من خلال التنشئة والتربية على التعاون والتضامن والتآزر اللتان فرضهما العمل ألمنجمي ووحدة أهداف ومصير الطبقة العاملة وأبنائها .
حاليا في مدينتنا دب النسيان في القيم العمالية التي أشاد بها الأجانب قبل المغاربة ، وخلدوها في إنتاجاتهم الأدبية والفكرية ، رغم أن تاريخ الطبقة العاملة لا زال أقرب إلينا من حبل الوريد ، ولم يمر عليه إلا وقتا وجيزا ، ولا زال العديد من رموزه أحياء يرزقون بيننا ، ولا زلنا نذكر رموز الطبقة العاملة و الشخصيات النقابية والسياسية الوطنية والدولية التي زارت المدينة وتركت بها بصماتها ، وسأكتفي هنا بأمثلة قريبة من محيطنا اليسيط وممن جالسناهم بالأمس القريب في مقرات النقابات ، والقاعات العمومية وعلى مقاعد نفس المقاهي بالمدينة ، و لا زلنا نحتفظ بصورهم وذكرياتهم .
من منا لا يذكر العامل والمناضل الكبير حسناوي اعمر الذي مارس قناعاته النقابية وطرد بسببها ، وكان مقتنعا بضريبة النضال التي أداها ، والتي غير بسببها مصادر عيشه دون أن يمد يده لأي كان ، واشتغل في مهن وحرف أخرى منها حفر الآبار وغيرها من الأعمال ، ولا زلت أذكر ما قاله لي عن كرهه لأحد العمال الذي لامه بعد الطرد التعسفي الذي لحقه ، قائلا « سقطت فيما كنت أنهاك عنه وها أنت تجني نتائج عنادك » ، وكان هذا الكلام بالنسبة إليه طعنة كبيرة تلقاها واستخفافا بقناعاته ونضالاته .
ومن النساء ، من منا لا يعرف فاطنة التازية أرملة السي لحسن وهو عامل سابق ، والتي حلت محل زوجها بعد وفاته وهي في ريعان شبابها في تحمل أعباء تربية أبنائها وبناتها ، وعملت في قطاع النظافة بالشركة ، من منا لم يراها تجوب المدينة راجلة يوميا ، ومن أقصاها إلى أقصاها ذهابا وإيابا ، وغيرها من الأمهات المكافحات والمعروفات بنكران الذات واللواتي لم تستسلمن لليأس، كثيرات .
لا أطيل ، وأظن أن ماكتبته في حق الطبقة العاملة على قلته يفي بالمراد ، وما دفعني لكتابته هو أنني لاحظت مند ما يزيد عن سنتين أن السواد الأعظم من شباب المدينة ، ومن هم في سن النضال والعطاء ، أصبحت مصالحهم الضيقة ، تحجب عنهم الرؤية السليمة التي تعتبر المصلحة الخاصة ضمن المصلحة العامة ، وتعطي الأولوية للأخيرة .
فالمظاهر التي تلوح للمتتبع عن بعد ،وسمعة المدينة التاريخية ، لا تعكس الواقع الفعلي الذي تعيشه المدينة حاليا والذي يكرس الانتهازية المفرطة والكولسة المستشرية والأنانية وما ينتج عنها من نفاق وزيف .
دليلي على ذلك هو ما أصبحت تعرفه المدينة من نكوص في مجموعة من المجالات البيئية والاجتماعية والثقافية …..، وتهميش لملفاتها الكبرى التي أصبحت محط مساومات يعرفها القاصي والداني في المدينة ، ولا يجرؤ من يصطادون في المياه العكرة وما أكثرهم ،ويحلمون بقضاء مآربهم الخاصة في ظل الغفلة والفوضى والانتهازية ، على تحريكها وإثارتها ، وما تكاد تظهر حتى تطمس من جديد .
وهرولة مجموعة من الشباب وتسابقهم نحو بعض الهيآت ….. التي أثبت التاريخ أنها طرف مهم في الأزمات التي عاشتها مدينتنا وتعيشها بلادنا عامة . ومحاولة بعث الروح في أجساد هذه الهيآت المتهالكة ، هي بمثابة إعطائها حسن السيرة وإيهام الناس وجرهم ليلدغوا من جحورها مرات أخرى ، كما أسقط هذا التهافت مجموعة من الشباب في تناقضات خطيرة ، لا قيمة بعد ها لما يتظاهرون به من مصداقية نضالية ويحملونه من شعارات لم تعد تليق بهم .
1 ـ الصفحة 74 من الرواية المذكورة الفقرة االأولى
2 ـ نفس المرجع الصفحة 67 الفقرة الثانية
Aucun commentaire