شهادة البكالوريا و محنة مبدإ تكافؤ الفرص
في مساءلته لكل من الخطاب السياسي التربوي، والسياسة التعليمية، يهمس الدكتور عبد النبي رجواني قائلا: «نظرا لعوامل عديدة، (…) اشتغلت منظومة التربية والتكوين بأسلوب شرطة السير والجولان في حالات الارتباك وغياب التنسيق بين أعضائها. يقع اختناق ويتكاثر المنتظرون لإشارة المرور وتعلوا أصوات المنبهات، فيزيح الشرطي كل الحواجز ليعلن عن بداية التدفق؛ نحو ماذا؟ نحو نقطة الاختناق الموالية. فتصرف الشرطي هناك نفس تصرف الشرطي الأول: اختناق، تزاحم، احتجاج، تدفق. ونفس المشهد في نقطة الاختناق التالية وهكذا دواليك. في الستينات كانت الشهادة الابتدائية محطة للانتقاء المتشدد، الضرورية لولوج الإعدادي. ثم سمح بالتدفق دون ضبط أو مستوى متقدم من الاستعداد والتهيؤ نحو القسم الأخير من المرحلة الإعدادية (شهادة التعليم الإعدادي)، ثم تحولت شهادة البكالوريا إلى محطة انتظار الكثيرين، إلا فئة محدودة. ووصل الأمر في مرحلة أخرى إلى توسيع معبر البكالوريا واستبداله بمعبر الإجازة. لكن عندما تدفق حاملو هذه الأخيرة، كان المآل متاهة المجهول والغطس في بركة البطالة المقرفة ! بل حتى هواة المسافات الطويلة لم يختلف مآل الكثير منهم على البطالة بعد الدكتورة: هل المسار قابل في مستويات متقدمة للضبط؟ أو على الأقل للمصارحة والمكاشفة، وقد تأتيا بعدما أصبحت الأمور على درجة كبرى من الوضوح على كل حال. لكن بأية كلفة مالية واجتماعية ونفسية؟ هل التعليم الجامعي حق، يكفي الحصول على البكالوريا للالتحاق به؟ انه سؤال مشوش بل طابو ومحرم. والواقع أن « الحق المكتسب » قد يكون هدية مسمومة وقرارا وخيم العواقب بالنسبة للفرد والمؤسسة الجامعية والدولة والمجتمع؟ فمن يجرؤ على اقتراح بدائل أساسها الاستحقاق والشفافية والعدالة الاجتماعية، تحافظ في نفس الوقت على حقوق الفرد المتعلم وحق التعليم الجامعي في تحسين جودته وتثمين مساراته ويجرؤ على صوغ تصور متكامل تربويا واجتماعيا حول شهادة البكالوريا كشهادة تقيم مستوى المعارف والمهارات المكتسبة، وكعتبة ذات دلالات نفسية وقيمية متميزة لإعادة التوجيه وبلورة المشروع الشخصي الناجع سواء كان دراسيا أو مهنيا. إن الأحلام تهدهد وربما يستفيق الحالم على واقع مر. والحقائق تدمي لكنها تقوي المناعة والعقلانية وتعزز الترشيد وتقلص من مخاطر الهروب المستمر إلى الأمام. ويتحتم على التصور إعادة الاعتبار إلى المسالك الجامعية وتوفير فرصة ثانية بعد تجربة مهنية للراغبين في الالتحاق بالتعليم العالي. ومع أن المقارنة غير جائزة بالتمام، إذ لا مقارنة مع وجود الفارق، فتجدر الإشارة إلى أن نسبة كبيرة من الطلبة الجامعيين في فنلندا (حيث معدل سن المسجلين في الجامعة يناهز 24 سنة) وفي استراليا وكندا لا تلج الجامعة إلا بعد مرحلة تأمل، وقد تكون مرحلة مهنية تسهم في تحقيق مستوى متقدم من الاختمار والنضج المساعدين على الاختيار والتوجيه الواعيين…»[1]
لن يكون التوجيه – في هذه الحالات- إلا مدخلا لتوعية حقيقية بضرورة التلاؤم المستمر ومواجهة لفضاء متحول وللتحفيز على الرفع من مستوى القابلية للتشغيل مدى الحياة. إن تصورا آخر للتوجيه قد يكون ممكنا في شكل دعوة للاستعداد النفسي والمعرفي والمهاراتي الدائم حول التمثلات والنوايا المستقبلية للفرد (صورة الفرد لدى نفسه، تصور المهن والشغل، الوعي بمكانة الفرد داخل المدرسة والمجتمع) وأيضا استبطان القدرة على القبول بإحداث تعديلات فيها بواسطة الاغناء والتصحيح المتدرجين. إنها الإشكالية التقليدية الخاصة بضرورة إحداث التوازن بين انعدام المشروع ووجود المشروع المقفل والمعلب. ويجب على التوجيه المدرسي أن يعنى بثلاثة عمليات أساسية: فهم العالم والسياق، التفكير في المسار الفردي المأمول والممكن، والحوار مع الأسرة والفاعلين التربويين المباشرين بطريقة تتبنى الدليل والبرهان لأن التوجيه هو في الآن نفسه إدراك وفهم للسياقات الاجتماعية والثقافية، والتفكير في التاريخ الذاتي والاجتماعي للتلميذ، وبناء عليه تعلم التفكير بدون إفراط في « مركزية ذاتية »، والانخراط في المشروع الشخصي. ويتعلق الأمر أيضا بتعلم إذكاء الأمل والتفاعل المعقلن مع مجموع الإمكانات. إن جودة بناء العلاقة مع المستقبل، وكذا تطوير الذوات الاجتماعية لشباب في طور المراهقة مرهونان أساسا بالارتقاء بالتوجيه إلى عملية استشراف دينامكية تزاوج بين الممكن والمتوخى، آخذا بعين الاعتبار القدرات الذاتية والإمكانات المتوفرة لتطويرها؛ لكن هيهات، فالتوجيه متعثر ومعطل على كل الأصعدة.
ندلف إلى الموضوعمن وحي هذه اللحظةوهي لحظة اجتياز امتحانات البكالوريالهذه السنة دورة يونيو 2013، حيث لوحظ أن هناك تعبئة لا بأس بها تبتغي توحيد نفس شروط الإجراء ما أمكن، كما ترجو توفير واحترام وتحصين تكافؤ الفرص لكل المرشحات والمرشحين دون تمييز أو شطط، وذالك من أجل محاصرة الخدوش والخوارم والأخطار المحدقة بمصداقية شهادة البكالوريا العتيدة، ففي هذا الصدد – وبعجالة – رُصد أن المكلفات والمكلفين بحراسة الإجراء كانوا أكثر التزاما وانخراطا، كما أن الدولة بدلت غير قليل من العناء والجهد لتوفير الأمن حول المؤسسات، مراكز الإجراء، مما أوحى بتوفر إحساس بالأمان والسلامة الجسدية لدى كل المتدخلين، هذا الإحساس بالأمن الذي كاد يكون في خبر كان فيما مضى من سالف الدورات، له تأثير السحر في ضمان قدر لا بأس به من الالتزام والانخراط، لذا كان لابد من الإشادة به رغم بعض العتاب المسجل من الزاوية الحقوقية، عنصر آخر لابد من التعريج عليه وهو « الإحساس المتزايد » لدى السلطة الوصية بجسامة وخطورة توظيف التكنولوجيات الحديثة في تهشيم وتهديم « قدسية » وصورة شهادة البكالوريا وتلويث سمعتها، بما يخلخل مبدأ تكافؤ الفرص في رأي المغاربة، ويضرب قيم الاستحقاق والكفاءة والمثابرة والجدية والإخلاص والوطنية والتفاني ونكران الذات وخدمة الصالح العام والإيثار ومحاربة الجشع والافتراس واحترام الغير والديمقراطية، وغيرها من قيم نحن في أمس الحاجة إليها أمام أزمة مالية ورأسمالية عالمية ترخي بضلالها علينا، فالتلميح إلى المعطى القيمي وبعض مفرداته هنا بالضبط له أهمته القصوى، لأن امتحان شهادة البكالوريا حدث جلل، يمس كل اسر وأفراد المجتمع قاطبة من خلال إخضاع مئات الآلاف من التلاميذ لتأثيراته السيكولولوجية والوجدانية والجسدية والعقلية، هؤلاء يرمقون ويتفرسون مبدأ تكافؤ الفرص وهو سيد هذه القيم فإن انكفأ، خرّت معه قيم كثيرة صريعةً؛ هذا المبدأ يحتاج إلى أكثر مما بُدل حتى الآن، وبجهود مضاعفة أكثر؛ فمن ثغراته والتي تتطلب التدخل العاجل ثغرة إصلاح نظام امتحانات نيل شهادة البكالوريا بما يقطع مع النفخ والمحابات والتدليس الذي تتعرض له معدلات مواد المراقبة المستمرة بالسنة الثانية من سلك البكالوريا خاصة لدى تلاميذ المؤسسات الخاصة، وبعض تلاميذ المؤسسات العمومية القادرةِ أسرهم على الدفع والتهويش؛ مثلب آخر تُؤْتى منه مصداقية شهادة البكالوريا وهو وأد مبدأ تكافؤ الفرص ومنذ البداية، خلال المرحلة الابتدائية، خاصة بالأوساط الشعبية والعالم القروي، حيث الاختلالات البنوية الثاوية بالطور الأساسي والإعدادي من التعليم المدرسي، دون نسيان الإشارة إلى تحدي مرحلة التعليم الأولي، فكل المتتبعين يرصدون أن عدم توحيد وتعميم وإصلاح هذه الحلاقات الثلاث من التعليم المدرسي بما يخضعها للتقييم والافتحاص والمراقبة والتتبع عن قرب، خلاف ذالك يشل و يقضم مبدأ تكافؤ الفرص ومنذ الانطلاقة الأولى، حيث نكون أمام فئتين تنطلقان على نفس مضمار السباق لكن إحداها تمطتي دراجات هوائية عجلاتها دائرية، والفئة الأخرى تستعمل دراجات ذات عجلات مربعة بما يعرضها للاهتزاز والارتجاج المتكررين، وعند الوصول إلى آخر سد قبل خط الوصول تتعرض « فئة العجلات المربعة » لكثير من الحفر والمتاعب الإضافية، بينما تدفع الفئة الأخرى الدنانير، لكي لا يخدش النسيم والحرير وجناتها الناعمة، وعند الوصول يلجان إلى نفس القاعة لاجتياز امتحانات البكالوريا، ورغم كل هذه المتاعب التي تتعرض لها الفئة « المغبونة » فقد لا تتوحد حتى في هذه المحطة نفس شروط الإجراء بالنسبة للفئتين؛ يبدو أن هذه السنة شهدت تقدما طفيفا وملموسا لتوحيدها واحترامها، دون شك فإن الله تعالى لا يضيع أجر القائمين عليها، لكن لابد أن نتذكر أن السنة الماضية شهدت حدثا ربما لم يقف عنده الكثيرون لوهلة، لكنه يعتبر سابقة، ويتمثل في شعور أعداد -اعتبرها البعض غفيرة- من الحاصلين على شهادة البكالوريا، بالحيف، نزلوا إلى بعض شوارع العاصمة، يشكون الغبن والظلم اللذان « تعرضوا » لهما عندما رأوا أن أغلب الظافرين بالمؤسسات ذات الاستقطاب المحدود انحدروا من القطاع الخاص وأن هذه المؤسسات اعتمدت على المعدل العام لشهادة البكالوريا لانتقاء المترشحين إليها رغم انه يحمل ويتضمن في أحشائه مولودا تحوم حوله الشكوك وهو معدل المراقبة المستمرة الذي يساهم بنسب 25 في المائة من المعدل العام، وهو عادة ما يكون متَورّما جدا، لدى تلاميذ القطاع الخصوصي أو أقرانهم العموميين القادرين على الدفع في الساعات الإضافية، لذا، فمن الحلول الإبداعية والمنصفة والمؤقتة في انتظار حل شامل، والتي يراها الكثير من الراصدين للمحنة التي تعرض إليها مبدأ تكافؤ الفرص، هو عدم اعتبار المعدل العام لشهادة البكالوريا قصد الترشح للمؤسسات الجامعية والعليا ذات الاستقطاب المحدود، بل الاقتصار بدلا من ذالك على معدلي الامتحان الجهوي والوطني، في حين يتم اعتماد المراقبة المستمرة فقط لتعزيز النجاح والحصول على شهادة البكالوريا، تماما كما حصل مع معدل المراقبة المستمرة والامتحان الجهوي بالسنة الأولى من سلك البكالوريا.
محمد مامو
مفتش التوجيه التربوي/اليوسفية
[1]رجواني ع النبي، في « حول إصلاح التعليم »، سلسلة شرقات، عدد 20، منشورات الزمن، ص: 85، 2007.
Aucun commentaire