المقامات المزمارية : المزمار الثالث – الرجل الذي وُلع بالدف وعَرَّى هشاشة الصف
المقامات المزمارية : المزمار الثالث – الرجل الذي وُلع بالدف وعَرَّى هشاشة الصف
حدثنا أبو الغرائب عن أبي العجائب أن رجلامن أهل التقاليد والعرف،وُلِعَ بممارسة النقد والمحاسبة والمكاشفة والكشف، واشتهر بين الناس جميعا بعزفه للأوتار وبضربه للدف، وكان من شيمتهم رقصة الحرباء والنعامة والدوران واللف…كان لا يهدأ له بالٌ إلا إذا ضمن قوت يومه، ولا يغفو له جفن إلا إذا اطمأن على حال قومه، ولا يرتاح إلا إذا رَذَ بحزم على الممعنين في لومه…اقترح عليه بعض محبيه أن يؤثث قاعة في أعلى السطح، يخصصها لفن الفرجة والطرب والحكاية والمدح، وسيكسب من ورائها ما لا يُقدر من المال والربح…يروي أحد الفضوليين المبرزين في علم التقويم والامتداح، أن صاحبنا فكر كثيرا ثم قبل بالمشروع والاقتراح، وأسلم رأسه لهدوء الوسادة مُعلناً كامل الارتياح…وحدث يوماً أن حضر بأطراف المدينة أجواء فُرجة الحلقة، وكان الراوي فيها يحدث الناس عن أحداث الصفقة، التي كانت قد جرت بين شيخ البعير وبين رئيس الجوقة…صلى الراوي على النبي الكريم وكرر الجمع الصلاة بعده، ثم بدأ ضرب الدف وتوسيع الحلقة وترتيب كل ما عنده، ولما حمي وطيس أحداث الرواية توقف يريد صيده…جمع ما تيسر له من الدراهم والملاليم والقروش، ثم افتتح حكاية أخرى كان أبطالها من البشر والوحوش، عاشوا في حروب يؤججها حب النساء والجاه والعروش…يروي أحد الفضوليين النقاد المتخصصين في فن الحلقة والتنفيس، أن صاحبنا ظل غارقا في الشرح والتحليل والتمييز والتجنيس، هل ما يقوله صاحب الحلقة ينتمي إلى الرواية أو المقامة أو شيء من التدليس؟…وجد في نفسه أنه قادر على امتلاك القلوب، بما يملكه من حكايات تبدد كل أنواع الكروب، وهو الذي خَبِرَه التسكع في الشوارع والدروب…وفي لحظة انسلَّ كالسهم ونزع الدف من بين يدي الحكواتي، وطالب الحضور التسليم على النبي والإكثار من الصلوات، ثم استرسل في حكاية شيخ البعير ودوره في الصحوات…حكى لهم كيف أرسل الشيخ عيونه لتفقد حال الجوقة القائمة، وكيف أخبروه باليقين أن الفتنة بينهم لا تزال نائمة، وكيف استدعى رئيسهم وبحبحه حتى تكون الصفقة بينهما دائمة…ويضيف أنه هيأ له كل ما يحتاجه للفُرقة وشق الصف والتقسيم، والشيخ معتمد على عائدات بعيره عازم ومصمم كل التصميم، فالمال متوفر والفرص سانحة للتأخير والتقديم…يروي أحد الفضوليين المتابعين لكل ما جدَّ في عالم الخوارق، أن صاحبنا نبه إلى طموح الشيخ في المغارب والمشارق، مؤكداً على ما بين النعاج والذئاب من الاختلافات والفوارق…ثم ضرب على الدف ثلاثا مصليا على أشرف الخلق، معددا مصنفا كل ما ارتكبه شيخ الصفقات من الخرق، وكيف أصبح وصمة عار في سائر الغرب والشرق…أنهى صاحبنا حكايته بعد أن فصل وأطال في المقال، وجمع ما حصل عليه من العطايا وما وُهبَ من المال، وسلم الدف لصاحبه شاكرا إياه على فسح المجال…ثم قفل إلى بيته وهو يفكر في نسج حكاية جديدة، تكون أحداثها مشوقة وتنتهي بخاتمة سعيدة، فالناس يرتاحون كلما كانت الحكاية عن مشاكلهم بعيدة…تفحص ما حصل عليه من المال والعطايا، واستخلص طيبة الناس وسذاجة النوايا، وكيف تستوي لديهم الحسنات والخطايا…وصل بعد أن كان مر بالسوق لشراء بعض لوازمه، والخير ضاحك مبتسم له يُبشِّرُهُ بعذوبة نسائمِه، والرزق المعقود بناصية الدف تبدو أنوار معالمه…طلب من النجار أن يصنع له إطارا دائريا من الخشب، وعند الجزار اختار جلد عنزة شدّه إلى الإطار بخيوط القصب، وأضاف إليه حبات من العقيق ليُشَنَّفَ السمعُ بالمزيد من الطرب…توجه بعد الظهيرة إلى ساحة الفرجة كعادته، وراجع لوازمه متحمسا مبتسما شاكرا دوام سعادته، مجربا دفه الجديد حتى يتعود على حسن إجادته…نقر على الدف ثلاثا وسمع صدى مُرُعداً، وأدرك أن هذا النوع من النقر سيكون له مُجْهِداً، ثم ضم الدف إلى صدره وصرخ بصوت عال مُنْشِدا:
سيبدي لكـم دَفِّي غبـاوة جـاهل ومن لم يُجالسْ فليكن خير سائل
شغوف بما يسمو برَهْف المسامع نصوح وأنهى عن هوى كل باطل
وإنِّي لَـمِمَّنْ يعـتني بـدفـوفـه وَمِمّنْ تسـامى قـوْلُهُ فوق قائل
تَعـالوا فعندي ما يُداوي جِـراحَكمْ حكايات غول العصر عن شَرِّ قاتل
وما هي إلا لحظات حتى تحلق حوله جمع من المتفرجين، ولما أعلن عن حكاية رأس الغول وعلاقته بالمدججين، علت أصوات رافضة تتزعمها جوقة من المحتجين…حاول تهدئتهم ونقر نقرا عجيبا على الدف بأطراف الأصابع، وغرق الجمع في صمت رهيب سالت له بعض المدامع، وغيَّر النقر وإذا بالجمع يغلق عيونه تفاديا لغبار الزوابع…غيَّر النقر مستعملا راحة يده في وضع بين المقبوض والمبسوط، فضحك الجمع وقهقهوا وقد غابت عن وجوههم علامات القنوط، وتراقصوا مستعينين بالعصي وبما ملكوا من الأحزمة والخيوط…رقصوا وضحكوا وقد على أسنانهم صدأ السوس، وغارت نظرات العيون في الرؤوس، وأخرجوا كل ما بهم من زفير النفوس… يروي أحد الفضوليين المتخصصين في السر واللغز، أنهم شكروا صاحبنا الذي ذكرهم بأيام العز، فهم لم يرفصوا منذ أن زيد في ثمن الخبز…أمطروه وبحبحوه بالدراهم وبما ملك الكف، ومشى بينهم كالطاووس يغريه الدوران واللف، حتى استمالهم ونفض جيوبهم وامتلآ الدف…أدرك صاحبنا أن بدفه عجبا وبأنامله جوهر السحر، فصمم ألا يتركه مادام هو مصدر كل ما ينعم فيه من الخير، ما عدا إذا انتهى به المشوار إلى السجن أو القبر…أعلن نهاية الحلقة ضاربا لهم موعدا في الغد، حيث سيشنف أسماعهم بما تجود به مهارة اليد، شاكرا لنهم تفهمهم ومدَّهم له بالعون والمدد…جدد النقر بقبضة يده وأصدر الدف إيقاعا غريبا، ولما ضاعف ذلك ليكون الصوت من كل الآذان قريبا، تمزق الجلد وتفرق الجمع معتبرين ذلك أمرا معيبا…أما هو فاستيقظ مذعورا فوجد جلده كجلد الدف بأساريره، نتيجة كثرة هرشه طيلة ليله البارد وإدمائه بأظافره ، ثم نظر إلى دفه ومات بعد أن ألقى بمعاذيره…وفي رواية أخرى أنه لما وجد نفسه على تلك الحال، لعن الدف وما ولّدَ له من هم رغم السمعة والمال، ثم مات ثلاثا مخلفا ما يحتاجه الناس من القيل والقال…..
يتبع مع مزمار آخر محمد حامدي
Aucun commentaire