عصير بنكهة البؤس !
يحدث كثيراً أن نقرّر الذهاب إلى مكان بعينِه كي نجد أنفسنا في مكان آخر لم نبرمج للذهاب إليه، فهل يحدث هذا بمحض الصّدفة أم أن هناك غايةً خفيّة لا نُدركها؟
إنه فصل الرّبيع، غير أن حالة الطّقس بمدينة وَجدة تنبئ بسرعة قدوم فصل الصّيف بحرارته المعتادة.
خرجت قاصدة أحد باعة الجرائد والأدوات المدرسية في الشارع الرّئيسي لاقتناء جريدتي المفضّلة، غير أنني وجدت نفسي بعد دقائق في شارع متفرّع عن الرّئيسي، حيث تجلس امرأة كبيرة في السّن عند أحد أبواب المتاجر، مررت بجانبها فأوقفتني قائلة : »أنا مصابة بمرض السّكّري ولا أملك الآن مالاً لشراء نصف لتر حليب لأنني بحاجة إليه.. لقد شرحت الأمر قبلك للكثيرين ولا أحد يهتم لي. »
طلبت منها بعض الوقت لأبحث في محفظتي، فكّرت في ثمن الجريدة.. ثمن الكرّاس الذي أريد شراءه.. ثم عثرت على بضع دراهم إضافية قدّمتها لها قائلة معتقدة أنها تكفي لشراء لتر ونصف من الحليب.
مضيت في طريقي أفكّر فيما حدث، وكيف أنني لم أتوقع أني سأمر من ذاك الشارع قبل اللحظة، وقلت في نفسي إن هناك غاية ما وراء ما يبدو على أنه حدثٌ مطلقُ العشوائية.
لحظات فقط وظهرت أمامي من جديد امرأة تشبه سابقتها، كانت تجلس أيضاً عند مدخل أحد المكاتب، وتستعطف المارة بكلمات لا تزال ترنّ في أذنيّ : « أنا لا أتسوّل.. إنني لست متسوّلة.. كلّ الأمر أن أحوالي تغيرت.. أحتاج مساعدة أرجوكم.. »
في الواقع، كلّ من يعيش في هذه المدينة معتاد على أشكال من التسول عبر الإحتيال واستغلال المشاعر إن صح التعبير، ففي كلّ مكان يمكنك أن تصادف امرأة تستغل أطفالها لأجل الحصول على بعض المال، أو في أسوء الأحوال شخصاً يدّعي أنه مريض، مُعاق أو أعمى كي يستغل مشاعر المارّة.. وربما كثرة هذه الحالات وانتشار فكرة « مهنة التسول » جعلت المواطنين يفقدون الثقة فيهم جميعاً، ولكن كلّ هذا ليس مبرراً لتجاهلهم.. فــ « إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى « .
كانت المرأة تردد عبارتها وعلامات الهزيمة في عينيها، أو لِـنَقُل علامات البُؤس.. فإن كان ما تقوله صحيحاً، يمكن تصور ألم السّقوط من حياة عادية إلى حياة الفقر والحاجة الماسة للتّسول. إن الإنسان بطبعه لا يسعى للمتاجرة بكرامته إلاّ إذا كان ذلك يفوق إرادته !
أخرجت من حقيبتي عصيراً لأشربه تحت الحرّ الشّديد، وصورة وصوت المرأة لا يفارقان ذاكرتي؛ كان مشهداً مؤلماً لا أفهم كيف لم يحرّك شيئاً في بعض المارّة الذين يبدو من مظاهرهم أنهم قادرون على فعل الكثير لأجل المرأة. نظرت للملصق على العصير : « بنكهة الفراولة » فسخرت من العبارة لأن ما كنت أشعر به تجاوزَ كلّ النّكهات وأفقدني الرغبة في شربه.. كنت أعلم جيداً أن عصيراً لن يفيد أي شخص بحالة تلك المرأة لكنني كنت متأكدة أيضاً من أنه لن يفيد أحداً في مكاني.. لذلك عدت أدراجي وقدّمته إليها قائلة : « خذي هذا حتّى نلتقي في يوم آخر.. «
نظرت إليّ بقوّة لا يملكها الجبناء قائلة : » عصير فراولة.. شكراً لك «
نظرت إليها وقلت في نفسي : « لا، إنه عصير بنكهة البُؤس. »
إنها مشاهد تعوّدنا عليها نحن أهل المدينة، وإن كان المشهدين السابقين مجرد مقطع من الصورة الكبيرة للفقر الذي يجتاح الكثيرين.. هناكَ يحترف التّسول ولا يفكر في البحث عن حرفة أخرى، وهناك من يخرج (أو تخرج ) برفقة أطفاله المحرومين من الدراسة وأبسط الحقوق للتسول، كما أن هناك من لا يحبون الظهور في الواجهة ويكتفون بالألم الداخلي في عزلـتهم البريئة.
وتبقى علامة الإستفهام : البلد الثالث عالمياً في حسن معاملة وإكرام الضيوف يَتنكّر لأبنائه؟
Aucun commentaire