المقامات الدفية : الثاني والأربعون – الرجل الذي هَمَّتْ كتفاه بالرقص أثناء لحظة القنص
المقامات الدفية : الثاني والأربعون – الرجل الذي هَمَّتْ كتفاه بالرقص أثناء لحظة القنص
حدثنا أبو الغرائب عن أبي العجائب أن رجلا من أحلاس الخيل، كان يعشق الفروسية على إيقاع المزمار والطبل، مدربا فرسه على الرقص في النهار والليل…اشتهر بهز الكتفين ببراعة وإتقانه لرقصة « اليعلاوي »، حيث كان يوزع حركاته حسب الإيقاع بالتوازي والتساوي، حتى يغمى عليه منتعشا معتبرا ذلك نوعا من التداوي…التقى يوما في أحد الأعراس بصديق كان يقدره كل القدر، وقد أصبح من علية القوم بعد اقتناصه صفقة العمر، فحكى له ما مر به وما ناله بعد الانتظار والصبر…فَهِمَ صاحبنا أن صديقه أصبح ذا فيلات وضيعات وجنان، بفضل ما فاز به وناله طيلة نومه تحت قبة البرلمان، واقترح عليه الانضمام إلى المنافسة في ما يُسْتَقْبَلُ من الزمان…استشار زوجته وأبناءه ليدلوا برأيهم في الموضوع، وبعد جلسات ومشاورات وافقوا كلهم على المشروع، فالقرية لن تجد مثله في رعاية المصالح والكلام المسموع…قضى ليله في إحاطة مشروعه الجديد بأحسن الخطط، ليتمكن بكل يقين من الفوز والاستفادة من إحدى السلط، فلما أتعبه الحساب نام في الحال قبل أن يقع في أسباب الغلط…وحدث يوما أن حضر أول اجتماع للبرلمان رفقه صديقه، وكان قد أُعْلِنَ عن فوزه بعد مشقة النفس وجفاف ريقه، واختير بعد الانتخاب عضوا بلجنة التشريع ورئيسا لفريقه…يروي أحد الفضوليين المتخصصين في اختصاصات وأشغال اللجان، أن صاحبنا تغير حاله وأصبح يُشار إليه بالبنان، بعد أن ناضل من أجل تشريع العلاج بالمجان…شرَّع للتعليم وسَدَ الخصاص ونَقْصَ الأطر بالتعاقد، وأغلق مراكز التكوين للتحكم في وفرة الموارد، بعد أن فكر في رفع سن المعاش وتأجيل التقاعد…كان كثير النشاط في الكلام وينام أثناء الجلسات، ولا يستفيق إلا إذا أحاط به فضول الميكروفونات والعدسات، وأمواله في البنك ترتفع بين السائلات والمكدسات…كان كلما حضر اجتماعا إلا وذَكَّرَ بمشكلة الأعلاف، وإذا طلب منه الرئيس تحديد الأهداف، اعتبر ذلك نوعا من الاحتقار والإسفاف، وانتابته رغبة في الرقص وهز الأكتاف…كان يتفادى سماع نقر الطاولات في كل المواقع، حتى لا يهتز جسده على إيقاع الأصابع، وينتبه إليه من كانوا يبحثون له عن التوابع…ولما مر عليه عام ونصف قرر ألاَّ يستسلم أبدا للنعاس، وقاطع حضور الاجتماعات واعتبرها وجعا من وجع الراس، واهتم بتنفيذ مشاريعه حتى يُمتدحَ ويُنْعَتَ بولد الناس…تعلم اللغات والسباحة وفنَّ تناول الطعام، وأدرك أن الدخول لا يشبه طبعا الخروج من الحمام، فإما صفقة تَسُلُّه من الفقر أو بهدلة على الدوام…يروي أحد الفضوليين المتخصصين في العلاقات بين الأمم، أن صاحبنا اشتهر عند أصحاب النشر والقلم، وزادت شهرته في بلدان العرب والعجم…سافر إلى مدن العرب والإفرنج في إطار أنشطة التوأمات، ورأى كيف تحيى مدنهم ومدننا غارقة في الصدمات، حيث لا حدائق تغري بالتنزه ولا ما ينير الظلمات…جلب كل ما تشتهيه العين وما ينشرح له شَمُّ المناخير، ولم يكلف نفسه معرفة جريان المياه العديمة عندهم بالمقادير، ولا كيف تُقَصِّرُ المواصلاتُ عندهم سرعةَ المشاوير…أراد أن تكون له هواية يتباهى بها بين نظرائه، فتعلم مبادئ القنص هواية وليس طمعا في ثرائه، فاشترى بندقية وسلوقيا كلفه الكثير في شرائه…يروي أحد الفضوليين المتخصصين في فن الرماية والصيد، أن صاحبنا تدرب على إصابة الهدف ولو من البعد، وإتقان التسديد في قنص النحلة وسط الشهد…حل فصل الخريف حيث تنشط حركة موسم القنص، وتفقد صاحبنا بندقيته وشملها بالمسح والفحص، وأعد ذخيرته وكان قد اشتراها من قبل في زمن الرخص…توغل في الغابة حيث الأشجار وأعشاش الطير في الجبل، وأمر سلوقيه أن يُسرع من خطواته ويزيد في العجل، وإذ هما يسرعان عنَّ لهما سرب من طيور الحجل…فرح صاحبنا واعتبر أن هذا السرب مبشر بالخير، ومسك ببندقيته مستعدا بعد أن قلل من وقع السير، وانبطح السلوقي متابعا ومنتظرا تنفيذ الأمر، وفي لحظة نشوة استرسل يقول شيئا من الشعر:
رقصتُ والرقصُ يجري في دم الرُّكَبِ ورثْـتُ رايَـتَه عـن ثُلَّـتي وأَبي
الـدّفُّ يُـرعِشُني والنّـاي يُطربُني مـنْ يَـرْتمي في هواه لَنْ وَلَمْ يَتُبِ
شُغِلْـتُ عنْـهُ بما حُـمِّلْتُ مـنْ ثِقَلٍ ما كنْتُ أحـسب أن السّرَّ في القُبَبِ
يروي أحد الفضوليين المتخصصين في تربية الوحيش، أن صاحبنا لما زلت قدمه في حفرة مكسوة بالحشيش، قفز منها سرب طير مخلفا وراءه سحابة من الريش…ثم رمق حجلة على الجبل تعتصم بجحوره وتحتمي بقمته، فسدد فوهة بندقيته يريد قنصها في الحال بكل همته، فلما رمى طارت بعيدا بعد أن أخطأ الجبل برمته…استعان بمنظار البندقية ليقرب المساحة بينه وبين موقعها، فأحس برغبة تُحرك كتفيه والبندقية بين يديه تحيد عن موضعها، فشَرَع في الرقص منشغلا عن قنص الحجلة ومصرعها…نظر إليه السلوقي ثم ابتعد عنه لقضاء مغانمه، واستمر هو في الرقص مستعينا بطقطقات فمه، إلى أن أحس بالتعب يهد مفاصله ويَشُلُّ سريان دمه…رجع السلوقي خلسة فوجد صاحبه نائما مائل الرأس، فبادره بنباح قطعت تواصله لحظات من اللحس، ثم لهث بغضب في وجه صاحبه النحس…مدَّد السلوقي جلدا حول كومة من الشجر، وابتعد عنه قليلا وشرع في قذفه بالحصى والحجر، إلى أن رأى صاحبه يتحرك على وقع الوتر…رفرف سرب الطيور وحط فوق الأغصان، ونبح السلوقي حتى أصيب بالخَرَف والهذيان، وغرق قلب صاحبنا في النبض والخَفَقان…ولما استيقظ وجد نفسه عاجزا على النطق والنبس، وزوجته تعوذ مما أصابه من الأذى والمس، فنظر إليها ثم مات واصفا إياها بالنحس…وفي رواية أخرى أنه لما فك اللغز وسر قصته، قام من الفراش وأشبع الرغبات الأخيرة برقصته، ثم مات ثلاثا بعد أن حمّلَ كتفيه حرقة غُصَّته….
يتبع مع دف آخر . محمد حامدي
1 Comment
شخصيآ أُعجِبْتُ كثيرآ بمقاماتك ، أتمنى لك النجاح في كل ما سوف تكتبه ! لقد أمتعتني – أتكلم عن نفسي – شكرآ السي محمد حامدي !!