العـــــودة إلـــــــى الإنســــــــــان ابـــــن الطبيعـة
في نظر علم الانثربولوجيا البنيوية، كل
المجتمعات لها حضارتها الخاصة، التي لا
نقول عنها أنها متقدمة أو متخلفة، ذلك
أن التطور والتخلف هو من خصائص الدراسات
الماركسية.
ويجتهد بعض الانثربولوجيين أن يرصدوا
حياة المجتمعات البدائية البسيطة في
علاقاتها الداخلية وسلوكها وطقوسها
وثقافتها المادية والمعنوية وأنظمتها
الدينية والسياسية والعائلية….الخ.
نظرا أنها تمثل البداية التاريخية
للمجتمعات المتقدمة المعاصرة.
ولكن المرحلة البدائية لا تعني المرحلة
المتوحشة (آكلة لحوم البشر) وإنما تعني
مرحلة يعيش فيها الإنسان على الطبيعة
وبواسطتها ومعها وفيها، وليس على
التطبع. ومن أساليب التطبع ابتكار
الإنسان لأساليب التعذيب والقتل
والتنكيل بالجثث وفي هذا الإطار أبدأ
برصد بعض الصور النابعة من مراجع
ومصادر، وأخرى مصدرها القنوات
الإخبارية والصحف والمجلات.
ففي كتاب « الحقيقة الغائبة » للدكتور فرج
فودة، وهو أحد ضحايا الأعمال الإرهابية
لمجموعات متطرفة، في هذا الكتاب نصادف
من خلال التاريخ السياسي للدولة
العباسية: أن أبا العباس السفاح أول
خليفة عباسي، أمر بإخراج جثث خلفاء بني
أمية من قبورهم، وأمر بجلدهم وصلبهم
وإحراق جثتهم ونثر رمادهم في الريح، وهو
الذي استقبل 90 فردا من بني أمية في قصره
ليطعمهم ويعطيهم الأمان، فإذا به يأمر
بضربهم بأعمدة حديدية على رؤوسهم حتى
قتلوا، وأكل طعامه هنيئا مريئا على
جثتهم، وهذه الوقائع يعتمد فيها فرج
فودة انطلاقا من ما كتبه ابن الأثير في
كتابه الكامل الجزء الرابع صفحة 334.
وفي نفس المرجع يذكر بعض أفعال أبي جعفر
المنصور مؤسس الدولة العباسية الحقيقي،
وثاني خلفاء بني العباس فلقد أرسل ابن
المفقع كتابا صغير الحجم، عظيم القيمة
أسماه (رسالة الصحابة) نصح فيه الخليفة
أبا جعفر المنصور بحسن اختيار معاونيه
وحسن سياسة الرعية، وكان في نصحه رفيقا
كل الرفق، رقيقا غاية الرقة، ولعله كان
ينتظر من المنصور تقديرا أدبيا وماديا
يليق بجهده، ولعله لم يتصور أن مجرد
إسداء النصح للمنصور جريمة، وأن غاية
دور الأديب في رأي المنصور أن يمدح
ومنتهى دور المفكر أن يؤيد، وأن عقاب من
يتجاوز دوره كما فعل ابن المقفع، أن
يفعل به كما فعل بابن المقفع الذي قطعت
أطرافه قطعة قطعة، وشويت على النار أمام
عينيه، وأطعم إياها مجبرا قطعة قطعة حتى
أكرمه الله بالموت في النهاية، ولعله
تساءل وهو يمضغ جسده وبأمر أمير
المؤمنين: أي أمير وأي مؤمنين؟
وللذكرى فقط، إن أبا جعفر المنصور هو
صاحب القولة الميكيافيلية المشهورة
« إذا مد عدوك إليك بيده فاقطعها إن أمكنك
وإلا فقبلها، ورغم هذه السادية
المرضية، فإنه يصنف مع الملوك الأقوياء
الذين لهم شخصية قوية، رغم أن المعايير
الحالية التي تؤسس على معطيات علم
التحليل النفسي لتحديد الشخصية القوية
لا تعني خلو الإنسان من الرحمة والشفقة
وبلوغ الدرجة القصوى في الوحشية. إن
الشخصيته القوية هي ما تجلت في الرسل،
وخاصة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام
الذي كان بعيدا عن الفظاظة، مستعملا
الحكمة والموعظة الحسنة، وكان الأسوة
الحسنة رحيما بالمؤمنين رؤوفا بهم،
وكان يجادل الكافر بالتي هي أحسن،
متأدبا مع مخاطبيه، ومستمعا لهم
بإصغاء، وغير ذلك من المؤهلات التي لا
تتوفر إلا فيه كقائد وكإمام وكمعلم،
وكرئيس دولة، وكزوج وكأب وكجد إزاء
أحفاده، وكصاحب صادق وعادل ووفي
بالعهود، وهو الذي يقترح ولا يأمر ويخدم
ولا يقبل الخدمة من أحد، واعتبر نفسه
خادما لأمته ولم يعتبر أمته خادمة له،
وقس على ذلك من المؤهلات الفكرية
والعاطفية والأخلاقية التي يستحيل أن
توجد في شخص واحد، ولا يمكن أن توجد في
أي شخص كرئيس للدولة، لا ماضيا ولا
حاضرا ولا مستقبلا.
لن نستقرئ التاريخ السياسي استقراءا
تاما لإخراج جميع المظاهر المتعفنة
للسلوك الوحشي للإنسان، والتي يتساوى
فيها مع الكلاب البرية الوحشية
المتوحشة التي تلتهم فريستها وهي على
قيد الحياة، فتقطعها تقطيعا حتى الموت،
ولعل هذا ما فعله بعض ممن ينسبون إلى
الجماعات الجهادية التكفيرية، حينما
ألقت القبض على جندي سوري على أطراف
الحدود السورية العراقية، فبدأت بتقطيع
أوصاله أمام زملائه وهو حي، فلا نظن ولا
نعلم أن الإسلام يأمرنا بالتنكيل
بالأسرى (وهؤلاء ليسوا مشركين) وجماعة
أخرى من نفس الفصيل كبلت أرجل وأيدي
جنود سوريين وقعوا أسرى، وأغمضت أعينهم
بقماش أسود، وهم جالسون كأنهم نهضوا من
السجود، رؤوسهم منحنية، ويمر عليهم شخص
ملتح، يحمل مسدسا يفرغه في رأس كل واحد
منهم ويصرخ بأعلى صوته (الله أكبر)، فأي
قيم دينية سماوية أو وضعية تسمح بهذا
التصرف الوحشي الهمجي؟ أية أخلاق
تستبيح دم ألأسير بدون سلاح؟ أليس هذا
هو الوجه المظلم البشع الذي يبديه هؤلاء
للرأي العام العالمي على أنه الإسلام
الحق؟ وأن المسلمين من هذا الطراز؟
ولكن…حتى العالم الغربي الذي ينعتنا
بالبربريين (نسبة إلى شعوب بربرية أو
أوروبية منها الوندال والفيكنج) لا يخلو
مواطنوها من العنصرية والقتل والسادية
ولكن لا تصل إلى مستوى ساديتنا التي ليس
لها مثيل.
فرغم الوصلات الإشهارية عن حقوق
الإنسان كجنين ورضيع وطفل ومراهق ورجل
وامرأة وشيخ ومعوق وأسير ومريض…إلخ.
إلا أن الوجه الآخر الخفي والحقيقي
للإنسان الغربي يظهر في مناسبات عدة
منها على سبيل المثال لا الحصر، أثناء
حرب الخليج الثانية، وفي سجن أبو غريب
حيث كان يتواجد سجناء عراقيون (هم أسرى
حرب) يسهر على حراستهم جنود أمريكيون،
عمد بعضهم إلى استباحة أجساد الأسرى وهم
عراة، وكدسوهم الواحد فوق الآخر
مستعينين بكلاب مدربة على الافتراس
والوحشية، وقاموا بتصويرهم، وبعض
الأحيان وضعوهم في وضعيات مخلة
بالآداب، وقاموا بتصويرهم أيضا لكي
يتسلوا بهم في فترات استراحتهم، فعلا
إنها معاملة في قمة الإذلال والاحتقار
والتنكيل بالإنسان العربي وكرامته، هذه
الكرامة هي نفسها التي يرفعها هؤلاء
كسلاح في وجه أي حاكم لا ينصاع
لإرادتهم.
وللذكرى أيضا ما فعله جنود أمريكيون
(أمريكا قائدة العالم في الحضارة وحقوق
الإنسان) بجثث جنود أفغانيين، بحيث
تبولوا على هذه الجثث أمام كاميرات
العالم كله، وفي مقطع آخر قاموا بإحراق
مجموعة من المصاحف…وغير ذلك من الأعمال
التي تعكس الحطة والخسة والدناءة وسوء
الخلق والتربية.
هذا هو الوجه البشع للإنسان غربيا أو
شرقيا، عربيا أو أعجميا متقدما أو
متخلفا، متوحشا أو متمدنا، عندما تنفك
عن القلوب أقفالها ويتحرر الجانب
الحيواني البيولوجي الموجود داخل
الإنسان ألم يقل الفلاسفة وعلماء النفس
وأهل المنطق عندما عرفوا الإنسان أنه
حيوان ناطق / اجتماعي/سياسي/ أو ضاحك؟؟؟
ألم يجب فيلسوف ألمانيا المقتدر
..إيمانويل كانط .. عن السؤال: من هو
الإنسان؟ وما الذي يميزه عن الحيوان؟
أجاب » »يتميز الإنسان باللغة والثقافة
والعمل » صحيح وبصريح الدراسات النفسية
أن المرحلة الحيوانية التي يمر بها
الإنسان تتلخص في الرضاعة والطفولة
المبكرة، ولكن الطفل يبدأ بالتحكم
تدريجيا في هذه الغرائز البيولوجية
الحيوانية وكذلك العواطف والانفعالات،
عندما يبدأ بالدخول إلى البيئة
الاجتماعية، التي تفرض عليه أفعالا
وسلوكات اجتماعية كالتعاون والحب
والتضحية والرأفة والرحمة…الخ.
أخيرا نقول صحيح أننا في القرن 21 ، وهو
عصر تروج فيه أفكار حقوق الإنسان دون
اعتبار لسنه أو لونه أو جنسه أو فكره أو
عقيدته أو وطنه، ورغم النداء العالمي
الذي هو تصريح فصيح لحقوق الإنسان
واحترام كرامته، ولمناهضة كل أشكال
التمييز العنصري والجنسي، والتعذيب
والقتل والإقصاء والتهميش
والتشويه…رغم كل هذا نسجل أن الإنسان
البدائي الذي عاش في الطبيعة ومن
الطبيعة، كان أكثر إنسانية من الإنسان
الذي يفخر بالتقدم في كل العلوم وكل
ميادينها، وكل البحوث الإنسانية
والفكرية والجمالية والثقافية
والترفيهية…على الأقل لا يقتل هذا
الإنسان البدائي إلا بدافع الخوف أو
الجوع.
فلقد عاش متنقلا باحثا عن القنص والصيد
والتقاط الثمار، وكأنه ابن الطبيعة.
حتى أن بعض الفلسفات تمردت على
تكنولوجيا العصر التي جعلت الإنسان
أشبه بالآلة بلا عواطف وبلا إنسانية،
وبلا أخلاق وبلا حياة حقيقية، ودعت إلى
العودة إلى الأصل والمنبع أي إلى
الطبيعة نتصادق معها من جديد.
ولا ننسى أن متزعم هذه الفلسفة هو « هربرت
ماركوز » وهذه الفلسفة كان لها صدى في
الستينات من القرن الماضي، إنها ثورة
ترجع الإنسان إلى أمه الطبيعة التي منها
خلق وفيها يعيش وفيها يموت، أي يعود إلى
الأصل الذي تكون منه
=====================.
v للمعرفة أكثر الرجوع إلى المراجع
التالية:
1.النزاعات المادية في الفلسفة العربية
الإسلامية. الجزء الأول: حسين مروة، دار
الفارابي بيروت 1979.
2. الحقيقة الغائبة: د.فرج فودة، مطبعة
النجاح الجديدة الطبعة الثانية 1989.
3.العقل السياسي العربي محدداته
وتجلياته، د.محمد عابد الجابري، دار
النشر المغربية السنة 1990.
4.رؤيا تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية
والتربوية، د.محمد عابد الجابري، مطبعة
دار النشر المغربية 1977.
من إنجاز: صايم نور الدين
1 Comment
Merci Monsieur Saïm, je me suis délecté de la lecture de votre article : enfin, une parole qui remet les pendules aux vraies heures.
Je serai heureux de vous relire