في يوم قنص: بعيدا عن السياسة
رمضان مصباح الإدريسي
تقديم:
لا يعرف أغلب قرائي أن أعز ساعات حياتي ,بعد قرآن الفجر والكتابة, هي ساعاتي التي أقضيها في الجبال والبراري؛قناصا على خطى الأسلاف ,حين أدركوا ألا حياة لهم دون الاعتداء على حياة الكائنات الأخرى.
شتان بين حاجاتهم الحيوية، وترفنا المعاصر؛ممارسين « رياضة الملوك ».
حقا إن العِرق دساس ؛ولولا هذا الدس ما أطلقتُ رصاصا على حجل رائع ؛تختزل ألوانه كل ألوان محيطه البيئي.
رافقوني ,في رحلة أول يوم من موسم القنص؛عسانا نبتعد عن قوم يرون في انتقاد الحكومة الحالية غمزا لقناة الدين ؛وإغراء بالعلمانية ….
ثلاث رصاصات:
شكل الأمر ,وهو رياضي فيدرالي , المدخل البارز لموسم القنص الحالي ؛فكان على حاملي أسلحة القنص الأوتوماتيكية
تعديلها امتثالا لقرار » إعفاء » الطريدة من الطلقة الرابعة والخامسة.
ورغم إلحاح الرغبة في الابتعاد عن السياسة وجدتُني ,وأنا مُنهمك في فك براغم سلاحي الرباعي، لتعديل طلقاته, أربط بين هذا القرار الرحيم, وبين « عفا الله عما سلف » المشهورة؛الى درجة يمكن اعتبارها عنوانا لمرحلة سياسية في المغرب التبست فيها الأمور كثيرا على المواطنين ؛وهم يستمعون إلى خطاب سياسي شعبوي ,يوهمهم بأن فهم السياسة أصبح في متناولهم ؛لكن الممارسة تنتصب جدارا يصدمهم بجلاميده .
كل يوم يزدادون اقتناعا بأنهم يفهمون أنهم لم يعودوا يفهمون شيئا.
طارت كل الوعود كسرب القطا ؛ولا من يعيرك جناحه لتلحق بقية من عقلك تسعفك.
وحينما تقرأ كتابات النُّصرة المتوحشة تشعر وكأن القوم يستعيدون زمن حروب الردة ؛ويصنفون النقاد في خانة المرتدين ؛ ويقسمون أنهم ماضون في محاربتهم ولو على عقال منعوه؛كما قال الخليفة ابو بكر رضي الله عنه.
أنت الذي لا ترى في بنكيران سوى راكب ناقة « تروح وتغتدي » ؛وقناص بخراطيش بيضاء ؛هاهو يخترق الجامعة الملكية المغربية للقنص ؛والمندوبية السامية للمياه والغابات ومحاربة التصحر؛ ليفرض قراره بإنزال القوة الضاربة للقنا صين بدرجتين..
« عفا الله .. » فلعل بين وحيش الجبال والغابات مفسدين قد تصيبونهم بالرابعة والخامسة ؛حينما تتمنع ذوات الريش في الأعالي ،وتتوالى طلقاتكم.
قف عند هذا الحد,يا رجل, فقد آليتَ على نفسك ألا تقرب ,في يومك هذا ,الأنثى اللعوب التي اسمها السياسة .
قناصو الليل مروا من هنا::
تمتد على مدى البصر تلال متناسلة ,ومتناسخة يكسوها نبات »الدوم » وسدر متناثر هنا وهناك .
روعة الخضرة على أرضية بتربة حمراء,تنسيك في مزالق الأحجار تحت قدميك ؛فكونها غير ثابتة يجعلك تكاد تقع أرضا مرات ومرات.
تطلب من رفيقك أن يتوخى الحذر من المزالق فيجيبك بأن حرية التعبير أصبحت مضمونة فلا خوف. أجاب ,مكملا حديثا في السياسة,وأنت لم تقصد سوى سياسة المشي في هذه التلال الوعرة. على أي هما سيان .
ها أنت توشك ان تواقع حِمى الأنثى اللعوب في يوم أفردته للرياضة والمتعة.
أُلاحق كلبتي « ليندا » وهي تستكشف التلال صاعدة ونازلة ؛بخفة ومثابرة وصدق غريزي.
قلت بيني وبين نفسي :ان ذهنها غير مشتت مثل ذهنك ؛ولا يشرد بها عما هي فيه من استنهاض لأرنب نائم ،أو اقتفاء أثر حجل يَصَّعدُ الجبل في هذه البُكرة الخريفية.
لا شيء في جميع الجبهات؛عدى قبُرات يرفرفن هنا وهناك ؛إذ خلا لهن الجو، فصفرن مطاردات لبعضهن البعض.
ثم تخاطب نفسك: لا تماسيح ولا عفاريت في البراري ؛إذ صارت كائنات مدينية ؛تختفي لكن تحت الأضواء الكاشفة.
ألم تقل الصوفية: « من شدة الظهور الخفاء »؟
يتوقف صديقي ويناديني: ها هو الدليل على أن قناصي الليل مروا من هنا :كانت الخرطوشة الفارغة جديدة كل الجدة ؛ونحن متأكدان أننا لم نُسبق إلى المكان في هذا الصباح.
ان امتثالنا لقانون القنص لم يمنع الآخرين من القنص السهل و الفاسد ؛الذي يداهم الحجل,ليلا, في مبيته بين الشعاب.
هذا ما يفسر ألا شيء في جميع الجبهات رغم تمرس « ليندا » في تخصصها.
إذن هو الفساد فعلا موجود في البراري أيضا. وها أنت ,رغم أنفك,مجبر على العودة الى السياسة ؛بما فيها تَوقعُ أن تعثر على العفاريت؛ مادامت التماسيح لا تعيش في جبال الدوم الجافة.
ننحدر وننحدر ,صوب واد عميق جدا من وديان « آيت سغروشن » .بدا لي من مجراه العميق وطوله ,وكثافة أشجاره ,أنه يمكن أن يؤوي المغاربة جميعا ,ولا يظهر لهم أثر. زمن الحرب النووية طبعا.
الذاكرة تعج بصولات هذه القبيلة ,وجارتها آيت وراين ؛وهما تواجهان جبروت طيران فرنسي جبان ؛يخشى جنوده النزول أرضا لمواجهة أسود بويبلان ؛و لاساتر لهم سوى كهوف أعدت لهم منذ الأزمنة الغابرة.
كم هي رائعة نصرة السلف للخلف؛نصرة عسكرية إستراتيجية ؛وكم هي منافقة نصرة الخلف للسلف ؛كما يقع في أيامنا هذه ؛طمعا في دنيا يصيبونها أو أنثى السياسة.
ورغم استماتة الحذر في توقع الخطر:الانزلاق والوقوع ,لا قدر الله,في وهاد لا يقر لها قرار ؛تراءت لنا امرأة نازلة ,بدورها,وراء بغل قاصدة عين ماء سلسبيل في غور الوادي.
كان ممشاهما في غاية الخطورة ,ورغم هذا لا يبدوا عليها أدنى قلق أو رهبة ؛فهي متعودة على هذا النزول والصعود ؛ربما مرات في الأسبوع.
مرة أخرى تبحث معي السياسة عن الدولة ,عن الجماعة القروية ,عن أثرياء الوطن ؛وحتى عن عفاريت من الممكن أن يشقوا لهذه القبيلة طريقا آمنا الى العين؛أو يرفعوا ماءها بتقنيات العصر.
سألت فقيل لي :هذا الماء يسقي ,عبر أنابيب العديد من القرى بجماعة بوزملان(دائرة تاهلة) لكن الساكنة المحلية عليها أن تغامر بالنزول عبر ممر ضيق جدا لا يسمح بأدنى زلل.
ثم قيل لي بأن بغلا محملا بالخروب هوى,سابقا, إلى القاع مودعا عِشرة صاحبه ؛اذ تركه قائما يبكي وكأنه فقد طفله.
مغربي,من زمن بنكيران,يسكن كهفا:
استوينا في مكان طلبا للراحة ,وبين يدينا ما تيسر من طعام .شرعت اشرح لمرافقي جيولوجيا الكهوف ؛وكيف أنها من أثر الماء في أزمنة الثلوج والرواء ؛وكيف اتُّخذت مساكن آوت أجيالا من أسلافنا. قلت :أنظر اليها الآن ,فارغة موحشة,وكأنها لم تأو بشرا ,ولم تَدُر من أجل احتلالها حروب طاحنة, في هذه المنحدرات الوعرة.
ضحك وقال لي : يا أستاذ لماذا تربط سكن الكهوف بالأزمنة الغابرة ؛لي صديق في مكان قريب من هنا لا يزال يسكن كهفا مع أمه وأطفاله.
يُسمى المكان » تالحيط » والكلمة تصحيف أمازيغي ل: الحائط.
وأضاف :إذا شئت قصدناه ؛خصوصا وقد شكا لي من أسراب حمام تفسد عليه هدوءه ,وتصر على أن الكهف لبني جلدتها , وريشها,وليس لبني البشر.
ضحك صاحبي مرة أخرى وأنا أقول له:لقد صدق الحمام وكذب صاحبك . لن أقصد الكهف لمساعدة زميلك على التخلص من المالك الأصلي لمسكنه.
وفي عمقي أحسست بمرارة وحسرة:كيف تسمح السلطات والمنتخبون ,وكل فعاليات المجتمع بهذا؟
تذكرت الممثل الذي خلصه جلالة الملك من سكن السطوح ؛وتمنيت أن يحصل نفس الشيء مع هذا المواطن.
قلت لمرافقي:هل اتخذ الكهف تكملة لمسكن له كما يحدث في مناطق جبلية عديدة أم لا يسكن غيره؟ أكد لي ألا مسكن له عدا الكهف. وأضاف:لو نظرت الى أمه لما خلتها بشرا من بشاعة منظرها.
الله الله يا بنكيران أينك من ابن الخطاب وهو يحسب لشاء دجلة ألف حساب؛مخافة أن تقع في النهر وهي في عهدته.
(لكل غاية مفيدة: »تالحيط » جماعة بوزملان ,دائرة تاهلة,عمالة تازة)
في وكر الحمام رأس رجل:
حللنا دوحه فَحَنا علينا حُنُو المرضعات على الفطيم
وأرْشَفنا على ضما زلالا ألذ من المُدامة للنديم
يصدُّ الشمس أنَّى واجهتنا فيحجبها ويأذَن ُللنسيم
يَروعُ حصاهُ حاليةَ العذارى فتلمس جانب العقد النظيم
انه الرائع » وادي بوشرافات »- الشرفات- ولم أجد وصفه التام سوى في هذه الأبيات للشاعرة الأندلسية حمدونة بنت المؤدب.
ومن يعرفه قد يجد الشاعرة مقصرة في الوصف.
أما أنا ورفيقي وثالثتنا « ليندة » فقد أنسانا ماؤه الهادر وظله ؛وقطوف الرمان الدانية ,عن يمين وشمال ,في حرارة هذا اليوم الخريفي ؛ الذي أنهينا نصفه دون أن نطلق ولو رصاصة واحدة. لقد توالى مرور المفسدين من هنا حتى أتوا على كل ذات جناح ووبر.
نسينا كل شيء الا التملي في هذه الجنة المغربية التي لا تعرفها غير الساكنة ,وسلالات القناصين.
كل هذا الرزق البيئي وساكنة الجوار,من الشباب, لا تجد شغلا عدا الانخراط في سلك الجندية والذهاب بعيدا صوب الصحراء؟
كل هذا الجمال ولا قدرة لنا على إغراء السابلة الأجنبية بالمرور من هنا أيضا ؛صوب مفازات الجيولوجيا الغابرة ,وما يؤثثها من كهوف تحتفظ بكل أسرارها وكأنها الثقوب السوداء في السماء.
على مقربة منا أطلال رحى ماء ؛أتت عليها تقنيات الطحن الحديثة .
ذُكر لي أن سكان الجوار كانوا يضطرون الى المبيت قربها في انتظار دورهم.كانت بطيئة لكنها شكلت مرحلة تطور مهمة في زمنها:الانتقال من الرحى اليدوية الى المائية.
تبدو لي بقايا صخرة دائرية منحوتة ؛كأنَّ قلبها انفطر من وطء الهجر والنسيان. قد تجد القلوب في الصخر وتفتقدها في البشر .
كم يلزم من الوقت ليُنصف الحمامُ؛ ويُطرد ساكنُ الكهف الى مسكن لائق ببني جلدته؟
كم من السنين ستمضي لتنتبه الحكومة الى هذا المنجم البيئي الذهبي ,فتفتحه للسكان ؟
هذه المساحات الشاسعة ,المكسوة دوما ,ألا تصلح لإنتاج ولو ورقة واحدة؛ أو سلال رزق ؟
هل تستطيع الحكومة ,الملتح ثلثها,أن تفهم في لغة هذا المكان وساكنته؟
في طريق العودة,وقد مالت الشمس صوب المغيب, مررنا – صُعَّدا- بمحاذاة جرف شاهق ,ألقى إلينا بسرب حمام مذعور .طلقة ,طلقتان ؛وإذا بليندة تتنفس الصعداء: أخيرا ها أنذا أجد معنى ليومي هذا.
عادت بحمامتين من ضحايا عدوان يتكرر منذ الأزل.
واصلنا الصعود وترقب ما تبقى من حمام في الجرف .
ماذا أرى؟ رأس آدمية تطل من وكر شاهق .أكد مرافقي صدق بصري رغم ستينيتي.ثم أضاف :
لعله « نحال » يبحث عن الشهد . أَوَيستطيع ,على هذا العلو الشاهق ؟
لقد انحدر من عَل ,عبر شقوق جبلية تقف السحليات عاجزة دونها. ما أقواك أيها الرجل؛ وما أضعفنا ونحن نبحث عن
السهل الجاهز.
لما صعدنا الى القمة التقيناه؛جالسا وبيده منشار.سألته مازحا :أما خشيت أن يصيبك ما أصاب الحمام؟
أجابني: نحن كالعفاريت لا يصيبنا أحد من الإنس . منذ أن شرع والدي في إنزالي,عبر هذا الجرف, في قفة دوم مشدودة بحبال,لأقطع الشهد ,مات فيَ الخوف تماما؛فكيف بي اليوم وقد اكتهلت. اطمئن لن تصيبني حتى ولو صوبت نحوي.
تذكرت عفاريت بنكيران ؛وكادت السياسة تشرد بذهني لولا أن الرجل واصل قائلا:
في النهار أمارس » المسح الطوبوغرافي العسلي » ؛وحينما أعثر على المكان الذي أوحى به اللهُ الى النحل حتى تتخذه بيتا أهيئ الطريق إليه ,بقطع ما قد يعترضه من أغصان؛وفي الليل أعود بِعُدتي ومعي أطفالي لنقطع الشهد.تماما كما كان يفعل والدي ووالده…
رباه كل هذه المغامرة النهارية لا تكفي الرجل ؛اذ لا يكتمل عمله الا ليلا ,حينما يهجع النحل ويبرد.
يا شباب الرباط هاهو نموذج للمغربي الذي لم يدرس سوى في جامعات الجبال ,شعبة النحل؛ولم يطالب أحدا برزق سهل أو صعب.
انه يُخَلد في هذه القمم حرفة أجيال من المغاربة الغابرين.
انتشروا في الأرض والله الرزاق كما قال لكم رئيس الحكومة.
سألت الرجل: هل رُزقت هذا اليوم بشيء؟ أجاب: الحمد لله ؛حيث رأيتَني ,وسأعود ليلا.
طاب مساؤك سيدي .
في آخر دقائق يوم القنص ,وقد اقتربنا من الديار ,طار ,بعيدا سرب حجل رائع.
رصاصات وكأنها بيضاء كرصاصات بنكيران ؛لا تفسد للود قضية.
أهو يوم قنص؟ أهو يوم سياسة ؟
لا أدري.
لكنني متيقن أنني استفدت كثيرا من سياسة القرب هذه.
رجاء ليلتفت أحد الى ساكن الكهف ب »تالحيط »؛حتى أكون قد أفدت الحمام في شيء ما.
Ramdane3@gmail.com
Ramdane3.ahlablog.com
1 Comment
شكرا استاذي مصباح على هذه الكتابة الرائعة