من احتفل بعيد النحر ولم يدرك مغزاه فليس له منه إلا الطعام
من احتفل بعيد النحر ولم يدرك مغزاه فليس له منه إلا الطعام
محمد شركي
كل المسلمين في مشارق الأرض، ومغاربها يحتفلون بعيد النحر أو عيد الأضحى. وكلهم يعرف قصة سيدنا إبراهيم مع سيدنا إسماعيل عليهما السلام. وبعضهم قد يتخذ من هذه القصة موضوع تفكه ، فيفترض لو أن التضحية كانت بالأبناء لكان وكان… والكل يعتقد أنه يفقه ،ويفهم مغزى هذا العيد . وبعضهم قد يضيق ذرعا بكلام خطباء منابر الجمعة ، وهم يسردون حكاية تضحية نبي الله إبراهيم بابنه إسماعيل عليهما السلام ،لاعتقادهم أن معرفة الحكاية في حد ذاتها هي الغاية والنهاية ، وما الحكاية سوى بداية قضية قلما ينتبه إليها الناس الذين يشغلهم أكل الأضاحي عما هو أهم . فالقضية تتعلق بعلاقة الإنسان بخالقه ، وهي علاقة حب كبير بلغ درجة الخلة ، وهي أعلى درجة بلغها بشر في علاقته مع خالفه سبحانه وتعالى . يقول الله تعالى في حق نبيه الكريم إبراهيم عليه السلام : (( واتخذ الله إبراهيم خليلا )). فقد يمر الناس بهذا الكلام مرور الغافلين ، وهو يتضمن أمرا عظيما ،إذ يكشف الله عز وجل عن أعلى درجات حبه لبشر من خلقه . والأكياس العقلاء يقفون عند هذا الأمر الجلل،ليتساءلوا عن سر بلوغ هذا البشر هذه الدرجة من المحبة الإلهية ، وهي درجة الخلة . ويأتي الكشف عن هذا السر في كتاب الله عز وجل ، وهو كتاب أسرار لا نهاية لها . يقول الله تعالى : (( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا)) فهذا النص القرآني يكشف لنا سر بلوغ نبي الله إبراهيم الخليل درجة الخلة عند ربه ، وهي حسن الدين ،وإسلام الوجه لله أو الاستسلام له ، مع الإحسان، واتباع ملة إبراهيم ، وهي الحنيفية السمحة ، أي الميل عن كل مظاهر الشرك مهما كانت . فهذا ثمن الخلة ، وهو ثمن باهظ عندما نستعرض ملة إبراهيم عليه السلام من خلال كتاب الله عز وجل .فلقد كان هذا النبي الكريم أشد أنبياء الله ابتلاء ، واختبارا وامتحانا لقوله تعالى : (( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن )) فلقد اختبر في كل الطاعات من أوامر ونواه ، فأتم الطاعات كلها . وقد وصفه الله عز وجل بقوله : (( وإبراهيم الذي وفى )) أي الذي وفى الطاعات دون نقصان. وليس اختبار طاعة نحر الولد هي الاختبار الوحيد العسير الذي خاضه نبي الله إبراهيم الخليل عليه السلام، بل واجه العديد من الاختبارات الشاقة ، وهي نوعية تشمل أهم ما يمتحن فيه الإنسان عامة ، وهو يخوض غمار هذه الحياة التي من أجل اختباره خلقت أصلا لقوله تعالى : (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )) وما العبادة سوى طاعة الله عز وجل فيما أمر ونهى خلال خوض غمار هذه الحياة الفانية التي تسبق حياة الآخرة الخالدة، والتي أعدت للجزاء بينما أعدت الأولى للاختبار. والله عز وجل إنما يختبر البشر من خلال وضعهم أمام خيار صعب باعتبار الطبيعة البشرية، حيث يخيرون بين مغريات الدنيا المتعددة ، وبين طاعته سبحانه .
وفي الغالب تتعارض هذه المغريات مع طاعته جل جلاله ،لأنه سبحان صمم الناس تصميما خاصا من أجل اختبارهم ، فهو القائل سبحانه عن هذا التصميم : (( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب )) ،فالطبيعة، والفطرة البشرية، وهي طبيعة طينية تنزع نحو كل ما يرتبط بالطين من شهوات جامحة تتعلق بغرائزالتعلق بالوجود عبر التكاثر، والتناسل، والأكل، والشرب ، وحب التملك . والله تعالى سمى كل ما يتعلق بطينية البشر متاع الحياة الدنيا . والمتاع يطلق على كل ما ينتفع به انتفاعا قليلا غير دائم . فإذا ما نسب هذا المتاع إلى حياة طبيعتها الزوال، دل ذلك على لعب ولهو الإنسان فيها ، وهو يتعلق بها أشد التعلق ، ولهذا جعل الله تعالى البديل عن هذا اللهو واللعب حسن المئاب ، وهو مئاب إلى نعيم دائم لا إلى متاع زائل . والله عز وجل يقيم علاقته بخلقه من خلال معادلة مفادها أن من آثر متاع الدنيا الزئل على طاعة ربه خسر العلاقة العاطفية معه. وعلى ضوء هذه المعادلة تقاس علاقة الخلة التي كانت بين إبراهيم الخليل عليه السلام ، وبين رب العزة جل جلاله ، حيث اختبر الله عز و جل نبيه الكريم في كل متاع الدنيا ،مما تميل إليه الغرائز البشرية وتتعلق به . فقد اختبره في علاقته العاطفية بأبيه ، والعادة أن الإنسان يرتبط عاطفيا بمن أنجبه، لأنه يمثل أصل وجوده الأول ،كما يرتبط بمن أنجب هو لأنه يمثل استمراره وبقاءه . ولما كانت الطبيعة البشرية تحكمها غريزة حب الوجود ، فإن التعلق بالأصل، والفرع غريزة متأصلة في الإنسان . والله تعالى اختبر نبيه في هذه الغريزة التي قابلتها طاعته سبحانه وتعالى تقابل تضاد وتعارض . قال الله تعالى : ((واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيئا إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمان عصيا يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمان فتكون للشيطان وليا قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا قل سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا )) فهذا النص القرآني يعكس لنا الوضعية الحرجة التي وضع فيها نبي الله إبراهيم عليه السلام، وهي الخيار بين عاطفة حب الأب الضال ، وبين طاعة الله عز وجل ، وقد غلب نبي الله طاعة ربه على حب أبيه .
وهذا امتحان عسير إذ ليس كل الناس يستطيع أن يفوز في هذا الامتحان بسهولة . فمن الناس من لا يستطيع مراجعة أبيه بدافع العاطفة حتى في أبسط الأمور، بله في أمر الهداية والضلال ، وهو أمر يفضي بالضرورة إلى خسارة علاقة الأبوة والبنوة العاطفية بالضرورة . وعلى غرار هذا الامتحان العسير مر نبي الله إبراهيم عليه السلام بامتحان شبيه به قال فيه الله عز وجل : (( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم )) وهذا النص القرآني يعكس طبيعة هذا الامتحان العسير أيضا ، حيث خير نبي الله عليه السلام بين طاعة ربه ، وبين عاطفة الأبوة ، وهو الأب الشيخ الذي وهب الابن على الكبر، وهو أمر يجعل التعلق به فوق العادة ، ومع ذلك يؤمر بتركه في مكان قفر غير مأمون. وعلى الناس اليوم أن يجربوا ترك أبنائهم في أماكن غير مأمونة، ليدركوا حقيقة خطورة هذا الامتحان . ومن نفس النوع يأتي امتحان التضحية بالابن الذي ازداد التعلق به أكثر بعد فترة الشيخوخة وطول انتظار الولد ، وبعد فترة الحرمان منه وهو صبي حيث قال الله تعالى : (( فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين )) ،أجل إنه امتحان عسير أن يخير الإنسان بين طاعة ربه ، وبين حياة فلذة الكبد التي يكون إزهاقها بيد الأب المحب العاشق ، والمتعلق كأشد ما يكون التعلق بالابن .
وعلى الناس اليوم أن يتخيلوا مجرد التخيل هذا الخيار الصعب ليدركوا خطورة الامتحان . ولما كانت الطبيعة البشرية تحكمها غريزة حب النفس ، فإن الله عز وجل أخضع نبيه إبراهيم عليه السلام لامتحان عسير يختار فيه بين حب النفس ، وحب البقاء وبين طاعة ربه. قال الله تعالى : (( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فات بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين)) ، فكثير من الناس يعتقد أن الأمر يتعلق بمجرد سجال بسيط بين نبي وحاكم من أيها الحكام، وأنه سجال مر بكل بساطة ، ويسر، وسهولة. والحقيقة أن الأمر في غاية الخطورة حيث عرض إبراهيم نفسه لبطش حاكم جبار لا يؤمن جانبه ، وهو الذي أله نفسه ، وادعى أن بيده الموت والحياة . فحاكم من هذا الصنف لا نتصور السجال معه يمر ببساطة ،بل كان الأمر يتعلق بامتحان عسير حيث حمل نبي الله عز وجل روحه في كفه ، وساجل حاكما جبارا عنيدا . ولو حاول الناس اليوم مساجلة حكام عصرهم فيما هو دون سجال نبي الله إبراهيم عليه السلام لحاكم عصره ، لأشفقوا على أنفسهم من الهلاك المحقق . وحكام عصرنا يسفكون اليوم الدماء، ويزهقون الأرواح لأتفه الأسباب ، ودون أن يساجلهم أحد ، فما بالهم لو ساجلهم الناس في طغيانهم . وعلى غرار هذا الامتحان العسير مر نبي الله عليه السلام بامتحان شبيه به ، وهو الذي قال عنه رب العزة جل جلاله : (( فراغ إلى آلهتم فقال ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين فأقبلوا إليه يزفون قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين ))،فهذا النص يعكس لنا أيضا كيف خير الله عز وجل نبيه الكريم بين طاعته ، وبين مخالفة قومه أو شعبه برمته ، ومراجعتهم في معتقداتهم الفاسدة ، وهو امتحان عسير. وهل يستطيع الناس اليوم مجرد مخافة أقوامهم حتى في مجرد عادة بالية ،بله في عقيدة ضالة ؟ فعندما نتأمل سلسلة الامتحانات العسيرة التي خاضها نبي الله إبراهيم الخليل عليه السلام ندرك الثمن الذي دفعه من أجل أن يحوز درجة الخلة عند ربه سبحانه وتعالى ، ومن ثم ندرك المغزى من الاحتفال بعيد النحر ، وهي التأسي بهذا النبي الكريم في تفضيل طاعة الله عز وجل على كل متاع الدنيا إذا ما تعارض هذا المتاع مع طاعته سبحانه ، لأن الله عز وجل جعل لنا هذا النبي الكريم إسوة حيث قال جل من قائل : (( قد كان لكم إسوة حسنة في إبراهيم والذين معه )) وما الإسوة سوى نشدان رتبة من رتب محبة الله عز وجل ،لن تكون بطبيعة الحال درجة الخلة الذي نالها إبراهيم الخليل ، أو نالها سيدنا محمد صلى الله عليه والسلم القائل : » إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا « ، ولكنها ستكون درجة أدنى، ومع ذلك ستكون مقابل كل متاع الدنيا إذا وفق الله تعالى إليها خلقه .
وعلى الذين يزعمون أنهم يعرفون حكاية عيد النحرمعرفة جيدة ، ويضيقون من سماعها كل سنة أن يقفوا لحظة في هذه المناسبة وقفة الأكياس العقلاء لقياس درجة حب الله عز وجل لهم من خلال عقد مقارنة بين طاعته سبحانه وبين ما يتعلقون به في الدنيا . فكل الناس يخضعون يوميا لامتحانات الخيار بين متاع الدنيا ،وبين طاعة الخالق ، كما خضع لذلك نبي الله إبراهيم الخليل عليه السلام ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم . فالله عز وجل يخير يوميا خلقه بين نوم الفجر اللذيذ وبين طاعته في الصلاة ، وبين طاعته خلال أوقات الصلوات والتعلق بالدنيا ، إلى غير ذلك من الامتحانات المتعلقة بالعلاقات الرحمية سواء كانت أبوة، أم بنوة ، والتي تناقض طاعته سبحانه . ونفس الشيء بالنسبة لمواجهة طغيان الحكام المعارض لطاعته ، ونفس الشيء بالنسبة لمواجهة انحرافات الأمة عن الجادة في تقاليدها وعاداتها البالية ، وفي فاسد معتقداتها . فالناس يمتحنون على طريقة إبراهيم الخليل عليه السلام يوميا ، وهم لا يبالون بذلك . وكثير من الخلق كل ما يعنيه من ذكرى عيد النحر هو الأكل ، ومع ذلك يتضجر ممن يذكره بالمغزى الحقيقي من هذا العيد . اللهم بصرنا بعيوبنا وأخرجنا من دار العيب بلا عيب .
3 Comments
لو جاء في هاذا المقال غير هذه الجملة لمكفى . فالناس يمتحنون على طريقة إبراهيم الخليل عليه
السلام يوميا ، وهم لا يبالون بذلك
شكرا لك
جازاك الله خيرا يا استاد على تعبك و مجهودك في انجاز هدا الموضوع الشيق المفيد جدا
اعاد الله علينا جميعا عيد الاضحى و نحن افقه و اوعى من قبل بفضل اساتدتنا الكرام اطال الله في اعمارهم و امدهم بصحة جيدة ونشاط مميز امين
Im really happy that there are same great writer like you thanks