مواقف ، او مذكرات رجل تعليم ـ 3 ـ
كانت العين تأخذني ، مرة بعد مرة ، إلى مساكن متمسكة بحفاف الجبال ، وأخرى منتصبة على رؤوسها ؛ لانظير لبعضها ، لا في الحاضرة التي أتيت منها ، ولا في المدينة التي أقطن بالمرتفعات المتاخمة لها ؛ ولولا الحمير والبغال والمعز والخرفان ، وغياب جميع مرافق الحياة ، لخلت نفسك في مدينة يسكنها ، فقط ، الأغنياء ومتوسطو الحال . لاأثر للبادية ، لا في لباسهم ولا في نمط عيشهم . يتكلم معظمهم لغة عربية ، لم يتبق منها ، من كثرة اللحن ، إلا اسمها ؛ تعلمها الشباب في المدرسة والكهول والشيوخ في الأسواق والمساجد .
أخبر أحد الزملاء الثلاثة الذين كنت رفيقهم سائق سيارة الأجرة ، المتجهة بنا نحو مدينة مليلية ، أن مقر سكناي المثبت في بطاقة تعريفي هو مدينة وجدة وليس الناظور ، التي تسمح سلطات المستعمر الإسباني لأهلها بولوج المدينة دون حاجة إلى تأشيرة وجواز سفر . نظر إلي ، من خلال مرآة السيارة ، وطلب مني توسط جليسي وعدم إطالة النظر إلى حرس الحدود .
دخلنا المدينة بسلام آمنين ، ولا أدري لم أحسست بالاختناق وأنا أرى شوارعها الضيقة ودورها الصغيرة المتراصة . أحسست أني داخل علبة كبريت ، لا فضاءات واسعة غير حديقة ، لم تمر إلا دقائق معدودة على دخولنا إليها حتى وقف علينا شرطيان .
طلب منا ، أكبرهما سنا وأقصرهما قامة ، بطائق هوياتنا . تفحص التي تخصني مليا قبل أن يرجع الأخرى إلى أصحابها ويطلب مني مرافقته إلى سيارة الشرطة . رفضت الصعود لولا نصح أحد الزملاء ، والذي أخبرني فيما بعد ، أن سبب اشتياط الشرطي غضبا ، ورفضه شفاعة زميله لي ، وتمسكه بتسليمي إلى مخفر الشرطة ، هو مخاطبتي له باللغة الفرنسية وادعاء جهلي بالإسبانية .
رفعت ذراعي ، لأسمح لشقراء ، لم تتجاوز العقد الثالث ، بتفتيشي . أخذت وقتا كافيا قبل أن تشير إلى زميل لها بوضعي داخل الزنزانة .
نظرت إلى أصحاب السجن ، فرأيت وجوها ليست كالوجوه ، وأجساما غطيت أغلبها بالحيات والعقا رب وأسماء النساء ؛ معظمهم بين حالتي الحضور والغياب ، بين حالتي الصحو وفقدان الشعور ، في منزلة بين المنزلتين ، تنتاب أحدهم ، بين الفينة والأخرى حالات ، يقفز منها كالقرد تارة ، وينبح كالكلب تارات أخرى .
أخذت لنفسي مكانا بعيدا عن ذكور حسبتهم ، أول الأمر ، إناثا لطول شعرهم والأصباغ التي على وجوههم . لم يعرني أحد اهتماما حتى دخل ولدان ، ما لبثا أن أسرعا إلي محييين ، عرفا من خلال مظهري والنظارتين أني موظف وأغلب الظن أستاذ . سألتهما ، بعد أن هدأت من روعهما ، عن سبب اعتقالهما ؛ فعلمت ، من أنحفهما ، أنهما تلميذان داخليان بمدرسة إعدادية بجماعة فرخانة المجاورة ، دخلا المدينة ، في يوم العطلة الدراسية ، للترويح عن نفسيهما بالمشي والجلوس على الشاطىء ، فوقعا في قبضة شرطة استنفرت لحماية المصطافين في يوم نحس حار.
عادت الابتسامة لتعلو محييهما ، وهما يستمعان إلى حديث ، قصدته ، عن جمال وحسن قوام مرتادات الشاطىء من بنات الإسبان .
سلمنا ، بعد أن انتصف الليل ، إلى شرطة الحدود ببلدة بني انصار ، المجاورة للمدينة من جهة الشرق . أخلي سبيلي بعد كلمات قصار . أما صاحباي ، فلم يلحقا بي إلى مقهى البلدة حتى احمر وجهاهما بسيل من الصفعات . تمنيت لو تعلن الحرب ، ويفتح باب الجهاد ، فأعود إلى المدينة محررا ومقاوما للإسبان .
شربنا القهوة ، نحن والذباب ، وبحثنا عن سيارات الأجرة ، نحن والكلاب . رفضت أن أدفع له عشرة أضعاف الثمن ، فرحل الرجل بعد أن سب الدين والدنيا والناس أجمعين .
رفض الولدان البقاء ، وأصرا على الذهاب ، ولو سيرا على الأقدام ، خوفا من افتضاح أمرهما لدى الإدارة حين يحل الصباح . حاولت أن أثنيهما عن المغامرة حتى تأتي سيارة أخرى للأجرة ، يكون صاحبها أحن قلبا وأحسن خلقا .
لم أجد بدا من مرافقتها ، على الرغم من طول المسافة ووعورة الطريق وخطورة راكبيه وقطاعه .
مرت بنا سيارة ، ثلاث مرات ، ذهابا وإيابا . أحسست بالخوف على نفسي وعلى الطفلين ، وزاد قلقي لما بدأ أحد مرافقي يتمتم بأدعية ، لم أستبن منها ، غير كلمتي الله والنبي .
سلم الله ، بعد أن وقفت لنا سيارة أجرة ، رضي صاحبها ، الشهم الكريم، بخمسة أضعاف الثمن المعتاد .
انتظرت حتى تسلقا الجدار، ثم أكملت الطريق .
يتبع
Aucun commentaire