نحو بناء تضامن اجتماعي جديد (3
عندما تراجعت أشكال التضامن الاجتماعي (عائلة، حي، دوار…)، ولم تحل محلها أطر جديدة للضبط الاجتماعي، وجد المواطن نفسه وجها لوجه مع ذاته، يبتغيها وسيلة وغاية في الوقت نفسه. انتشرت الأنانية الضيقة و أضحت سلوكا معتمدا في تصريف الشؤون الخاصة والعامة. وما الفوضى التي نلحظها في حياتنا اليومية إلا مظاهر مختلفة لنفس السلوك: احتلال الملك العام، فوضى التعمير، تردي نظافة الأحياء، تدهور العلاقات الأسرية، فوضى السير، عشوائية الأسواق، التدافع أمام الأكشاك …الخ. الأمثلة كثيرة ولا داعي لتعدادها. وبقدر ما تنتشر ظاهرة الأنانية بقدر ما تكبر مساحة « الأنا » كمنطق للسلوك وتتقلص المساحة الجماعية كمرجعية في المعاملات، إلى أن وصلنا إلى مرحلة التطبيع مع هذه الظاهرة. المطلوب الآن هو نوع من التوازن بين المساحة الخاصة والمساحة العامة في السلوك، بين الأنا والغير حتى يتحقق توازن في العلاقات الاجتماعية يكون أساس التضامن الاجتماعي المنشود. إن مقولة « الإنسان اجتماعي بطبعه » لا تعني أن الإنسان لا يستطيع العيش دون مجتمع فقط، بل تعني أن إنسانيته لا تكتمل إلا بتفاعله الإيجابي مع الجماعة. إذن هناك وجود اجتماعي ناقص غير مكتمل، وهذا يفسر تراجع القيم الأخلاقية والاجتماعية. أما الفراغ الذي تركه تراجع التضامن الاجتماعي التقليدي فلا يمكن تعويضه إلا بأشكال حديثة للإدماج الاجتماعي تقوم على أساس التشارك والتعاقد: وأعني بها الجمعيات ذات المنفعة العامة وجمعيات المجتمع المدني والمبادرات التي تخدم الصالح العام والجمعيات المهنية…
إن الجمعيات هي أدوات إدماج اجتماعي، ليس لأنها تحقق غايات للفئات المستهدفة فحسب، بل لأنها تنشر ثقافة التضامن على نطاق واسع، و من أجل ذلك وجب دعمها بشتى الوسائل. والجمعيات لا تتمتع بنفس الوضع القانوني ولا تدار بنفس الطريقة ولا تسعى إلى نفس الأهداف، وبالتالي يصعب تناولها دفعة واحدة كما لو كانت متشابهة. إلا أنه لابد من الاستثمار في النسيج الجمعوي، الذي هو في طور الولادة، قصد تطويره ليصبح إطارا جديدا للتربية الاجتماعية. الكثير من الجمعيات هي مجرد « بطاقات زيارة » يستغلها أصحابها لأغراض خاصة، وبعضها مكبل برؤساء مدى الحياة، والعديد منها تكلس و أصبح اسما دون مسمى. لكي تكون الجمعية إطارا حيا للتضامن الاجتماعي يجب احترام عدة شروط منها: 1- أن تكون مفتوحة للجميع، أي تشتغل في العلن وفق منهجية الإدماج وليس بدافع الإقصاء، وتحترم القانون الداخلي وما ينص عليه من استحقاقات. 2- ضرورة توعية المنخرطين بالأخلاق العامة للمجتمع وبأخلاقيات العمل الاجتماعي. وتجدر الإشارة هنا أن المغرب لا زال يفتقر إلى أخلاقيات العمل الاجتماعي، علما بأن الأخلاقيات التي نصت عليها الفيدرالية العالمية للعمال الاجتماعين قد لا تنسجم تماما مع الأخلاق العامة للمجتمع. 3- إن الجمعيات، وبخاصة التي تساعد الفئات الهشة، مدعوة إن عاجلا أو آجلا، إلى الانتقال إلى أساليب احترافية حتى يصبح العمل الاجتماعي مهنة تجمع بين روح التطوع من جهة واعتماد الأساليب الحديثة في العمل من جهة أخرى. و من الأدوات التي يحتاجها العامل الاجتماعي نذكر: تقنيات التواصل الحديثة، ودينامية الجماعة، ومقاربة التشارك، وإدارة الحوار، وتقنيات التقويم الذاتي، والحكامة، وبلورة المشاريع وغيرها. و يمكن إحداث مدارس خاصة لهذا الغرض كما يمكن فتح، أو دعم، مسالك جامعية متخصصة في العمل الاجتماعي. 4- الجمعية تحيا بالمبادرات وبالأفكار الجديدة ، ومتى فقدت روح المبادرة انحرفت عن مسار التضامن و أصبحت عالة على المجتمع.
الجمعية لا تحل محل المجتمع، بل هي أداة تحريك التضامن الاجتماعي الذي هو أساس المجتمع. عندما يتعلق الأمر مثلا بنظافة حي من أحياء المدينة، جرت العادة أن يلقي كل طرف بالمسؤولية على الأطراف الأخرى، ما بين المواطنين وشركة جمع النفايات والجماعة الحضرية، و المواطنون لا يكونون دائما على نفس الرأي. نتيجة لذلك تزداد أحوال الحي سوءا. ماذا لو أسس السكان جمعية تمثلهم و توحد الآراء وتجري الاتصالات والمفاوضات من أجل نظافة الحي و من أجل صيانة التجهيزات العمومية و الحفاظ على الفضاءات المشتركة ؟ هناك دائما طاقات مستعدة للعطاء ولخدمة الصالح العام، لكن غياب التنسيق يبقى هذه الطاقات مجمدة، والجمعية هي أداة تجميع وتفعيل لهذه الطاقات.
إلى جانب الجمعيات هناك المبادرات الخيرية، والمبادرة هي روح التضامن الاجتماعي، فكل مشروع اجتماعي كيفما كان ( حفر بئر، بناء مدرسة أو مركز إيواء أو مستشفى..) إلا وانطلق من مبادرة فردية أو جماعية. إن المبادرة تبدأ فكرة في أذهان أصحابها قبل أن تتحول إلى واقع. وليس هناك خارطة طريق لتحقيق المبادرات: على المبادر أن يستعين بكل الطاقات المحيطة به وعليه أن يطرق كل الأبواب و أن يتسلح بكل الاستشارات الممكنة وأن يكون هاجسه هو تحقيق منفعة لصالح الجماعة ليس إلا. في الدول المتقدمة هناك خطاطات جاهزة لمواكبة كل أنواع المبادرات، أما عندنا فلكل مبادرة قصتها ومتاهتها الخاصة، و حينما نستمع إلى أصحاب المبادرات وهم يسردون مراحل إنجاز مشاريعهم، نلاحظ غياب تراكم يمكن الاستعانة به لتحرير خطاطة أو وضع منهجية عمل. فمعارف الشخص وعلاقاته وإلحاحه وصبره وإيمانه بالمستقبل ونكرانه لذاته ورصيده من الثقة كلها عوامل تصنع الفرق بين مشروع ناجح ومشروع فاشل. إلا أنه ما من شك أن أولى مراحل بناء تضامن اجتماعي جديد تبدأ بالمبادرات الخاصة: في كل مكان هناك أشخاص يسارعون في الخيرات: يساعدون الآخرين و يحملون أفكارا جديدة و مستعدون للتضحية بوقتهم وجهدهم وحتى مالهم من أجل تحسين أوضاع غيرهم ومن أجل أن يعيش محيطهم الاجتماعي بشكل أحسن.هؤلاء هم الأمل وهم المنطلق.
من دعائم التضامن الاجتماعي هناك التنظيمات المهنية (حرفيون، تجار، مستخدمون…). كل المهنيين مدعوون – إن هم أرادوا الدفاع عن مصالحهم فعلا- إلى تنظيم أنفسهم بأنفسهم. وهذا التنظيم الذاتي يشمل شقين: الشق الأول يهم التنظيم الداخلي، أي كل ما يهم العلاقات بين المنخرطين وطرق انتخاب الممثلين وآليات حصر المشاكل واقتراح الحلول، إلى غير ذلك. أما الشق الثاني فينصب على تنظيم العلاقة مع محيط العمل: الزبناء، الزوار، الجيران، الفئات المستهدفة والجمعيات ذات الصلة…بعبارة أخرى يجب التفكير في حقوق الآخرين من أجل أن يكون محيط العمل سليما ومشجعا لا مثبطا. لنأخذ مثالا على ذلك: إذا أعيد بناء سوق مليلية بوجدة على نفس الشاكلة التي كان عليها قبل الحريق، فذلك يعني أن مصالح طغت على مصالح، وأننا لسنا في مأمن من كارثة جديدة. المفروض أن نفكر وفق مقاربة تضامنية: أسباب السلامة، الأمن، راحة الزبناء، وما يتطلبه ذلك من إخلاء للممرات خدمة للذات وللغير. حينما نخدم الآخر فنحن نخدم أنفسنا فعلا، يكفي أن نغير طريقة التفكير في اتجاه عمل مندمج و مشترك يأخذ بعين الاعتبار مصالح كل الأطراف المعنية، فذلك أضمن وأسلم .هذا كلام يسهل وضعه على الورق، لكن يصعب تطبيقه لأننا جُبلنا على عادات سيئة في التفكير. تلك العادات يجب تغييرها، وهذا هو المبتغى من بناء تضامن اجتماعي جديد. « وما كان ربك ليهلك القرى بظلم و أهلها مصلحون » (هود،117).
ناجم مهلة
Aucun commentaire