يعتبر الناي من الآلات الموسيقية التي قاومت كل ما أبدعته التكنولوجيا من بدائل منافسة،وذلك لأسباب وجيهة ،لعل أهمها ارتباط آهات الناي بالنفس البشرية وأعماقها الغامضة.
لقد وجد الناس في الناي متنفسا يخرج خلجات الروح إلى العلن عبر أنغام تتباين تأويلاتها بتباين مقاييس كل شخص لعناصر الجمال في الكون.
وتقديرا لدور الناي في التعبير،فقد حرص العازفون عليه على اختيار نوع القصب الذي يفي بالغرض،ثم تزيينه بما يليق من الزخارف ،إلى درجة أن بعضهم كانوا يلفونه في جلد نوع من الثعابين بعد تحضيرها بما يناسب من مواد !
ولندرة الآلات الموسيقية بالبادية،فإن الناي والمزمار قد استأثرا بالمجال الموسيقي مما حول ملكة العزف عليهما إلى حلم جربه جل الشباب لعل ذلك يخولهم لقب،،الشيخ،،يوما ما !
خلال إقامة أسرتنا لبعض الوقت بمنطقة،،المعدن،،أواسط الستينات من القرن الماضي،حيث كان المجرى المائي في عنفوانه،والمغروسات تجود بكل ما لديها،كنت لا أقاوم الانجذاب نحو أحد رفاق أخي في الرعي لاستمتع بنغمات الناي التي كان يبدع فيها حينما نصل إلى قمة،،إش إزرزر،،أو ،،قرن الغزال،،كما نقلها الفرنسيون عن الأصل ليصبح المصطلح معتمدا في جغرافيا المكان.
كان العازف الصغير يولي ظهره لبيت الأسرة تفاديا لكل طارىء ،ثم يوجه الناي نحو الآفاق اللامحدودة مما يرغم ،،إش،،على ترديد الصدى ليشنف الآذان الحية في كل المحيط.
كان أ.ع يتقن العزف على الناي،ثم مالبث أن صنع مزمارا ليتيح لنفسه اختيارين يتناوب بينهما بحسب إملاءات النفس، وللعارفين من أبناء المنطقة أن يستحضروا المشهد حينما يأتي الدور على المزمار الذي لا يحول حائل بينه وبين الوصول إلى كل الوهاد المجاورة.
لقد كانت آهات الناي والمزمار ترغم المحتطبين والمحتطبات على التوقف لالتقاط بعض من هذه النغمات التي لا بد أن تدفع للبحث عن مصدرها!
وللأمانة فإن أ.ع كان يتقن كذلك المصنوعات من نبات الحلفاء، حيث اشتهر بصنع نوع من ،،لوظيفة،، التي يستحيل تقليدها لينتج منها بعض الأغراض التي تباع قبل منتوجات غيره.
كنت أتجشم صعود القمة الشامخة كلما أتيحت لي الفرصة، لأقضي ساعات إلى جانب المطرب الناشىء،الذي بذل ما في وسعه من أساليب الديداكتيك ،،لأنهل،،من صنعته،لكنني لم أفلح !
كان أ.ع . يدخر عائدات مبيعاته البسيطة التي لم ينكشف سرها إلا حين بدأ يغير من هندام الرعاة تدريجيا، ليعلن دخول مرحلة عشق عذري لم أفطن له إلا متأخرا !
لقد تخلص من النعل التقليدي الذي يشترك فيه كل الرعاة،واستبدله بآخر حديث عهد بدخول السوق،كما اختفى السروال الذي اتسع فيه الفتق على الراتق،لكن أهم تغيير شمل العمامة التي أصبحت صفراء ،وهو أكبر مؤشر على أن تطورا حاسما في طريقه إلى مسار رفيقي الولهان !
في لقاءات الجبل الموالية،لاحظت بالرغم من سذاجتي بأن جليسي صار يركز خلال العزف على وجهة معينة،ولم تمنعني هذه السذاجة من الاقتناع بأن الأنغام تحمل هذه المرة رسائل إلى قلب أنثى سكنت كيانه وهي غير بعيدة عن مدى أنغامه !
كانت الأعراف من القسوة بحيث يندر أن يلتقي عشيقان بالسهولة المتاحة في أماكن أخرى،لذلك كان المحبون يتحينون إحياء الأعراس ليتبادلوا الرسائل عبر ،،إزلان،، وهي أشعار مرتجلة يبدعها الرجال ليلا في رقصة،،بوشطبة،،حيث يضمنونها مشاعرهم ورسائلهم، لترد عليها الإناث بما يليق من أجوبة مشفرة في النهار وهن يتنافسن في،،الزرع،،!
وإلى جانب الأعراس،فإن وفود،،عارفة،، (جموع من الفتيات المتزينات يطفن على البيوت وهن يرددن تراثا محليا قبيل عيد الأضخى مقابل عائدات مختلفة)،هذه الوفود كثيرا ما سمحت بنسج اولى خيوط عش الزوجية !
أما بالنسبة ل أ.ع. فإن قصة النشأة قد أفلتت من الرقابة لتعرف مرحلتها الحاسمة وحدها !
لقد كان الجبل الشامخ وحده على علم بمعاناة قلبين صادقين،لذلك احتضنهما ،ووفر لهما الحماية ليتواصلا بعيدا عن أعين الفضوليين!
كان أ. يغني عواطفه في القمة لتنساب سالكة نحو قلب ،،بثينة زمانه،،التي لم تكن بحاجة لخصام حتى تزول أشواك البداية !
لقد احتاجت معاناة الشابين إلى صبر ومشقة وتحد لظروف العائلتين المتباينة، لينتصر حب حقيقي بدأ قبل عقود ليتسمر وكأنه يتجدد مع إشراقة كل يوم !
لقد فعلت أنغام الناي والمزمار فعلتها في النفس،وما كان بإمكان الطرف الآخر من اختيار إلا الاستجابة اللامشروطة لنداء قلب يتفطر عبر ألأنغام التي ينقلها الأثير.
كان على أ.ع. أن يعاني سنوات عديدة دون أن يستسلم،كما كان على معذبته أن تصطنع كل الأعذار للتخلص من العروض التي تتقاطر عليها بسبب سحرها ويسر أسرتها،حتى تمكنت من فرض اختيارها.
كان الوشاة والحساد قد فعلوا ما في وسعهم للحيلولة دون تحقق حلم العشيقين،لكن سلطة القلب انتصرت لتنجح واحدة من أندر تجارب الزواج الناجح !

لازالت علاقتي ب.أ. ع . كما كانت رغم تفرق السبل، ولكن الأجمل في هذه العلاقة، هو إعجابي بشخصية المحبين اللذين لم يؤلف بينهما إلا صفاء في القلب جعل كل ما بعده يهون،وتلك-لعمري-
لهي السعادة التي يبحث عنها الآخرون بوسائل وشروط لا تجلب إلا الشقاء والنعيم الزائف !