لعنة الكوميسير
لعنة الكوميسير
في صيف إحدى سنوات أوائل التسعينات من القرن الماضي،كنت على موعد مع الأخ ج.قاسم المقيم يومئذ بوهران،لقضاء بضعة أيام بمدينة السعيدية.
كان الأبناء صغارا،وكان لا بد من تسليمهم لغواية البحر لتجاوز متاعب السنة الدراسية.
ما إن علم صديقنا المشترك الأخ م.موغلي بوجودنا،حتى دعانا لقضاء يوم في ضيافته.
كان السيد م.موغلي على رأس سرية درك مدينة السعيدية،وكانت روابطنا تمتد الى جذورنا المشتركة ببلدة سيدي لحسن، من حيث انطلقنا من أجل البحث عن موقع في هذا الوطن الذي لا بديل لنا عنه.
كانت أجواء اللقاء تعبق بجميل الذكرى والانشغالات المشتركة،تطبعها ضحكات الأخ موغلي المتفردة،والذي أحييه بصدق وأنا أخوض في ماض يصعب إعادة تركيب كل جزئياته !
كان أحد المستثمرين قد جلب إلى المدينة قطارا سياحيا يقوم بجولات مكوكية على الكورنيش،مقابل ثمن مغر،مما جعل الإقبال عليه يتضاعف بمرور الساعات.
كان قطارا بدون هدير،ويمشي الهوينا وكأنه صنع لتوفير أجواء الرومانسية للعشاق من ركابه !
توقفنا لحجز التذاكر للأطفال،عندما وقفت بالقرب منا امرأة أنيقة ترتدي لباسا عصريا كأنه صنع خصيصا ليناسب شابة اجتمعت فيها أهم عناصر الأنوثة الحقيقية!
كانت الشابة التي دخلت عقدها الثالث بالكاد،بمعية صبي جميل،عندما خاطبت العامل بالقطار بلباقة :
ما هي وجهة هذا القطار مبتسمة؟
كان الرجل من تلك الطينة من الناس الذين ليس في قاموسهم إلا ما يطفح بالقبح المجاني،لذلك رد بلكنة أمازيغ سوس ومن غير أن ينظر إلى مخاطبته:
،،هاذ التران،كايدي عند الحاج ثابت،،!
نزل هذا الرد الوقح ثقيلا على الحاضرين قبل المعنية التي أخفت تأثرها قائلة:
سألتك عن القطار لا غير،وماكان عليك أن تقحم في الجواب أشياء لم أسأل عنها!
لم يكن الرجل ممن يحذر غضب المرأة حين تصاب في كبريائها،فأضاف بكل صلافة:
،،كلت ليك كايدي عند،الحاج ثابت،،! ولكنته تكاد تقول إنه،،محماد،،وقد اختار للسانه مكانا لا بد فيه من رجع الصدى !
عدلت المرأة الأنيقة عن تلبية رغبة ابنها،وتعكر مزاجها الذي كانت تنوي إنعاشه بمزيد من الانبساط وهي تتأمل فضاء البحر الذي لا نهاية له برفقة صغيرها،لتتوجه مباشرة نحو مقر الدرك لعرض وقائع الحادث.
عرفت بهويتها،حيث أدلت بما يثبت أنها ضابطة عسكرية،لتطلب الاتصال بالأركان العامة بالرباط.
كان لها ما أرادت بطبيعة الحال، وماهي إلا دقائق حتى اقتيد ،،محماد،، إلى مخفر الدرك وهو لا يدرك أنه قد وضع نفسه في متاهة لا أحد يعرف طبيعة نهايتها!
ما هي إلا لحظات حتى التحقت بالمخفر امرأة على محياها وقار لا يقاوم، كما يشي مظهرها برتبتها الاجتماعية.
إنها والدة الضابطة التي لم يسمح لها لطف قلبها بأن يأتي العقاب على يد ابنتها رغم الإهانة التي تعرضت لها ،فراحت تناشدها وتناشد رئيس الدرك من أجل إخلاء سبيل ،،محماد،،!
لم يستطع الرئيس ولا الضابطة الشابة النزول عند رغبة الأم المتوسلة،لأن الأخبار كانت قد وصلت جهات عليا،وهو ما تأكد دقائق قليلة على ملتمس الأم،حيث توقفت بالباب سيارة ترجل منها ضابط درك قادم من مدينة بركان.
كان شخصا بدينا يقطر محياه صرامة،وكل ما فيه يجسد هيبة المخزن في أقصى تجلياتها.
لم يضيع الضابط وقته،حيث توجه مباشرة نحو ،،محماد،، ليناوله حصته من الحقوق كاملة!
لم يعد بوسع أحد أن يتفقد صاحب اللسان السليط،ووحدها حشرجاته كانت تعلن عن تشبثه بالحياة،حيث كانت صرخاته تحيل على نباح كلب تحت الأنقاض!
كانت حصة ،،الترويض،،كافية ليعرف ،،محماد،، بأن الهزل المبالغ فيه في الفضاء العام،قد يصطدم بعوالم المخافر، التي تجعل عتاة المجرمين يعيدون إنتاج مسارهم حينما يسمح لهو بالعودة لمعانقة الحرية،خاصة في فترة كان فيها المخزن يستعمل أظافره أكثر من النصوص المقيدة ليده!
خرج ضابط الدرك وقد أطفأ نيران غضبه في جسد شخص متهور ظل يجرب قاموسه السمج في نساء بريئات،وقد أصبح الآن يواجه المجهول!
كنا نتابع هذا المسلسل الذي أنسانا في القطار،ولم يكتب له أن ينتهي إلا على يد أم الضابطة الفاضلة،التي أوقفت سمرنا قبيل منتصف الليل ،حين عادت برفقة ابنتها وهي تقسم بأغلظ الأيمان ألا تغادر المخفر حتى يطلق سراح ،،محماد،،!
لم تستسلم الضابطة الشابة لمطلب أمها حتى أوضحت لها بأن ما قامت به،لم يكن تعسفا ،بقدر ما كان دفاعا عن نساء لا يملكن وسيلة لردع مثل هؤلاء الأوغاد،فماذا كان سيحصل لو لم يكن مركزها يسمح لها بالقصاص؟
ألم يكن ذلك سيشجع،، محماد،،وأمثاله على إهانة نساء شريفات دون أن يهب أحد لرد الاعتبار لهن؟
بعد مفاوضات وترتيبات ،تقرر أن يفرج عن ،،محماد،،فجاء يمشي على أربع بعدما توزعت الكدمات بعدالة على سائر جسده!
عندما صار على مقربة من قطار،،الشؤم،،فقد البوصلة، فراح يدور في مكانه رغم تنبيهات الدركي،ولما أيقن بأنه أصبح خارج التغطية،اقتاده نحو مشغله،حيث اتضح أنه يمم نحو ،،ثامزيرث،، مع أوائل الصباح،ذلك أننا افتقدناه عندما عدنا إلى القطار في اليوم الموالي.
انتهى صلف،،محماد،، في المخفر على يد من يحسنون تقويم الألسن المتهورة بفضل ظروف يومئذ التي كانت لا تضيع أوقاتها في المتاهات القانونية،التي سمحت للناس بأن يحولوا التحرش بالإناث في عصرنا، إلى جزء من اليومي دون أن ينال المعتدون جزاءهم بعدما دخلت على الخط جهات تحمي الفاعلين على حساب الضحايا !
2 Comments
بارك الله فيك سيدي .
اتحفتنا ووعظتنا في زمن انقلب فيه كل شيء.
شكرا
العفو،سيدي.
معتز بشهادتك