« الموت بجرعة كرامة حياة بدرجة شرف »
الجزء 1
« الموت بجرعة كرامة حياة بدرجة شرف »
قالها، وهو يتحدث الى حبيبته عند مصب نهر « سبو » تحت شواظ الظهيرة . كان يرسل نظراته كاتما حسرته، لقد علم أن رجال الأمن يتحسسون نَفَسَه بعد سؤالهم « باحمان »صاحب دكان الحي الذي يقابل نافذة الغرفة التي تأويه كل مساء حين تنام الصغار الى الأحضان الدافئة…
تجاهلت « فاطمة » كلام « عبد الصبور » في تلك اللحظة، وهي ترى الغضب في عينيه شعلة نار تحرق كل صور الضياع التي يعيشها أبناء البلدة.
« هذه الطريق الى مهدية يا عزيزي كم تمنيت لو نسيرها أنا وأنت على الأقدام، سنوفر ثمن سيجارتك المفضلة، أليس كذلك يا عبد الصبور؟ »
عن أي طريق تتحدثين يا فاطمة ؟ بل أينها وأيها يرحل بي الى كشف حقيقة هذا العالم الغامض.
وتستطرد فاطمة كلامها وقد أحكمت دراعه بلمسة مدهشة أردته صامتا متألما، إنه يعرف جيدا حبها له وخوفها الزائد عليه.
انتفض فكره فجأة ! وهب بتوديعها قائلا: »سأعود الى البيت لقد تركت أمي لوحدها، إنها تكره الانتظار، أجل تكرهه… »
« هكذا … تتركني على عجل »
« لا بأس، أراك غدا إن شاء الله بمقصف الكلية، ربما تصفو سماءنا الكئيبة »
وانطلق في اتجاه البيت، يبحث عن أقصر مسافة تقطع عن أمه حرقة الانتظار الذي آلم الجميع…
قال عبد الصبور وهو يطوي الدروب العتيقة: « الى متى سنظل على هذه الحال، أما آن لهذا الظلام أن ينجلي…؟ »
وهاته غيمة حولت المكان الى شبه ليل..، بعض قطرات المطر تظهر فوق زجاجات السيارات المركونة هنا وهناك. بدأت السرعة تدب في أقدام المارة، وكان ساعتها عبد الصبور في زقاقهم يتحدث الى « عادل » في همس مهم .
لقد تواعدا على اللقاءهذه الليلة بعد العاشرة عند »سليمان ».
فتحت الأم الباب فوجدت عبد الصبور مبتسما حالما، لقد حمل يده وعاء برتقال حزين وأقبل على رأسها يقبلها كالعادة .
« طال غيابك هذا النهار، أين كنت ؟ عند الماء طبعا أعرف أنك تقابلها هناك »
« إلي بقطعة من الخبز الذي تصنعه يداك الحنونتان، ودعينا نحتسي الشاي ما أطيب مذاقه ب »الشيبة » لقد أتعبني الجوع ».
لم تعقب صاحبة الستين، واضعة كل الطلبات على مائدة الخشب، إنها ملجأ كل الديدان الفارة من برودة الطقس.
آه !بعيدة هي المسافة بيني و بين الحقيقة. خيال هؤلاء التعساء واسع جدا، وحقيقة واقعهم أضيق من سم الخياط.
أفكار صادت أول اللقيمات التي أخدها الى فمه الأخرس، لقد تذكر كل شيء ، كل شيء… لم ينس « أيار » المنصرم لقد أشعل القدر فتيل الحرمان في قلبه وهو يحمل نعش والده على كتفه ليواريه الثرى بمقبرة الغفران .
وتلك الملابس البالية التي باعتها أمه « الباتول » مقابل قفة الباذنجان والجزر وبعض حبات البطاطس تعصر سويعات اللظى التي خلفها رحيل « الحاج المختار ».
هو في هذا وذاك، يجول بعينيه في فضاء عالمه الصغير لتقف أمام عقارب ساعة ترقب لحظة اللقاء .
« الخطب عظيم ياناس » كلمات انفلتت من عظمة لسانه ليلتقطها فضول أمه فيتفجر خوفها عليه.
« ماذا تقول يا عبد الصبور؟ هذا كلام كبير، ألا تعلم أن للحيطان آذان…ألا تعلم…؟.
« كفى، هو ذاك وأعلم أيضا أن الغيرة تسكنني، تقتلني حين أرى هؤلاء…يعيشون على فتات الموائد، كثر هم وراء القضبان جماعة الناقمين و الغاضبين »
وسط زحمة الكلام أدرك عبد الصبور أن موعد « سليمان » و »عادل » قد حان. أخذ بيده مجموعة أوراق ورواية ل »عبد الرحمان منيف » تأبطها وخرج.
هكذا يسدل الظلام خيوطه، ولا نسمع إلا مواء القطط الجائعة تجوب أزقة حي »جنان القاضي ».
وهذه صفيرة عبد الصبور ليطل سليمان من ثقب فوق السطوح.
ذلك الضوء الخافت الذي يسري في « براكة » القصدير يشع نورا يحتوي كل صور الحرمان يبعث الأمل في صدور الرفاق
يتبع…
Aucun commentaire