حين تتحول الفوضى إلى مطلب احتجاجي: مقاربة لفوضى المجال وظاهرة التريبورتر . ..
يحق لنا القول، دون أدنى تحفظ، أننا لم نعد نميز، داخل مجتمعنا المغربي، بين الفوضى والنظام، باعتبار أن تلك الثنائية التي تحكم نظمية المجتمع، وبالتالي ثقافته في تعاطي الحياة اليومية وإكراهاتها، لم تعد قائمة، ونقصد بذلك، الحق مقابل الباطل، والعدل مقابل الظلم، والدمقراطية مقابل الدكتاتورية، والفوضى ضد النظام، وعلى هذا الأساس تؤدي الفوضى للاضطراب وفقدان التوازن والتوتر والثورة، لأن النظام أمن وأمان واطمئنان وسلام وهدوء وسكينة … وبالتالي، كلما زاغ المجتمع عن جادة النظام إلا وزاغ نحو مستنقع الفوضى، وهو طريق معتم لا قرار له، يتفاقم ويصعب، إن لم نقل يستحيل، التحكم فيه أو توقع نهايته. وربما يعود استخدام مصطلح « فوضى »، بهذا المعنى، للحرب الأهلية الإنجليزية، من 1642 إلى 1651. فنجد توماس هوبز (1651)، يصف الوضع الطبيعي للجنس البشري كونه حرب الجميع ضد الجميع، بمعنى غياب السلطة التي تضبط وتحكم وتعاقب وتطبق القوانين والعهود، وتلزم المجتمع، أفرادا وجماعات، بالقوانين الوضعية. لكن يمكن لهذه السلطة أن تتواجد دون أن يكون لها دور في الحياة العامة، ليس من باب التخلي عن هذا الدور، لكن من موقع المتفرج الذي ينتعش من الفوضى ويتحول إلى مشجع للفوضى، كما هو شأن المجتمع المغربي، حيث أضحت الفئات التي نسميها تجاوزا شعبية، تنهش بعضها البعض، لأن القائمين على الشأن العام، والموكول إليهم السهر على تطبيق القانون وكل من يدور في فلكهم ممن ينعتون تمويها منتخبين، جميعهم يستثمرون في الفوضى، كل من موقع استفادته، ولنوضح أكثر هذه الصورة، نقف عند بعض تفاصيلها، فوضع مصير الشارع العام في يد « الفراشة » وأصحاب « التريبورتر » والحرفيين (clandestins)، وتسخير القايد والشيخ والبوليسي لحراستهم ضد المواطن(المواطن بمفهوم لكارط ناصيونال)، ناهيك واقع المدرسة العمومية والعبث الذي طال منظومة التربية والتعليم لعقود من الزمن، كل هذا ليس من باب الصدفة بقدر ما هو مقاربة أمنية جديدة للمجتمع، هذا المجتمع الذي ظل لعقود يتهدد السلطة وأصحابها، تم تفريغ تواجده من أي دور، لينصرف عن السياسة وعن كل فعل منظَم، فالذي يميز السياسة في المغرب أنه لا تنازع حولها، لأن النزاع قائم بين من يتوقون لتشكيل النخبة السياسية، وهي نخبة لم ترق لمستوى المفهوم السوسيولوجي لهذه الشريحة من هيكل الدولة المغربيةـ أو لنقل مؤسسة المخزن، لأنها فئة شرهة لا تفكر خارج شرنقة الذات، بقدر ما تتفانى للدود عن مصالحها، وبالتالي لا يمكن تصنيفها ضمن فئة البورجوازية أو الإقطاع، لأنه لا انتماء لها، لا قواعد، لا ضوابط، لا حدود لتسلطها، أخطبوطية البنية، جامحة، تجدد أساليبها. أما عن موجة الاحتجاجات التي تنفلت بين الحين والآخر، أو ما أضحى يعرف بالحراك، نتيجة ما يتعرض له المجتمع من ضغط بسبب سياساتها، فيمكن الالتفاف عليه بسرعة، لأن الحراك غير مؤطر، هو حالة اندفاع وغضب سرعان ما تنطفئ شعلتها بأقل خسارة، أو يتم امتصاصها من لدن أصحاب القرار بتلبية مطالب لا تعدو حلولا ترقيعية قد يستفيد منها البعض دون الكل، وتتدخل الجهات موضوع الحراك بعنف لاستعراض القوة وحضور المخزن كمؤسسة تتحكم في مجريات الأحداث، أما الأحزاب والنقابات فلا حياة ولا صدى غير القوالب الفارغة، لا موقف ولا رد فعل ولا بيان … لا نستسيغ غياب تسجيل موقف من حدث ما يهم قضايا المجتمع الذي يفترض أن النقابات والأحزاب تؤطره، ومما يمكن الاستدلال به على قيام وجهة نظرنا، أن الفوضى ظاهرة عامة لا تخلو منها مدينة مغربية، لدرجة أن مدن المغرب أضحت متشابهة على مستوى احتلال الملك العمومي. ويمكن الوقوف عند هذه المشاهد المعبرة عن واقع حال المجتمع المغربي:
– احتلال الشوارع والطرقات من طرف الفراشة،
-الباعة المتجولون يرفضون الانتظام داخل أسواق القرب،
– أسطول التريبورتر يرفضون أي وضعية قانونية لآلياتهم، آليات غير مرقمة، رغم كونها تشغل نفس حيز السيارة العادية، ناهيك عن الاعتداءات والأضرار التي يتسببون فيها بالطريق العام، داخل المجال الحضري، لأن فتوى إدماج النزلاء لم تكن محسوبة العواقب، أو أنها حق أريد به باطل، لأنه في كثير من الأحيان، وأنا أتأمل السلوك اليومي لأصحاب التريبورتر تجاه من حولهم، أجده قائما على العدوانية والضغينة والكراهية، فهم يحملون ترسبات الفشل والنقص التي تجرف نحو العدوانية، وهي عدواني مشفوعة بواقع الحرمان وتضييع الفرص، وهو الأمر الذي تم استغلاله، بحيث يبدو للكثير من هؤلاء أنهم يتجولون وسط مؤسسة سجنية، فالعديد منهم يحمل سلاحا(سيفا على غرار المشرملين)، وكلما صدم سيارة إلا ولجأ للتهديد والعراك، ميالون إلى العنف البدني، إنهم يحتلون الشارع بعقلية « الفتوات المصرية »، ولا رادع لهم، بما في ذلك الأمن على مستوى الطريق وتنظيم المرور، فلا يمكن أن تلحظ تريبورتر يقف عند تشوير مرور ولو كان ضوء أحمر … لا رقيب … الأمر مدبر … يحتجون في الشارع العام ضد القانون، فهم يرفضون لوحة الترقيم أو الضريبة الطرقية والفحص التقني وحتى التأمين؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
-الحالة التقنية لغالبية سيارات الأجرة الصغيرة والكبيرة غير سليمة، فهل فعلا تخضع لفحص تقني جدي؟؟؟ هل كل سائق لهذه السيارات تتوفر فيه شروط حيازة رخصة السياقة ((permis de ville، لأن الكثير منهم لا هندام ولا خلق له؟؟؟ هل من رقيب للحافلات على مستوى تهور السائقين وفوضويتهم والحالة الميكانيكية لأسطول الحافلات داخل المجال الحضري أو خارجه؟؟؟
-أصحاب المحلات التجارية يفرشون سلعهم على مستوى واجهات محلاتهم وسط مساحة تمثل ضعفي المساحة الأصلية لهذه المحلات،
– أرباب المقاهي يحتلون الأرصفة المقابلة للمقاهي ويجعلون لها سياجا من البلاستيك مدعما بالحديد أو الأليمنيوم، ليشغل المقهى ضعف مساحته الأصلية، وهو يؤدي ضريبة رمزية، وأمام هذا الوضع يجد الراجلون أنفسهم مجبرين على السير وسط الطريق(الشانطي) الخاص بالسيارات بدل الرصيف المحتل،
-احتلال واجهات المساجد والمؤسسات التعليمية كمرآب للسيارات أو براكات،
-ظاهرة التريبورتر سبقتها تجارب أخرى بدعوى امتصاص البطالة، مثل سيارات الهوندا لنقل البضائع، والمخادع الهاتفية، وعربات المبادرة، وتعاونيات المبادرة …
يبدو المشهد قاتما، والصورة سوداوية، فنتساءل عن مسببات هذا الوضع؟ هي كثيرة ولا يتسع المجال هنا لحصرها، إذ تحتاج منا لوقفة خاصة لمقاربتها واستعراض تجلياتها. لكن نكتفي هنا بالحديث عن الأسباب التي أودت لمثل هذا الوضع. طبعا هي أزمة اختيارات سياسية توالت عبر عقود، وليست وليدة الآن، فكانت نتيجتها تشكيل مجتمع منخور على مستوى عمقه الثقافي، حتى لا نقول هويته الثقافية، إذ تم تجريده من القيم التي من دونها لا يمكنه تسلق سلم الحضارة، فأضحى العنف سلوكا عاديا، حيث تم التطبيع مع الفساد على مستوى الإرتشاء والمحسوبية والزبونية وغياب حس المسؤولية واستعلاء الباطل … فانهار كل شيء جميل داخل المجتمع، وأضحى أشباه المثقفين يهرولون لعرض خدماتهم على الأسياد وفق العقلية الكلبية أو عقلية العبيد، بدل التفاعل مع قضايا المجتمع الذي يعيشون فيه ويشكلون ركنا أساسا من أركانه، فأضحى الريع فاشيا في كل المجالات من سياسة وثقافة. ولم تسلم من هذا الفساد المدرسة العمومية التي أضحى المدرس يهان ويجلد فيها من طرف البلطجية …
وبالنظر إلى التحولات التي آل إليها المجتمع المغربي خلال العقدين الأخيرين، ونقصد التحولات على المستويات، السياسي والاقتصادي والاجتماعي، سوف نقف على معالم هذه الفوضى التي أوردناها بمعنى التوتر وفقدان التوازن، بحيث يبدو وكأن المجتمع يعيش بدائيته كجنس بشري، ليست تلك البدائية المتوحشة، وإنما بدائية اللاسلطة واللاقانون، وبالتالي فوضى اللاواقع، إذ نجد النفور من القانون والعرف والقفز على القيم، فالفرد أو الجماعة لا توحدهم أشياء مثالية بقدر ما ينحى كل بجانبه ويسعى نحو التملك بأنانية متضخمة مشبعة بالعنف والعدوانية، لأن العنف ممتدة جذوره مع تاريخ البشرية، تجلى في الحروب العشائرية والعرقية والدينية والاقتصادية والسياسية … والعنف مستمر لا راد له حتى تفنى البشرية، وهو عنف بجميع مستويات تجلياته.
إن الفئة التي تتحكم في دواليب السياسة والاقتصاد، وليست النخبة، تلجأ لجميع السبل لاستتباب وجودها واستمرارها وسلامة مواقعها ومصالحها، هي لا تتورع عن استعمال المعرفة في سبيل الحفاظ على هذه الامتيازات، أو هي الطبقة التجارية على حد تعبير جاك بيرك في حديثه عن البرجوازية الفاسية (1)،
إن السلوك الهمجي سلوك مكتسب، بمعنى أن الأمر يتعلق بتربية الفرد وتنشئته، والهمجية حالة حيوانية يخضع فيها الفرد للغرائز، يتسم بالسلوك الغابوي اللاتربوي، ولعل السبب الرئيس الذي وقف عليه البحث الأنثروبولوجي، لما آلت إليه البنية الاجتماعية للمدن، هو الهجرة القروية المتعاظمة، بحيث أضحت تشكل أحزمة للمدن المغربية، ترتب عنها تفريخ أحياء الصفيح والسكن العشوائي وانتشار العنف والجريمة، وبالتالي احتلال هذه المدن … فتم تشكيل جيش لا ينضبط إلا لشريعة الغاب، يتم تسخيره لأغراض المخزن لتنزيل أي خطة من شأنها التحكم في المجتمع، ونقصد بالمجتمع الأفراد الذين يشكلون الفئة المنتورة من هيئة التدريس وأطر عارفة وعالمة ومثقفين بعيدين عن الريع الثقافي، وموظفين حكوميين … هؤلاء هم الذين يطبق عليه القانون بكل تعسف، بمعنى أن المخزن جَيَّشَ الفئة العريضة من المجتمع ضد فئة قليلة ليس بيدها ميزان القوى، وهي الفئات التي أسلفنا ذكرها، نضيف إليها الفئات المحرومة التي تبعد كل البعد عن فئة البلطجية، باعتبار أن هذه الأخير تعيش، بهتانا، تحت مظلة الفقر، وهي بعيدة عن هذا التصنيف.
من هنا، يمكن تقسيم المجتمع المغربي إلى ثلاث فئات، حسب نظرنا:
-الفئة المغتنية، والمستفيدة من ثروات البلاد، ومنها المخزن والمتسلطين على دواليب الاقتصاد المغربي، المتحكمين في اللعبة السياسية، المرتبطين مصلحيا بالخارج …
-فئة البلطجية، الذين لا يخضعون لقانون أو عرف، تم إنزالهم من القرى وتخريجهم من السجون، والفاشلين، والذين أنتجتهم سياسات التفقير، وفوضويو المجال الذين جعلوامن الأحياء السكنية أحياء صناعية، والمستفيدون من الإعانات وبطائق الرميد … ليحتلوا الحواضر، فتتحول المدن إلى قرى كبيرة، بل إن من عناصر هذه الفئة ما انتشر داخل المؤسسات التعليمية، لأن كل من يعنف أحد أفراد هيئة التدريس هو حتما بلطجي … ثم ننتهي إلى المسؤولين منعدمي الضمير، كما وصفهم الخطاب الملكي، فهم خريجو الإدارة العمومية …
– الفئة المتوسطة التي تلاشت، ولم يعد لها دور سوى الانضمام لفئة الفقراء الذين تطبق عليهم القوانين والتعسفات والزيادات في الأسعار ويؤدون الضرائب ويحترمون القانون على علاته…
نتساءل إذن، أين سيقودنا هذا التحول؟ لأنه حتما ليس تحولا ثقافيا يقودنا نحو الحضارة، بقدر ما هو تحول في اتجاه الهمجية، ليس بمعنى البدائية، وإنما بمفهوم اندحار بنيات المجتمع، كما اندحرت الطبقة المتوسطة (la classe moyenne (.
د. محمد حماس
ــــــــــ
الهوامش
عادل المساتي، سوسيولوجيا السلطة بالمغرب، إسهامات جاك بيرك، مطبعة النجاح الجديدة، المغرب، 2010، ص. 53
Aucun commentaire