في رحاب مقهى كولومبو بوجدة
1980 ، اذن ، عانقت وجدة ، المدينة التي لم يسبق لي أن زرتها ، أجهل تفاصيلها وأحياءها ، أهاليها وأمكنتها…لم اتعب كثيرا ، في شارع محمد الخامس استضافني مقهى كولومبو …مكان ليس ككل الأمكنة ، مقهى بنكهة خاصة وطقوس خاصة…منذ البداية عشقت المكان . ومازال هذا العشق يسكنني ، قد اغيب عن المكان ، وقد يطول هذا الغياب أحيانا ، ولكن الحنين يشدني دائما إلى أول مقهى….أحن الى قهوة كولومبو، الى حلوى كولومبو…الى خدمات كولومبو..منذ البداية لاحظت ان المكان متميز ، متميز من حيث خدماته ، متميز من حيث زبنائه..فضاء يقصده الفرنسيون والفرنسيات ، يرتاحون اليه ، يعتبرونه قطعة من مدينة الأنوار باريس…فضاءتلتقي فيه نخبة وجدة…فضاء محجوز للخاصة…لا يدخل هنا إلا من كان حداثيا…من كان مثقفا…فضاء للنقاش والتواصل…فضاء ثقافي وسياسي …عندما أجلس في مقهى كولومبو ، اعود الى ذاتي ، الى بداياتي الاولى في وجدة ، أتذكر زملائي وأصدقائي…اتذكر ميكي وسيمي وعبد الله…اتذكر حسن وحميدة وجيلالي وهم صغار…أتذكر أيام حبي لامرأة ستصبح زوجتي ،اتذكر الجلسات التي كانت تجمعني بها في كولومبو في مرحلة الخطوبة ومراحل بعد الخطوبة …ومازالت الجلسات في كولومبو تجمعنا ، مازالت مستمرة…اولادي وبناتي أحبوا المكان وهم صغار ، ومازالوا أوفياء للمكان وهم كبار…مقهى كولومبو رمز ثقافي وملتقى حضاري…في كولومبو حفق القلب لحب امراة اسمها فريدة ، زوجتي وأم غسان والياس ، صابرين وصفاء…في كولومبو خفق القلب للحب وللحياة في غشت من صيف 1982.
لم تكن مقهى كولومبو فضاء لتزجية الوقت ولا محطة لاستراحة المحارب اليومي اللاهث وراء شغف العيش بقدر ما أنها كانت مكانا رمزيا لاشتغال العين السوسيولوجية الفاحصة لتغيرات القيم والمواقف والأفكار ، او لنقل إن مقهى كولومبو كانت نقطة التلاقي التي يمكن أن نقرأ من خلالها تحولات المجتمع ، وأن نسمع عبرها أصوات التنافر والتجانس التي يحبل بها الواقع ، ثم نعيد تركيب السياقات والوقائع والرموز والأعلام في إطار نظيمة فعلي التأمل والتمثل ، وهما من المقومات المركزية في الكتابة الإبداعية ، التخييلية الرحبة ، وكذا في الاستثمار النظري التشريحي للقضايا الفكرية التي تنتجها الذوات الفردية والجماعية…لم تكن ، ولن تكون ، مقهى كولومبو فضاء يقع على هامش الحياة أو ملاذا لتبديد الوقت ،وممارسة بعض الألعاب الشعبية المتعارف عليها ببعض المقاهي..ولم تكن تجمعا لمشاهدة التلفزيون ومتابعة مباريات كرة القدم في اطار بطولة الليغا الاسبانية..إنها كانت عنصرا رئيسا في البنية العمرانية لمدينة وجدة ، وكانت المدة الزمنية التي نقضيها في مقهى كولومبو أكبر من مختلف الأزمنة الأخرى ، العمل والبيت ، فكانت المواعيد في كولومبو يومية وقارة…لعبت كولومبو دورا مهما في حياة زبنائها لتصبح شاهدا على مختلف العلاقات والأحداث والابداعات بين مرتاديها من أصحاب القلم ، كما لعبت أدوار طلائعية في اكتشاف الفنانين ومد جسور التواصل بين المبدعين ورجال السياسة ومختلف الفئات الاجتماعية ، ومنبعا لظهور عدة منابر صحافية…
ان مقهى كولومبو تذكرنا بظاهرة المقاهي والصالونات التي عرفتها فرنسا خلال القرن 18 ، عندما تحولت الى حضن لبلورة فكر الأنوار، وانتجت أعمالا كبيرة لا زالت تحظى براهنيتها الاكيدة ،رغم تغير الأزمة والأحوال . ومن خلال هذه الفضاءات ، أمكن قراءة المنطلقات النظرية والاجتهادات التنويرية للمرحلة بتتبع مسار التجارب المؤسسة لهوية التجديد الفكري الفرنسي للمرحلة ، مثلما هو الحال مع مشروع الانسكلوبيديا التي أنجزها ديدرو أو أعمال رواد الفكر السياسي المعاصر من أمثال مونتيسكيو وجان جاك روسو وفولتير….وغيرهم من الأعلام الذين جعلوا من المقهى ملتقى للفكر وللحوار وللإبداع…
Aucun commentaire