الأستاذ النكاز يرد على تعقيب : تقصيد المقاصد أم تبخير المقاصد
بقلم: الأستاذ ميمون نكاز
لقد أثار انتباهي وفضولي تعليق الأستاذ الكريم الحسن قايدة على محاضرة « تقصيد مقاصد الشريعة:أنظار في سريان القيم في مجاري التكليف »،فأحببت تسجيل ملاحظات يسيرة على ملاحظات الأستاذ من أجل الإفهام ورفع الالتباس.
لقد أسس الأستاذ الكريم تعليقه في عمومه وجملته على دعوى الإغراب اللغوي والإعجام اللساني دون مقاربة للأنظار العلمية لمضامين المحاضرة والقضايا التي أثارتها، فهو تعليق بتعبير صاحب التعليق على « الصياغة الشكلية ونوعية المخاطب ومستوى التخاطب وسهولة التلقي والإفهام » والتي قدر الأستاذ المعلق أن المحاضرة في مقاصدها ناقضت مقتضى نظرية المقاصد عند الشاطبي، لأنها أخلت بشرط الإفهام باعتباره شرطا كليا في البيان.
وقبل تسجيل جمل الملاحظات نود التنبيه لما يلي:
لقد أشار الاستاذ الكريم في بداية تعليقه إلى دقة عرض المحاضرة، وإلى النفس العميق والقدرات العالية للأستاذ المحاضر ثم انطلق بعد ذلك في بسط دعواه المتمثّلة في علة الإغراب والإغلاق التي نقضت- بتقدير الأستاذ المعلق - مطلب الإفهام والبيان، ولست أدري كيف استفاد الاستاذ الكريم من – إغراب المحاضرة وإغلاقها - هذه الدقة في العرض وكيف استشف نفس الأستاذ العميق واستظهر قدراته العالية من مهمل الكلمات ومن غريب الألفاظ - التي زعم أن المحاضر تعمدها - ثم كيف تستقيم هذه الدعوى مع اعتبار هذه الخاصية اللغوية شيئا فتح الله به على فضيلة الأستاذ بحسب تقرير الاستاذ الكريم نفسه، فهل في الإغراب والإغلاق والإغماق فتح من الله أم لعلها مجاملة في معرض النقد.
يبدو لي أن الاستاذ الكريم وقع له التباس واشتباه بين الإغراب اللغوي والإعجام اللساني الذين هما - بلا شك - من معايب القول وبين الدقة اللغوية والمتانة الاصطلاحية في بنيان الصياغة والصرامة في نظم المعاني وصفها في مباني لغوية وبلاغية مبتكرة تميزت بخواص الابتكار والإبداع والفرادة الاصطلاحية والمعجمية التي عرف الاستاذ ويعرف بها فيما كتبه ويكتبه وفيما حاضر فيه ويحاضر، وهو أمر مألوف منه ومعهود عنه لمن عهده وتعاهده، والذي يظهر أن عدم إلف الاستاذ الكريم بشاكلة الصياغة اللغوية التي يختص بها المحاضر وعدم عهده بأسلوب تأليف محاورها مما أقر نفسه أنه لم يعهده في طرائق الذين تحدثوا في المقاصد قديما وحديثا تعجله في توصيف المحاضرة بالإغراب والتكلف والصنعة، وهي أوصاف حكمية مستغربة الصدور من أستاذ يعرف مراتب البيان ومدارج الإفهام.
جمل الملاحظات المتعلقة بدعوى عدم انبناء خطاب المحاضر على أساس مقصد الإفهام،وبدعوى التكلف والتنطع والتصنع، وبدعوى الإخلال بمقتضى الإشراك الجمهوري
إن مقصود قصد الشارع من وضع الشريعة للافهام إفهام المكلفين كافة، والمكلفون كافة منهم العامة والخاصة، وإفهام الشريعة للعموم غير إفهامها للخصوص، وبيان الشريعة بيانات، فالقرآن بيان مبين، والسنة بيان لهذا البيان القرآني المبين، بيانها للقرآن لا ينزع عن القرآن الكريم وصف البيان قطعا،فذاك بيان وهذا بيان، وبيان حملة الشريعة - و راث النبوة– لبيانات الكتاب والسنة بيانات أخرى فيها من التأسيس والتقعيد والتنظير والتفصيل والتفريع والتصريف العلمي ما فيها، ولكل بيان من بيانات علوم الشريعة أهله الذين يتحملونه ويبينونه لمن دونهم، ممن يستغلق عليهم تفهم إفهام الشريعة، ولذلك وجب الرد والعود لأهل العلم وأصحاب الذكرلشفاء العي وفتح أقفال الفهم، وإنما يطلب ويبتغى درء انغلاق بيان الشريعة على العامة للنقص في أهلية الفهم لديهم، لا لنقص في إفهام الشريعة ذاتها، وعلوم الشريعة كما لا يخفى ليست سواء، فبعضها أخص من بعض، وبعضها أدق من بعض وأخفى، ولكل حملة،واشتراط تعميم العلم على الكافة بظن التعميم شرطا في الإفهام ليس من لوازم العلم، وليس مدلولا للشاطبي إطلاقا في تقريره لمقصد الإفهام، بل هو تعميم لشرط الإفهام بالمعنى الجمهوري في غير موارده، وإلا لاعتبرنا أمثالا بيان الجويني في « البرهان » وبيان الغزالي في « المستصفى » وبيان شيخ الاسلام ابن تيمية في « درء التعارض » وبيان سيبويه في « الكتاب » وبيان خليل في مختصره الكثيف وبيان الشاطبي نفسه في كتاب المقاصد تبخيرات لهذه العلوم والمعارف لأنها متعذرة لا أقول على العامة بل على كثير من الخاصة ، أيظن بالشاطبي أنه أخل بمقتضى مقصد الإفهام لأنه أغلق بعبارته المتينة وصياغته المكينة على العامة والكافة سبل الفهم دونهم، حيث لم يسلس نظمه العلمي للخاصة ولم يطوّع لهم إلا بالمدارسةوالمؤانسة والمعاودة والتكرار، أكان الشاطبي في مقاصده ناقضا للمقاصد معارضا لها لأنه لم يضع كتابه للإفهام بالمعنى الذي أراده الأستاذ الكريم لمطلب الإفهام؟ أيعقل أن يصف عارف بمراتب الفقاهة عالم بمدارج المعرفة ورتب التحمل والأهلية المصنفات سالفة الذكر بالتبخير العلمي أو » بتقطير المقطر وتعصير المعصر وتعسير المعسر » لأنها مبهمات على العامة مغلقات على الكافة؟ وهل يصح قياس إفهام هذه المصنفات وبيانها بقياس أهلية الكافة والعامة في الفهم، أم وزان الإفهام فيها بقياس أهلية الخاصة الذين هم نقلة هذه المعارف والمعاني وحملتها ومذللوها لعامة المكلفين وجمهورهم؟ والمشهود كما هو معلوم عن هؤلاء الأئمة الأعلام في صنائعهم العلمية أنهم إنما صنعوها لإفهام الأعلام لا عموم الأنام . وبالمناسبة تعسر علي فهم ايراد الأستاذ الكريم لمثل المعتزلة في تبخيرهم الكلامي ونقد أبي شعيب لهم، ولم أهتد لاكتشاف وجه الصلة بين تبخير المعتزلة المتعلق بالتحريف الغالي والتأويل المتعسف لحقائق العقيدة ونصوصها طبقا لمنهجهم الاعتزالى وبين أصالة اللغة العلمية ومتانة صرح البناء اللغوي، إن نقد أبي شعيب للإغراب الاعتزالي هو نقد لتبخير معاني العقيدة بالتأويل العقلي الغالي وليس نقدا لمباني اللغة المجردة. كل من أنصت للمحاضرة وينصت إليها يشده إيقاعها اللغوي الخاص، ويثير انتباهه معجمها الاستعاري والاشتقاقي من اللسان القرآني، ومن أساليب التعبير العلمي والفلسفي الدقيقين، مما يقتضي عدة لغوية مكثفة لتظهير المعاني الكثيفة، وما كان المحاضر يتصنع الكتابة أويتكلفها كما أفاده حفر الأستاذ المعلق في القصود الباطنية، ولكنها صناعة لغوية طوعية سجية يعلمها كل من عرف الأستاذ المحاضر وصاحبه، فدعوى التصنع والتكلف تهمة عجلة ننزه الأستاذ المعلق عنها، ونربأ به أن يقع في آفة الخلط وعدم التمييز بين الإغراب والإغلاق وبين متانة اللغة ودقة المصطلح.
تدور الملاحظات الأخرى للأستاذ المعلق في فلك الملاحظة الأولى المتصلة بمطلب الإبانة في البلاغ والإفهام، ونبذ التعمق والتكلف واطراح الشكلانية فارغة المحتوى، والسطحية المتكلفة في فهم الكتاب العزيز، قال الأستاذ المعلق: « ليست العبرة إذا بالألفاظ والمباني،فهذه أوعية وأواني قيمتها في وظيفتها، وهي حفظ ما بداخلهما وما تكتنزه من دلالات، ومضامين وحقائق، بيد أنها عندما تتحول هذه الأواني والأشكال إلى مقاصد فإن المعاني طبعا تضيع ». انتهى كلام الأستاذ.
إن تقرير اعتبار المقاصد والمعاني مسلم لا جدال فيه، لكنا وجدنا الكلام عن آفات سيادة المنطق الأرسطي وعلم الكلام بحدوده الصارمة وطرائقه في البرهان في سياقات تعليل الأستاذ واستشهاده، وجدناه أجنبيا تمام الأجنبية عن مبحث المحاضرة وهموم القول فيها، والأستاذ المحاضر من أشد الناس استثقالا لتلك المسالك والطرائق، ولا أعلم الحكمة في حشو هذا الكلام في مثاني التعليق، كما أن التأكيد على ضرورة اتباع معهود العرب الأميين وعرفهم في التخاطب مما يسعه لسان العرب لم نجد له متعلقا بلغة المحاضرةولسانها، اللهم إلا إذا تقرر أن لسان العرب أحدي في إفهامه وبيانه، وأن مراتب السعة في اللسان العربي واحدة، وأن وعاء الأستاذ اللغوي قد وسع سعة لسان العرب في الإعراب والإفهام والبيان حتى يصح منه الاستدراك بهذا الأسلوب الحدي والقطعي،وهل وسعت مدارك المتأخرين اللغوية– والمعلق منهم -ــبسطة لسان العربية كلها. أعود لأقرر: إن مراتب البيان متباينة ومدارج الإفهام متفاوتة ومباني البيان والإفهام واسعة بسعة لسان العرب في معهود لسانهم ومأذون لغتهم، ومقاصد التعليم والتربية والتبليغ والتزكية لعموم المكلفين التي يطلب فيها بلاغ العامة وإفهام الكافة غير مقاصد التنظير والتقعيد والقول العلمي الخاصة في مقامات البيان الخاصة التي تقتضي إحكاما للغة ودقة في الصياغة والعبارة، وفضول الكلام في مقامات التأسيس والبناء والتقعيد فضول في العلم والمعرفة، ولقد عجبت لاستدعاء الأستاذ المعلق للآية الكريمة: »ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ » في معرض عيبه لمهمل اللغة وغريب العبارة في المحاضرة وفق وزان الأستاذ للمهمل والغريب، والملاطفة العلمية في هذه الحوارية أن الآية الكريمة من حيث مناسبتها لتأويلها في السياق القرآني جاءت نقيضة للمعنى الذي وظفها الأستاذ فيه، تقول الآية الكريمة: « الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا، مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ، فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ » (الملك،الآية 3-4). إن سبب خسوء البصر وحسوره هو الإعياء نتيجة العجز عن وجدان الفطور في خلق السماوات والأرض للإحكام والإتقان المشهود في صنعتها، وكذلك خسوء العقل وحسوره في فهم بعض المدونات العلمية سببه الإجهاد الذي يجده عاقل الكلام نتيجة الإتقان والإحكام في الصيغ والمباني والجدة والخفاء في معقول المعاني، وقديما قال الشاعر:
من مد طرفا إلى ما فوق غايته ارتد خسآن منه الطرف قد حسرا
بخصوص الملاحظة المتعلقة بخاصية الاشراك أو الاشتراك الجماهيري عند الشاطبي أكتفي بطرح هذا الأسئلة: أي صنف من الجمهور أشركه الشاطبي في موافقاته؟، وأي طريق نهج الشاطبي في إفهام وبيان المقاصد، طريق العامة أم طريق الخاصة ؟،وهل نظر الشاطبي في المقاصد مبذول للعامة ممنوح للكافة؟ أم هو مخصوص بالخاصة الذين عليهم ــ- وهو واحد منهم -ــ بلاغه وبيانه وتقريبه وتنزيله للكافة والعامة بطرائق البلاغ ومسالك البيان وأساليب التقريب والتنزيل المختلفة الميسرة؟
يبدو الجواب واضحا عن هذه الأسئلة، ويظهر أن الأستاذ الكريم لم يميز بين مستويات النظر والقول في المسائل التي أثارها ولم يتبين مسالك البيان والإفهام ومناسباتها.
كنا نتمنى لو تحرر الأستاذ الكريم من عقدة اللسان ومعضلة اللغة ليتسع القول في مضامين المحاضرة وينفسح الكلام في القضايا التي أثارتها، وهي بعض من القضايا المختلفة والمتشعبة التي تثيرها علوم المقاصد ومعارفها، بعض منها ضربنا به الأمثال على سبيل التنبيه والتمثيل لا الحصر والإحاطة، ووددنا -ــممنونين -ــ لو قدم الأستاذ تعليقه بعد المحاضرة، وقد كان من الحاضرين ، لتعم الفائدة ولنتبينإن كانت المحاضرة تبخيرا للمقاصد أم تبحيرا فيها على صعيدي اللغة والمعنى ، لكن المعلق لم يحسن السباحة فيها
على كل حال هذه مثارات نقاشية سريعة وعابرة على تعليق الأستاذ الكريم وتوصيفه للمحاضرة بالتبخير الأمر الذي وجدنا فيه مباعدة عن الإنصاف ومغاربة في الحكم.
هدى الله الجميع لمحاسن الأقوال وصالح الأعمال،ونسأله جل جلاله أن يجمّلنا بعفيف الكلام في المخالفة والمعارضة استجابة للأمر الإلاهي « وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً » الآية.
والسلام والرحمة على من عقل واهتدى
Aucun commentaire