رمضان شهر التعبئة الإيمانية
رمضان شهر التعبئة الإيمانية
مراد جدي (داعية وكاتب إسلامي)
بسم الله رب العالمين والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين؛
أما بعد:
ما إن ينتهي شهر رمضان العظيم إلا ويبدأ المخزون الإيماني بالتناقص تدريجيا، حتى لا يكاد يصل رمضان المقبل وإلا ويكون حالنا قد أوشك على استنفاذ ذلك المخزون أو قد نفذ فعلا، كل على حسب درجة تعبئته من الطاعات والخيرات في هذا الموسم، فالبعض تتلاشى طاقته الإيمانية مباشرة يوم العيد، بينما تستمر لدى آخرين مددا معينة تتفاوت حسب درجات الإنسان من الطاعة، إذ يقوم البعض بتجديده خلال مواسم السنة بأنواع الخيرات والطاعات، وآخرون لا يردون بالا لذلك. ومن رحمة الله تعالى بنا أن وظف علينا وظائف في كل ليلة ويوم وشهر وحسب كل وقت، منها المفروضة والمسنونة والمندوبة، وجعل بعضها أفضل من بعض في الثواب، والأوقات الفاضلة هي مواسم الخير التي يغتنمها السعداء بأنواع القربات إلى ربهم ويحرم منها الأشقياء. وشهر رمضان من أعظم هذه المواسم فجزائه بغير حصر ولا عدد كما ورد في الحديث القدسي المروي في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن ربه عز وجل ((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ)).
فالله تعالى شرف رمضان بمضاعفة الطاعات وأنواع الخيرات، وهيأ كل جوا مناسبا يعين الإنسان على التدين وزيادة الإيمان لمن أراد، لكن ما يلاحظ على بعض الناس أنهم يفسدون فضيلة وكرامة هذا الشهر بعادات وسلوكات تؤدي إلى نقصان أجورهم وإتلاف أعمالهم، لذا في هذا المقال سأتوجه إلى نفسي أولا، وإلى إخواني وأخواتي أن نستغل كرم الله علينا في هذا الشهر ونأتي فيه من الأعمال ما يعيننا على مواصلة طريق الإيمان والطاعة طوال السنة، إن لم يكن آخر عهدنا بالدنيا هذا الشهر فلا ندري هل نصومه العام المقبل أم لا، وسأنبه على بعض عوائق مفسدة للتدين وحلاوة الطاعة في هذا الشهر، وسأختم بذكر بعض الطرق الأمثل في التعامل مع هذا الشهر واستغلاله أحسن استغلال لما نرجوه من القبول والجزاء عند الله الكريم الوهاب.
1- معينات التدين في رمضان
التوفيق الرباني على الطاعة وتجنب المعصية: حينما يدخل شهر رمضان يهيئ الله تعالى لنا من الأسباب المعينة على صيامه وقيامه كل وسائل التوفيق؛ فقد جاء في الحديث الصحيح: » إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ , وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ , وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ « وفي حديث آخر رواه الترمذي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ وَيُنَادِي مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ ».
الانسجام مع النظام الكوني المتعبد لله: جعل الله نظام الكون والحياة قائما على دروات متجددة متكررة، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} (الفرقان: 62)، وكما أن جميع المخلوقات تحتاج إلى فترة راحة وهدوء وتجديد لكيانها، فإن الإنسان أحوج إلى فترة روحية ولحظة عودة صادقة إلى ذاته لإصلاح نفسه وكيانه، وذلك على المستوى الفردي والجماعي. ورمضان فرصة لتعبئة القوى النفسية والاجتماعية والخلقية والروحية لمواصلة مسيرة الحياة والتاريخ، إذ بالصيام تقل نوازع الشهوة والعدوان في الإنسان وتنزع إلى الارتقاء بالروح وحب الخير للناس، وتعيش لحظات الصبر والتضحية والتحرر والقوة النفسية.
الترويض والإقبال النفسي: رمضان فرصة لتقوية الجسم والنفس؛ فهو من جهة صحة للجسد يقيها من آفات الغلو في الطعام، ومن جهة أخرى يعطي للمسلم ثلاث قوى معنوية لها الأثر الكبير في صحته النفسية ومواجهة تحديات الحياة الدنيا. فهو يعلمنا الصبر: الصبر على الجوع والعطش والملذات، الصبر على الحرمان، وبالصبر نقدر على مواجهة كل الصعوبات والمصائب التي تهددنا في الحياة من فقر وأزمات اقتصادية وسياسية ونفسية، ونتجاوزها ونفوسنا سليمة راضية بقضاء الله وقدره، إذ قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: « الصَّبْرُ نِصْفُ الإِيمَان، وَالْيَقِينُ الإِيمَانُ كُلُّهُ ». والطاعة والاستسلام لله تعالى وهما جوهر الدين وأساسه، فنمتنع عن الطعام والشراب والملذات والعادات امتثالا لأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عن طواعية واختيار، في حال المنشط والمكره، وبذلك يكون الصيام أخلص عبادة لله لا رياء فيه ولا سمعة. وأيضا النظام، فالمسلم في رمضان يأكل بنظام وينام بنظام ويستيقظ بنظام، فالمجتمع كله يعيش أروع تجليات النظام، لذلك كان رمضان من أهم وسائل تربية الأمة على النظام في حياتها.
الجو الروحي في رمضان: في رمضان يسود جو من الحرارة الإيمانية فترى إقبال الناس بهمة على الطاعات وفعل الخيرات؛ وما ذلك إلا أثر من آثار المدد الرباني الذي يغشى الناس في هذا الشهر؛ فقد ورد في الحديث النبوي الشريف: « أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك، كتب الله عليكم صيامه، فيه تفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب الجحيم، وتغل مردة الشياطين، فيه ليلة هي خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم ».
الشيوع الاجتماعي للطاعة: في هذا الشهر، خاصة بالنسبة للمغاربة، يولونه أهمية كبرى ويعتنون به غاية الاعتناء من جميع النواحي، لذلك ترى الكثير من المنكرات تقل ومقدار الطاعات تزداد، فيكون الجو العام مساعدا للإنسان على الانخراط في هذا الإقبال الكبير على الله، فتغص المساجد بالمصلين حتى لا تكاد تجد لك مكانا، وتكثر الصدقات، وتلاوة القرآن ومجالس العلم والذكر، وتنتظم أوجه حياة الناس في الطاعة، وهذا عكس ما هو موجود في بقية الأشهر.
وجود الوقت الكافي: نتيجة التخفيف من أعباء الوجبات اليومية والعادات المتكررة وبركة الله في الوقت، يجد الإنسان في رمضان الوقت اللازم لإنجاز أشغاله الدنيوية والإتيان بالطاعات، وأهم شيء نفتقده في تسارع وتيرة الحياة المعاصرة هو الوقت لكثرة الانشغالات وأحيانا في التوافه، لكن رمضان فرصة نادرة للاشتغال بالله وحده وترك ما سواه، والوقت رأسمال الإنسان؛ فمن وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :« يا أَبَا ذَرٍّ : اغْتَنِمْ خَمْساً قَبْلَ خَمْسٍ :شَبَابَكَ : قَبْلَ هَرَمِكَ .وَ صِحَّتَكَ قَبْلَ سُقْمِكَ .وَ غِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ .وَ فَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلِكَ .وَ حَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ » .
تحسن أخلاق الناس نسبيا: في رمضان ترى أن الفوارق الاجتماعية قد زالت، ويسعى الأغنياء للتقرب من الفقراء والإحسان إليهم فتخف كثير من الأحقاد وظواهر الحسد والبغضاء. وتنتشر مشاعر التواضع والحب والتعاطف، فالصيام تربية عملية على المساواة والإخاء والحرية. إذ روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: « كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَة ».
2- عوائق إفساد التعبد في رمضان
النوم الكثير: يستغرق الكثير من الناس نهار رمضان في النوم، وفي ذلك تضييع لفرص كثيرة من الأجر والثواب، فالصيام هدفه الإحساس بالحرمان وما يثيره من قوة الصبر والإخلاص والاستسلام لأوامر الله، أما النوم فيضيع هذه الغاية وتفوت الإنسان الصلوات في وقتها، والصلاة قبل الصيام في أركان الإسلام، كما أن أجرها مضاعف في رمضان. فعن أبي جعفر قال: خطب رسول الله صلى الله عليه واله الناس في آخر جمعة من شعبان فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أيها الناس إنه قد أظلكم شهر فيه ليلة خير من الف شهر، وهو شهر رمضان، فرض الله صيامه، وجعل قيام ليلة فيه بتطوع صلاة كمن تطوع بصلاة سبعين ليلة فيما سواه من الشهور، وجعل لمن تطوع فيه بخصلة من خصال الخير والبر كأجر من أدى فريضة من فرائض الله عز وجل ومن أدى فيه فريضة من فرائض الله عز وجل كان كمن أدى سبعين فريضة من فرائض الله فيما سواه من الشهور).
السهر: يلجأ كثير من الناس إلى السهر طول الليل حتى إذا حل الفجر ناموا عن صلاته ولما يأتوا بجلسة الشروق؛ وفي ذلك تضييع لأجر كبير، فصلاة الفجر من أعظم الصلوات عند الله تعالى؛ {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } (الإسراء: 78)، وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح ». وفي فضل جلسة الشروق ورد حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ ، ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ ».
وسائل الإعلام والتواصل: أصحبت هذه الوسائل من أكثر مفاتن العصر التي تشغلنا عن ذكر الله والطاعات، فوجب علينا ترشيد الوقت، ونستغل هذه الوسائل فيما يرضي الله ورسوله، قد يكون للإنسان حاجة تعليمية أو تدريبية أو تواصلية مهمة بها فلا حرج عليه، وقد يستفيد منها في التعلم ومتابعة الدروس والدعوة إلى الله فلا بأس من ذلك، أما الجلوس عليها طول الوقت في التوافه (الشات وغيره مما لا فائدة فيه) فلا يعود على الإنسان إلا بالخسارة، ففي حديث نبوي شريف: « رَغِمَ أَنْفُ عَبْدٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ ».
الطعام والشراب: بعض الناس يجعل من مائدة الإفطار فرصة لتعويض ما فاته من الطعام نهارا، فيقبل على أنواع المأكولات والمشروبات بنهم، وفي ذلك ضرر لصحة الجسم، وتثقيل على العبادات خاصة صلاة التراويح، فليأكل الإنسان بروية وهدوء فقد ورد في الحديث النبوي: (( المسلم يأكل في مِعَاً واحد والكافر أو المنافق يأكل في سبعة أمعاء )).
القمار: تنشر في رمضان بعض العادات السيئة مثل لعب أنواع من القمار في الليل (الكرتون، ظاما، العيطة وغيرها)، فترى البعض لا يحضر صلاة العشاء أو لا يكمل التراويح تلهيا بهذه اللعب، فيفوته خير كثير، وللأسف تستغل المقاهي فضيلة هذا الشهر للترويج لهذا النوع من الألعاب والتربح من وراء ظهور المغفلين ممن يخسرون أموالهم وأوقات طاعتهم لله في أشياء لا فائدة منها. فضلا على أن القمار بأنواعه محرم بنصوص صريحة: قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} (المائدة: 90)
شياطين الإنس: رغم أن شياطين الجن تسلسل إلا أنها توكل عليها في هذا الشهر إخوانها من شياطين الإنس ممن يفسدون في الأرض ولا يصلحون، من أهل الفسق والبغي الذين يسعون إلى نشر المنكر وسط المسلمين وخاصة القنوات التلفزية بأنواعها الأرضية والفضائية، وما يعرض فيها من برامج تحض على الخلاعة والعري والقيم الدوابية الهابطة، فليحذر المسلمون هؤلاء أن يسرقوا منهم تعبهم في رمضان، قال تعالى عن أمثال هؤلاء: {ولا تطيعوا أمر المسرفين، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون} (الشعراء: 151 – 152).
سرعة الانفعال والغضب: مما يلاحظ في رمضان انتشار مشاعر الغضب وسرعة الانفعال لدى بعض الناس بحدة خاصة من المدخنين ومدمني المخدرات؛ فتكثر المشادات والصراعات، وتسمع أنواع السباب والفحش غير المعهودة، بل قد يتطور الأمر إلى جرائم خطيرة مثل الضرب والجرح والقتل، في إطار ما يصطلح عليه شعبيا « الترمضينة ». لكن هذا مخالف لغايات الصيام التي تحث على ضبط النفس وكتم الغيط والتخلق بالعفو والسماحة، روى الإمام البخاريُّ –رَحِمَهُ اللهُ- في « صحيحه » (1894) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ؛ مَرَّتَيْنِ»، وفي روايةٍ (1904): «فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ».
3- الطرق والوسائل الأمثل لاستغلال رمضان
التدرج في الطاعة: بعض الناس تأخذهم الحماسة في بداية رمضان فيبدؤون بطاعات كثيرة، وقد لا يستمرون في ذلك إلا أياما معدودة، خاصة لمن لم يتعود على الطاعة في الأشهر السابقة، لذا كان من اللازم التهيؤ لرمضان من رجب وشعبان، أما من لم يفعل ذلك فعليه أن يأخذ نفسه بالتدريج ولا يتنطع في العبادة حتى لا يمل، وينوع في أنواع العبادة، ورد في الحديث الصحيح قولـه صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بما تطيقون، فو الله؛ لا يمل اللهُ حتى تملوا))، وفي رواية لمسلم ((فو الله؛ لا يسأم الله حتى تسأموا)).
العزلة والاعتكاف: يفضل في هذ الشهر الكريم العزلة مع النفس والاعتكاف عليها خاصة في بيوت الله وتجنب مخالطة الناس في مجالسهم الدنيوية، هربا من غفلة العالم وضجيج الدنيا، ولا يعني هذا قطع أواصر الاجتماع والتواصل فهو غاية الإسلام وهدفه الأسمى، لكن الوقوف للمحاسبة والتأمل والتفكر من أفضل القربات ولها نتائج تربوية فعالة على النفس، إذ تجعل المسلم متميزا في سلوكه وأخلاقه عن وسط المجتمع المنحرف قادرا على التأثير فيه بدل التأثر فيه، لذلك استحب الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان. عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: « نِعْمَ صَوْمَعَةُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ بَيْتُهُ، يَكُفُّ فَيهِ نَفْسَهُ، وَبَصَرَهُ، وَفَرْجَهُ، وَإِيَّاكُمْ وَالْمَجَالِسَ فِي السُّوقِ، فَإِنَّهَا تُلْغِي، وَتُلْهِي ».
تجنب الاستغراق في الماديات: يشغل الناس وقتهم، خاصة من النساء، في التجول بالأسواق واشتهاء أنواع المعروضات والتفكير في الوصفات وتحضير الكثير من الوجبات، وهذا لا يترك لهم الوقت للطاعات فيفوتهم الخير العميم، ويكون رمضان مجرد عادة ومناسبة فقط، لا يعود عليهم بغير المصاريف الزائدة التي يئنون من وطئتها. بينما رمضان على العكس من ذلك موسم طاعة وعبادة لله جز وجل، قال تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 185).
تنظيم الوقت: من أهم الأشياء وضع برنامج مبسط للطاعات توضع فيه الخطوط العريضة مثل الصلوات المفروضة والعبادات المثبتة يوميا، ومحاسبة النفس على تقصيرها وتعويض ما فاتها بالزيادة في الطاعة.
الابتعاد عن أصدقاء السوء: قال الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ: « مَنْ خَالَطَ النَّاسَ لَا يَنْجُ مِنْ إِحْدَى اثْنَتَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَخُوضَ مَعَهُمْ إِذَا خَاضُوا فِي الْبَاطِلِ، أَوْ يَسْكُتَ إِنْ رَأَى مُنْكَرًا، وَيَسْمَعَ مِنْ جَلِيسِهِ شَيْئًا فَيَأْثَمَ فِيهِ ».
استغلال الليل وما بعد الفجر: قيام الليل من أفضل القربات في رمضان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه« .
مقاطعة وسائل الإعلام الفاسدة: وقد بينا ما من متابعة برامجها والاشتغال بترهاتها من مفاسد في الدين ومن تعطيل عن أولويات الحياة من العلم والمعرفة والكسب والتكوين وغيرها. قال تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} (النساء: 27).
الاشتغال بالدعوة إلى الله: من تقديم النصائح بالتي هي أحسن وتوزيع المطويات والكتب والأشرطة وغيرها، وحث الناس على الطاعات وتوجيه الأهل والأبناء إليها، من الوسائل المثلى لتعزيز قوة الصيام وأهدافه. ففي الحديث النبوي: » قال صلى الله عليه وسلم لأن يهدي الله بك رجلا واحداً خير لك من حمر النعم« .
الحرص على التعلم والتعليم: خاصة تعلم القرآن وحفظ آيات منه، وتعلم أحكام الدين من الصيام وغيرها، وحضور مجالس العلم للاستماع والنقاش والاستفادة والإفادة وغيرها.
العمل الخيري والتطوعي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وأجود ما يكون في رمضان، لذا على كل مسلم سواء توفر لديه القليل أو الكثير أن يقدم على عمل الخير والبر ومساعدة الناس ولو بالكلمة الطيبة، قال النبي عليه الصلاة والسلام يقول : « اتّقُوا النّارَ ولَو بشِقّ تَمرَة فمَن لم يجِدْ شِقّ تَمرَة فبكَلِمةٍ طيّبَة« .
عدم ترك الأشغال والأعمال بحجة الصيام: فرمضان ليس شهر الكسل وتعطيل الإنتاج، بل على العكس شهر العمل والجهاد، حيث حقق المسلمون الانتصارات العظمى والإنجازات الباهرة، فلا حجة لأحد لذلك، خاصة إذا كان العمل شريفا غايته الكسب الحلال.
تجنب أوكار الغفلة (المقاهي، الحدائق …): وهذه فيها من المنكرات الشيء الكثير مما يخدش صيام المسلم ويعرضه للآفات (النظر المحرم، السباب، سماع الأغاني والفحش …).
أخذ النفس حقها من الراحة والترفيه: لا بد للنفس من ترويح طيب مفيد مثل الرياضة البدنية أو التجول في الطبيعة للتأمل، وغيرها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ ، وَصَلِّ وَآتِ أَهْلَكَ ، وَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ « .
هذا وإن الصيام تربية روحية للنفس الفردية والجماعية تتعلم بها الترفع عن شهواتها، والانطلاق في فعل الخير والتجرد عن حياة البهائم، لتسعد في الدنيا والآخرة. تقبل الله صيام جميع المسلمين بمزيد من الأجر والثواب.
Aucun commentaire