الأمية الأبجدية ليست قدرا محتوما
الأمية الأبجدية ليست قدرا محتوما
بقلم نهاري امبارك، مفتش في التوجيه التربوي، مكناس، المغرب، بتاريخ 09 يناير 2015؛
مقدمة:
مشاهد وصور عديدة تتكرر يوميا، في كل لحظة زمان وحيز مكان، في الشوارع، في المقاهي، في مؤسسات عمومية، في متاجر، في أبناك، في ورشات عمل، في محطات قطار، في محطات طرقية، في مطارات….تتجلى في ما يلي:
· » اقرأ لي المكتوب على هذه الورقة »، عبارة كثيرا ما تتردد على ألسن أشخاص كثر، في عدة أوساط، حضرية وقروية، وعدة مواقع إدارية وعمومية؛
· » اكتب لي هذا الرقم على هذه الورقة »، طلب يصدر عن عدة أشخاص بعدما يتلقون مكالمة هاتفية ويرغبون في الاحتفاظ برقم واسم مخاطبيهم، غير قادرين على قراءة وكتابة الرقم، وعاجزين عن تسجيل المعلومات في ذاكرة هاتفهم؛
· « اكتب اسمك ووقع » عبارة تتكرر، لأغراض عدة، في جميع المؤسسات والمحافل واللقاءات، كثيرا ما يقابلها جواب » لا أعرف الكتابة، ولا أستطيع التوقيع، هل أبصم؟ »؛
· » ما رقم هذه الحافلة وإلى أين هي متجهة؟ »، سؤال يطرحه في كل آن وحين، أفراد كثر، ينتظرون حافلات النقل العمومي…؛
وغير هذا وذاك كثير جدا، يترجم ما اصطلح على تسميته » الأمية الأبجدية » المتجلية في عدم قدرة الفرد على فك شفرات الحروف الأبجدية وعدم معرفته الكتابة ومبادئ الحساب.
ويتم تسجيل المشاهد أعلاه في عدة تجليات، يوميا وفي كل آونة عن عدة أفراد، ذكورا وإناثا، صغارا وكبارا، شيوخا وكهولا، يعيشون وضعيات متعددة في حياتهم اليومية وعلى عدة أصعدة: عمل، علاقات، معاملات، تجارة، مراسلة، رسالة، اتصال….فما هي الأسباب والعوامل التي حالت دون تعلم أولئك الأشخاص القراءة والكتابة والحساب؟ وهل تعلموا شيئا ما وانمحت ذاكرتهم المعرفية؟ وما هي أوضاعهم النفسية والاجتماعية داخل البيئة التي يعيشون بها؟ وكيف يدبرون شؤونهم اليومية؟ وكيف يعاملون أبناءهم ويربونهم؟ وكيف يتأثرون نفسيا في مختلف المواقف؟ وهل يحققون إنجازات في حياتهم؟ وهل هم راضون في حالة تحقيقهم هذه الإنجازات؟ وأي السبل لتداركهم القراءة والكتابة والحساب؟ وما نجاعة مشاريع محو الأمية؟
تلكم مجموعة من الأسئلة قد يطرحها كثير من الأشخاص، القارئين والأميين على حد سواء، تسيج إشكالية انتشار الأمية الأبجدية في الأوساط الاجتماعية وآثارها في الفرد والمجتمع وعلى التنمية بشكل عام، سنحاول، قدر المستطاع، مناولتها استنادا إلى وضعيات اجتماعية ملموسة وحالات معيشة في مواقع متعددة ومؤسسات مختلفة وعلى عدة أصعدة، حاصرين موضوعنا في الفرد غير المتعلم وعدم معرفته الحروف الأبجدية والأرقام الحسابية كتابة وقراءة وعمليات، وذلك من خلال الفقرات التالية:
I. تعميم التعليم وأدوار المدرسة:
فتنفيذا للسياسة التعليمية المتبعة، مجهودات بذلت قصد تعميم التعليم، وبنايات مدرسية أحدثت في الأوساط الحضرية والقروية، ووفق إحصائيات رسمية، وملامسة للواقع المعيش، أعداد كبيرة من الأشخاص غير المتعلمين، لا يعرفون القراءة والكتابة والحساب، يشكلون، أرقاما هامة على الساحة الاجتماعية ببلادنا، ما يؤدي إلى مساءلة الواقع:
§ هل نسب التمدرس الفعلية تبقى عبر السنوات دون الواقع الفعلي، ولا تتناسب طرديا والنمو الديموغرافي ببلادنا؟
§ أو هل البنايات المدرسية المحدثة لا تستوعب الأطفال في سن التمدرس، والعرض المدرسي يبقى دون المنتظر، والخدمات المدرسية لا تغطي أحياء وقرى ودواوير ومداشر؟
§ أم هل المدرسة تلفظ أطفالا دون تمكنهم من الحروف الأبجدية والحساب، والاحتفاظ بالتلاميذ يبقى نظريا، حيث الفضاءات المدرسية مجردة من وسائل التحفيز، ولا تتوفر فيها عناصر الجاذبية المطلوبة؟
§ أم هل متطلبات المدرسة تفوق المستويات المعيشية للأمهات والآباء ولا يستطيعون توفير المستلزمات الدراسية لأبنائهم، وشروط متابعة الدراسة، من أدوات وكتب مدرسية ومصاريف التنقل اليومي…؟
أسئلة كثيرة تؤطر واقع المدرسة، وواقع أفراد من مختلف الأعمار يفترض أن يكونوا قد استفادوا من خدمات المدرسة التعليمية والتكوينية، لكن وضعهم الحالي يفند ذلك جملة وتفصيلا، إذ يوجد أعداد من الأشخاص يطلبون خدمة قراءة وثيقة أو كتابة معلومة وهم يبدون عجزا بينا عن القيام بذلك.
II. الوضعية النفسية والاجتماعية للفرد غير المتعلم:
لقد تفشت الأمية الأبجدية وانتشرت على نطاق واسع وأضحت ظاهرة اجتماعية وآفة يكابدها من يقع تحت وطأتها وجثمت على صدره بثقلها.
إن طلب فرد غير متعلم لا يعرف القراءة والكتابة والحساب، خدمة تكمن في قراءة وثيقة أو كتابة معلومة، لن يتم في ظروف نفسية عادية، حيث تظهر على محياه ملامح التردد والخجل والتأثر، من خلال خطابه المتلعثم ومفرداته المبهمة، وحركاته المضطربة غير المتسقة.
تلكم بالتأكيد تجليات عقد نفسية عميقة، ومركبات نقص يعاني منها الشخص غير المتعلم، حيث يشعر في قرارة ذاته بالدونية والإحباط والاحتقار لمقوماته الذاتية، فإما يتوجه إلى جلد الذات ويلقي باللائمة على نفسه، ويعيش اضطرابات نفسية ملازمة لشخصه، تشكل حواجز حقيقية أمام مبادراته الشخصية، وتعيق تحركاته وتقف أمام إنتاجاته، أو يشعر بالندم لتفويته فرص التعلم قد تكون أتيحت له ولم يستطع استغلالها أو لم يلق تشجيعا أو مساعدة للمسك بها والاستفادة منها، أو يوجه اللائمة إلى جهات أو أطراف أخرى حالت دون تعلمه، وزجت به في وضعية قاتمة يتخبط في ويلاتها، فيرجع عقارب الزمان إلى سنوات خلت، وتغرق ذاكرته في عمق التاريخ، وتغوص مليا وفي كل حين، في ظروف تمدرسه، وموقع مدرسته الجغرافي، ومشاق التنقل، ووضعية الفضاءات المدرسية، والعملية التعليمية، ومناخ قاعة الدرس، ومحتويات المقررات الدراسية، ومعاملات المدرسين والمشرفين الإداريين….
ومن شدة معاناته ضعف الشخصية، يعتقد الفرد غير المتعلم أن كل شخص نصاب ومتحايل في أبسط القضايا، فتقل أو تنعدم ثقته في نفسه وفي الآخر، وتضطرب معاملاته من كثرة الحيطة والحذر المفرطين، والشكوك وحالات التردد المتزايدة التي تطبع إقدامه على فعل شيء أو التخلي عنه، إلى درجة الانغماس بكل الجوارح في الإقبال أو الإدبار، دون حساب الانعكاس أو العاقبة، فينقاد أحيانا دون مبالاة، ويتراجع أحايين مذعورا متوجسا دون معرفة الدافع أو الرادع، فإما يهوى إلى الدرك الأسفل، وإما تضيع منه فرص قلما تعوض، وإما يجني منتوجا مشبوه المصدر قد يؤثر سلبا عليه سنوات، أو يزج به في غياهب دهاليس مظلمة.
والفرد غير المتعلم معرض بالتأكيد لكل أشكال الاستغلال، فيعتنق كرها أعمالا حقيرة لم تتطلب تأهيلا ولا معرفة، غير مهيكلة ولا منظمة ولا خاضعة لأي مراقبة إدارية، بعيدة عن التسيير الرسمي المعقلن، تسهم تلقائيا في هضم الحقوق والانفلات من الواجبات، ولا علاقة لها بأسس التنمية المنشودة، بل تضمن فقط الاقتيات ولقمة عيش اليوم، لتبقى جميع أبواب الفقر والجهل والأمراض والعاهات الجسدية والعقلية مفتوحة على مصراعيها، يعيش مدى حياته الريب والتوجس والاحتراس المفرط إلى درجة مرضية، فيصبح لقمة سائغة أمام الاستغلال، من أجل مبالغ مالية زهيدة، سهل الانقياد والاستقطاب والتغرير به في مختلف الأعمال اليومية، وسهل التعرض للنصب والاحتيال رغم احتياطاته، وسهل الانغماس في أي عمل كان.
وهكذا يتخذ الفساد من عقول غير المتعلمين أوكارا تعج بالموبقات، حيث يجهلون حقوقهم وواجباتهم، ويعتقدون أن قضاء مآربهم يتوقف في كل الأحوال على عمولات ودفع أموال، كما يتعبون ويكدحون فقط من أجل الأكل والشرب والتناسل، ويعملون كالآلة دون تذوق معنى الحياة، عاجزين عن الإبداع ومعطلي الطاقات الفكرية والعقلية، ومحدودي الذكاء والطموح، وقد يصبحون عالة على المجتمع مشكلين كوابح حقيقية للإقلاع والتنمية البشرية.
III. إعادة إنتاج الأمية الأبجدية:
رغم المجهودات المبذولة في مجال محو الأمية في صفوف الأفراد غير المتعلمين، فإن الظاهرة لا تفتأ تتفشى وتطال أفرادا كثيرين من مختلف الفئات العمرية خصوصا أولئك الذين تتجاوز أعمارهم الخمسة والعشرين سنة، لعدة أسباب على رأسها، الجري وراء لقمة العيش والانشغال بأعباء الحياة.
والملاحظ أن هؤلاء الأشخاص الذين يشكلون السواد الأعظم من الأمهات والآباء يسهمون مكرهين في إعادة إنتاج الأمية، كيف ذلك؟
· حيث الأمية الأبجدية تجثم على صدورهم وقد عششت في عقولهم من سنوات خلت، فإن خبرتهم في تدبير شؤونهم الأسرية والاجتماعية ضئيلة جدا، إذ يشعرون بالدونية واحتقار الذات في البيئة التي يعيشون فيها؛
· وحيث يزاولون مهنا غير نظامية وغير مهيكلة، فإنهم يقومون بأي عمل كان مقابل أجور زهيدة، ومعرضون للاستغلال في أي مجال كان من أجل الحصول على لقمة العيش؛
· ونظرا لانشغالاتهم اليومية وعلى امتداد سائر الأيام، فإن ظروفهم لا تسمح لهم بالاستفادة من دروس محو الأمية، وعليه فالأمية الأبجدية سوف تلازمهم طيلة حياتهم؛
لهذه الحيثيات والأسباب، فإن الأشخاص غير المتعلمين تعترض حياتهم صعوبات ومشاكل تؤثر فيهم اقتصاديا واجتماعيا، وتحول دون اضطلاعهم بالأدوار المنوطة بهم كأمهات وآباء، كيف ذلك؟
§ حيث أوضاعهم المادية غير مريحة، فإنهم غالبا ما يسكنون أحياء هامشية أو قرى ودواوير تفتقر الدور بها لمتطلبات الحياة، فيعانون قساوة الشتاء وحرارة الصيف، ناهيك عن ظروف العيش خصوصا مع ارتفاع عدد أفراد الأسر، ومستلزماتهم اليومية؛
§ حيث الفقر والعوز والأمراض آفات تلازم الأمية، وتنال من الأشخاص غير المتعلمين، فإنهم لا يستطيعون توفير متطلبات أبنائهم من مأكل وملبس ولوازم مدرسية ونفقات التنقل إلى المدرسة التي قد تتواجد بعيدة عن السكن، فيضطرون للاعتماد على أبنائهم من خلال تشغيلهم لمساعدتهم على سد الحاجيات الأسرية الضرورية؛
لهذه الحيثيات، قد يكبر أطفال الأشخاص غير المتعلمين دون الاستفادة من خدمات المدرسة، ويعتنقون مجال العمل منذ نعومة أظافرهم، وتكبر معهم الأمية الأبجدية، ويعيشون نفس الأوضاع ويمرون من نفس مسار الحياة الذي مر منه أمهاتهم وآباؤهم.
IV. وسائل وأدوات استئصال الأمية الأبجدية:
قد لا يختلف اثنان أن الأمية الأبجدية تشكل العقبة الأساسية في وجه التنمية البشرية، وعليه فإن القضاء عليها أو استئصالها من أهم الشروط لتحقيق نهضة اجتماعية واقتصادية تسير بالمجتمع نحو الرقي والازدهار. واستئصال الأمية الأبجدية يعني اقتلاع جذورها وأسباب نشوءها وتفشيها في المجتمع، وذلك باستعمال، في اعتقادنا، الوسائل والأدوات التالية:
· تكثيف دروس محو الأمية وبرمجة حصص مسائية بعد التفرغ من العمل اليومي وبعد أخذ قسط من الراحة، في إطار أفواج تتشكل من أفراد متقاربي المستويات المعرفية، واعتماد برامج محفزة ذات صلة بالبيئة الثقافية والاجتماعية للأفراد المستفيدين من هذه البرامج، واستغلال المحطات التلفزية الوطنية، والالتجاء إلى تحفيز هؤلاء الأشخاص عن طريق وداديات وجمعيات مدرة للدخل، وتوفير لهم سبل الارتقاء بالحياة من ماء وكهرباء، وبناء المستشفيات والمراكز الصحية بجميع القرى والمداشر وتجهيزها بالوسائل الضرورية، وشق الطرق وبناء القناطر والجسور، وفك العزلة عن القرى والدواوير النائية، وتوفير وسائل النقل العمومي…؛
· إرساء أسس متينة للتربية غير النظامية باعتماد إستراتيجية فعالة وبرامج ومناهج هادفة، مع العمل على استقطاب جميع اليافعين والأطفال غير الممدرسين والمنقطعين عن الدراسة، وحفزهم وأسرهم بجميع الوسائل الممكنة، وتوفير فضاءات مناسبة ووسائل لائقة، وضمان إدماجهم في الأسلاك الدراسية والمهنية والاحتفاظ بهم، واعتبارهم كسائر التلاميذ…؛
· تعميم التمدرس، وإحداث مزيد من المؤسسات التعليمية الابتدائية والمدارس الجماعاتية تساير التقدم الصناعي والتكنولوجي، وتحسين العرض المدرسي، وتجويد مضامين المقررات الدراسية والكتب المدرسية، وإرساء برامج ومناهج تتلاءم ومتطلبات سوق الشغل وتراعي التحولات الاجتماعية والاقتصادية، وتكوين مدرسين أكفاء ومتمكنين أكاديميا ومهنيا، ومحاربة ظاهرة الاكتظاظ والهدر المدرسي، والقضاء على ظاهرة الأقسام المشتركة، وفك العزلة عن المناطق النائية بحيث تصبح المدرسة قريبة من التلميذ…؛
· تعميم التعليم المهني وإدماجه كليا بالنظام التعليمي مع التركيز على الصناعة التقليدية والحرف اليدوية، وتكوين اليد العاملة المؤهلة، والتصدي للمهن غير النظامية، ومحاربة البطالة، وتوسيع سوق الشغل، وإحداث مهن مسايرة للتطور الصناعي والتكنولوجي، وضمان حقوق العامل وحمايته من الاستغلال….
بقلم: نهاري امبارك، مفتش التوجيه التربوي، مكناس.
Aucun commentaire