جدلية الديني والصهيوني
جدلية الديني والصهيوني
بقلم د. محمد بالدوان
يبدو أن إشكالية الديني والسياسي ستصير متجاوزة عند أنصار الاسلام دين ودولة كما عند القائلين بفصل الدين عن السياسة على حد سواء، ذلك أن الراهن الاجتماعي والسياسي يشهد تطورات متسارعة وخطيرة تعرض الدين أحكاما صارمة صادمة وجاهزة للتطبيق، حتى ولو لم يمضيها عالم أو يؤشر عليها حاكم.
إن المتأمل للتصورات الدينية الارثدوكية المعاصرة، من دولة الخلافة إلى عطر المرأة وخروجها ولقائها بالرجال، يسمع منها صوت الحق الذي يُسَخّر تمكينا للباطل. لذلك أليس من حق المتابع التساؤل عن خلفيات عودة مثل هذه التصورات إلى الواجهة بقوة؟ ألا يمكن أن يوظف الإسلام بمفرداته العنيفة والمتشددة في صراع فتاك من قبل جهات لا تمت للاسلام بصلة؟ ألم يحن أوان تجاوز جدلية الديني والسياسي وتركيز الانتباه على جدلية الديني والصهيوني؟
بعيدا عن جدال أوامر الدين أتدعو إلى إقامة الدين أم إقامة الخلافة؟ وإن كان الراجح في ما أقره القرآن حين قال: » شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ »(الشورى/13)، فعلا إن أكثر ما يرعب أعتى أعداء الإسلام الاستمساك بأصول التوحيد والعبادات والآداب. وقد تقوم الخلافة ولا يقوم الدين أو يتيه الناس في جزئياته، بخاصة إذا كانت خلافة لا تجمع، ولا تعرف من الدين إلا ما يفرق، ولا تحضى بإقرار لا من أهل الإسلام ولا باعتراف من أهل الكتاب.
بحق، ماذا قدم رجال الخلافة للأمة والحضارة الانسانية قبل أن يحملوا السلاح ويلجأوا إلى المشاركة في لعبة قذرة بشوارع بلاد الشام والعراق؟ كم مؤسسات مالية وشركات متعددة الجنسية أسسوها في العالمين؟ وكم من كتاب في صنوف العلم ألفوا، وكم من عمل سينمائي أو مسرحي أو تلفزيوني أخرجوا وأنتجوا؟
يا شباب ! قامت الخلافة الاسلامية وتواصل إشعاعها عبر التاريخ بالقدر الذي استلهمت فيه من القرآن والسنة والآفاق معاني التجديد والابداع والإضافة النوعية للأمة والحضارة، وما أفل نجمها إلا بعد ركونها إلى التقليد والجمود والتعصب والاستبداد. وما استحق قادة العالم المعاصر ملك العالم إلا بما كسبت أيديهم من رؤوس أموال التجارات وبديع إنتاج الصناعات.
ثم، ألم تتساءلوا للحظة: ما آفاق هذه المعركة باسم الخلافة؟ أهي طموح لإخضاع العراق والشام والعالم العربي-الاسلامي، ودحر للتحالف الدولي؟ إن في ذلك طلب للمحال وانخراط في مشاريع هدم تتسربل بزي الدين والجهاد والخلافة.
ألم تستغربوا من كون « إسرائيل » لم تستجب للتحالف الدولي ضد « دولة الخلافة »؟ اتقوا الله أن تكونوا حطبا لنار يوقدها قوم كلما أطفأها الله !
قبل أشهر كتبت عن « الوطن.. مخطط هدم وتصميم بناء »، وأذْكر بأني أنهيته بقولي أن شعار العودة للخلافة، الذي يملأ الدنيا اليوم، لا يخدم سوى أعداء الخلافة والأمة، وأن الوطن، بالرغم من كونه جاء في سياق التفكيك والتأسيس للوطن القومي، واستفاد من تطوراته اليهود الصهاينة على حساب الأمة الاسلامية، أجدى وأنفع للبناء.
إن أجَلّ تكليف ينتظر شباب الأمة الاسلامية المخلص، أن يقوم مثنى أو فرادى ثم يتفكروا في العدو المستشرق بهذا الدين، والمستتر وراء شعارات براقة، والذي يعمل بنشاط على تفجير القضايا الدينية الملغومة والمفتقرة للاجتهاد والتجديد في المجتمع والعالم ابتغاء التضليل والفتنة: « فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ « (آل عمران). وبعد تحصين الذات يتأهل إلى المقام الثاني، حيث يعكف على دراسة العدو المتربص وتفكيك بنياته، وتفجير التناقضات داخل كيانه الوَهِن.
ثمة عدة قضايا تثار في المجال الديني، وحين تتأمل مقارباتها وملابساتها تجد عليها بصمة الفاعل الصهيوني. وبالاضافة إلى قضية إقامة الخلافة التي تثير اختلافا بيِّنا، تطفو قضايا أخرى في المغرب والمشرق؛ كأن تجد من يرمي المسلمات المتعطرات بالزنا لورود حديث نبوي في الموضوع لم يحسن فهمه ولم يعلم درجة صحته، أو حين يتم تجريم بعض الطقوس السياسية لتشابهها ببعض شعائر العبادة.
وإذا كنت أرفض من وجهة نظري تلك السلوكات، فإني أربأ بنفسي عن لبس الحق بالباطل، وتسوية مرتكب صغيرة بمن وقع في معصية تستوجب إقامة الحد، بل أنأى عن أسلوب يسارع إلى القذف والادانة تحت وطأة المنابذة والصراع، وذلك لسبب معقول هو أني لن أنسى أو أتناسى بأن ليس من الناس من سَلِم من الصغائر، وليس من جنس البشر من لم تزن عينيه أو يديه.
كما لا أستسيغ جعل موقفي وانطباعي معيارا لصحة بعض السلوكات السياسية المعقدة، لا بل لست أغامر بإقحام منطق الدين لمواجهتها بالقبول أو الرفض؛ ألم يسجد يوما قوم لوزير نبي؟ ألم يصف رسول الله هرقل بعظيم الروم؟ ألم يصنف علماء المسلمين كتبا فصلت أدبيات وبرتوكولات وتقاليد الحكم والسياسة بعيدا عن تقييمها دينيا؟ وهل ما جاء من أحاديث توحي بتحريم بعض تلك البروتوكلات ورد في الصحيحين؟ ألم يستطع المسلمون عبر التاريخ التمييز بين سجود التحية وسجود العبادة؟ أحسب أن مثل هذه القضايا تعالج بمنطق سياسي، ومن يؤسس لمقاربتها بمنهج ديني فقد يزج بالأمة إلى حرب أهلية بإرادة ذاتية خالصة.
أعلم أن ما أثيره يحتاج إلى كثير من التفصيل كتابة وبحثا ودراسة، لكن ألا يمكن أن يحفزنا واقعنا الموبوء على ترك المتشابهات والمختلفات والتمسك بالمحكمات والمُوافِقات درءا للفتنة والتشظي وسفك الدماء على الأقل؟ !
أجزم أن الديني يوافق غير أن الصهيوني يعاند، ابتغاء الفتنة، ألا إن ردى الفتنة من بيته الوهن لقريب !
Aucun commentaire