جمهورية الخوف والرهائن
سيد أمين
منذ عدة أشهر, بث التلفزيون الكوري الشمالي خبرا عن تأهل منتخب بلاده لكرة القدم للمنافسة في تصفيات كأس العالم , ومن اجل إتقان الحبكة الدرامية ,راح التلفزيون يؤكد أن المنتخب سينافس البرتغال في مباراة مهمة, جاء ذلك رغم ان كوريا « الديمقراطية » – وليس لها من اسمها ادنى نصيب – لم تتأهل أساسا للمونديال.
نفس هذا الإعلام « الفتاك » الذي تنطلي خدعه على بسطاء العقول من الناس للأسف , موجود أيضا في مصر ومدعوم بذات القوة العسكرية المميتة , إعلام له صولات كثيرة جدا يبدأ أهمها من الستمائة متسلل من حماس الذين قطعوا آلاف الأميال من الفيافي والقفار , واقتحموا عشرات السجون وآلاف أقسام الشرطة في مصر , مرورا بالرجل المنقذ الموحى إليه , وجهاز كفتة عبد العاطى الذى يعالج أى مرض , انتهاء بأسر قائد الأسطول السادس الأمريكي ,وإسرائيل التى ترتعد خوفا من صواريخ السيسي , والحبل على الجرار.
ورغم فاشية النظامين إلا أن هناك فروقا جوهرية بينهما, فالأول يناصب الولايات المتحدة وحلفائها العداء وينجح في أن يبتزها ماديا وعسكريا بما لديه من أسلحة ردع نووي دون أن يقدم لها « مخازي » وغير مضطر ان يغازلها خفية أوعلنا, لكن الثاني ما تمكن من البقاء شهرا واحدا لولا دعم أمريكا والقوى الغربية له , ولو قطعت إمدادات شرايين الدم عبر الخليج عنه لحظة واحدة فسيموت غير مأسوف عليه, كما أن الأول يعلنها صراحة انه نظام عسكري غير تعددي يعيش هدنة طويلة من حالة حرب مدمرة مع أمريكا واليابان في حين أن الثاني يعيش حالة حرب حقيقية مع شعبه.
والحقيقة اننى سمعت بل وكنت شاهدا علي مآسي خلفتها القبضة الفاشية لسلطة « الانقلاب » -وان كان الأوقع سلطة « الثورة المضادة »بما لها من شمولية – في السجون يشيب لها الرأس فزعا من فرط بشاعتها, محققة الكابوس الذي هو اقرب للحقيقة منه للمجاز, فهذه الروايات حولت سجون مصر إلي « أبي غريب » ذلك السجن الذي مارست فيه قوات الغزو الأمريكي للعراق كل الفظائع وحولته إلى مرتع ترتكب فيه أحط الجرائم النفسية والجسدية وأكثرها إيلاما بحق المعتقلين, لدرجة تجعل الموت حلما بعيد المنال لديهم.
حكايات كثيرة وقفت على تفاصيلها بحكم عملى الصحفي والحقوقي , حكايات كانت مروعة لكنها في الوقت ذاته كانت متوقعة , فها أنا ذا أشاهد « قمر الزمان » الطالب الفلبيني المبتعث للأزهر الشريف الذي شاء حظه العاثر أن يمر بجوار مظاهرة طلابية هناك , وما أن عبر بضع خطوات حتى تلقفه مرشدو الأمن ليعتقلونه ويجعلوه بعد ذلك مادة إعلامية للتضليل والتدليل على ان المتظاهرين ليسوا مصريين ولكنهم إرهابيين أو ممولين قدموا من كافة دول العالم أو حتى هبطوا من السماء , وقضى صاحبنا عقوبة بالسجن قدرها عاما كاملا , تاركا زوجته وابنه البالغ من العمر عامين , دون أنيس أو ونيس وعائل في هذه الغربة الموحشة.
وكذلك تلك السيدة التي اعتقلوا زوجها وتركوها دون عائل تنتظر إحسانات المحسنين للصرف على أطفالها التوائم الثلاث ولسداد إيجار الشقة, وهذا الرجل الذي قام المرشدون البلطجية باغتصاب شقته السكنية حتى لا يتم تلفيق تهم إرهابية له ليعتقل على إثرها ردحا طويلا من الزمن.
ولا هذه الأسرة التي اعتقلت الشرطة الأم والأب المهندس الزراعي والابن طالب الثانوية العامة ولم يتبقي من الأسرة غير الابنة, والمدهش أنهم قاموا بتعذيب الابن بالصواعق الكهربائية في عرض الشارع وأمام الجميع أثناء عملية اعتقاله.
حتى نقيب المعلمين بالقاهرة الجديدة اعتقلوه من منزله وكان كبار ضباط قسم « … » مدينة نصر « يفاصلون » زوجته فى أن تدفع لهم يوميا « 300 جنيه »حتى استقر الحال على ان تدفع فقط 100 جنيه, هذا بخلاف ما يطلبه البلطجية الذين يؤجرون أماكن الاحتجاز بالسنتيمتر في أقسام الشرطة وبأسعار تنافس أفخم الفنادق العالمية , ومن يمتنع عن الدفع فقد يكون مصيره إما القتل أو العاهات المستديمة أو الاغتصاب, واستمر الحال كذلك لعدة شهور إلى أن تم ترحيله للسجن بعد تدخل « واسطة كبيرة » لكنهم هناك منعوا عنه الدواء رغم انه مريض بفيروس الكبد الوبائى , والرجل الآن شارف على الهلاك , ولا هذا الطالب في زراعة مشتهر الذى اقسم أستاذه على الملأ بأنه لن يسمح له بالنجاح أبدا في مادته .. وذلك لأن الطالب سأله عن السبب الذى جعله يخرج عن المحاضرة ويسب « مرسي » بأقذع الألفاظ .. بل ان المدرس قام بإبلاغ الأمن عن الطالب فتم اعتقاله, ويحكى الطالب ان الشرطة جردته وآخرين من ملابسهم تماما وادخلوا إليهم فتيات معتقلات تم تجريدهن أيضا من ملابسهن لنحو الساعة كان الجميع ينظر الى الأرض.
الحكايات موجعة حقا , إلا أن ما سمعته مؤخرا من ضحايا ثقات يعد من أبشع جرائم السجانين المصريين على الإطلاق لدرجة تجعلنا لا نصدقها وليس ذلك لاستحالتها ولكن من أجل إعفاء ضمائرنا , حيث حول حياتهم إلى جحيم مطلق يهون بجواره جحيم « دانتى » , ومآسي « راسين » وذلك ان سجان « جحيم دانتى » كان هو الله العادل الحق , أما سجان تلك الرواية فهو بشر ,يعرف الحقيقة ويسعى لطمسها للأبد , هو آلة صماء بلا قلب ولا دين تنفذ ما تمليه عليها إرادة آمريه.
الحكاية أن الشرطة اعتقلت هذا الشخص من مظاهرة كانت تسير في شارع السودان بالمهندسين , بعدما قتلوا قرابة ثلاثة متظاهرين آخرين وأصابوا العشرات بطلقات الرصاص الحي والخرطوش, ثم بعد ستة أشهر أفرج عنه , ليعود الى بيته ولكنه عاد جسدا بلا روح , لاحظت زوجته انه كما لو كان قد بدل بأخر داخل السجن , فعاد بخصال ليست فيه فهو يدخن السجائر بشراهة مع انه ما كان بمدخن , كثير الحديث هنا وهناك عبر الهاتف بصوت خفيض وما كان أصلا من هواة الثرثرة, المهم ارتابت زوجته في انه ربما يعرف أخري عليها فقامت بتغيير إعدادات هاتفه ليسجل له جميع المكالمات , وهن وجدت أن شخصا ما يقوم بسبه بأحقر الألفاظ طالبا منه أن يرشده على أسماء الذين يخرجون في المظاهرات وعناوينهم ويذكره بفيديو « الاغتصاب » , الزوجة سقط في يدها, وراحت تطلب من زوجها تفسيرا لما سمعته , فراح يخبرها أنهم اجبروه على اغتصاب معتقلة كانت تسير في ذات المظاهرة وذلك بعد تعذيب شديد بالصواعق , وأنهم حقنوه بحقنة هيروين , وأنهم طلبوا منه العمل كمرشد لهم في المنطقة وإلا فسيعاد اعتقاله وسيحرم من جرعة المخدر التي يعطنوها له كحافز, الزوجة المكلومة التي دمرت أسرتها وسقط عمود سنامها تحتفظ بالتسجيل ولن تخرجه حتى تتحقق العدالة , وتضمن له الحماية.
وفي الحقيقة , مآسي « الثورة المضادة » في مصر لا تنتهي أبدا ,حتى بعد انكسارها , ستظل جراحها غائرة في أعماق أعماق المصريين لأزمنة بعيدة قادمة , ويحضرني ما قاله أحد المعتقلين المفرج عنهم بأن من يموت فقد نجا , والعذاب الحقيقي هو ان تظل حيا.
الرهائن
السجون الآن لا تكتظ بالمجرمين والآثمين ولكنها تكتظ حتى الحلقوم بأساتذة الجامعات والمهندسين والصحفيين والمحامين والأطباء , تكتظ بنخبة هذا الوطن وحصاده الطيب, تكتظ بخيرته في كل شئ , تكتظ بخيار التنشئة الاجتماعية والأخلاقية والفكرية والثقافية , بينما يتم في خارج الجدران التى زج بهؤلاء المحترمين فيها لينام كل عشرين منهم في غرفة مترين في مترين ,تم منح صك العدالة القضائية للمجرمين والبلطجية من حملة الإعدادية.
صدقوني انتم لستم مساجين ولا حتى معتقلين , انتم رهائن , رهائن بيد نظام عفن يأبي ان يرحل , ويريد تثبيت التاريخ على مشهده الهمجى بأي شكل أو ثمن , لكنه أبدا لن يبقي ثابتا , فانتم السعداء في النهاية وانتم المنتصرون , اما هو فيغوص في التعاسة ويمضى لنهايته لأن وسائله وأجراءته لا تناسب روح العصر, وسينبذه العصر.
Aucun commentaire