« عناقيد الغضب » هنا وهناك…
بقلم: عبدالحق الريكي
« أعتقد بأن الحب لا يمكن شراؤه إلا بالحب »
من أقوال الأديب العالمي « جون شتينباك »، صاحب رواية « عناقيد الغضب »
حكى لي صديقي أحمد حكاية واقعية أثرت في نفسه كثيرا لأسباب عديدة. كما أدخلته في تفكير عميق حول الحياة والبؤس والثراء. لننصت أولا إلى أحمد يحدثنا عن الواقعة : » كنت هذه الأيام مع زوجتي وأبنائي في حديث حول مصروف المنزل وكيف السبيل لتوزيعه ما بين الضروريات من مصاريف المدرسة والأكل والماء والكهرباء والهاتف والإنترنيت وبنزين السيارة والمصاريف المباغتة من طبيب ودواء واستقبال للأحباب والأصدقاء… مناسبة الحديث تنبيه أحد الأولاد إلى ضرورة الحذر بنفسه خلال هذا الفصل البارد من أمراض الزكام والسعال وما يترتب عنهما من مصاريف إضافية قد ترهق ميزانية العائلة. بينما نحن في حديث حول هذه الأمور إذ بزوجتي تستجمع أنفاسها وتنطق بمرارة عن حادث وقع لها منذ سنين عديدة خلت كأنها تعيشه بحذافيره تلك اللحظة »…
يحكي أحمد عن زوجته: « إنها لم ولن تنسى أبدا ذلك اليوم الذي لم تكن تتوفر فيه على درهم واحد، وطفلاها الصغيران مريضان أمامها وزوجها مسافر خارج المدينة ولا حيلة لها في إيجاد حل لمعضلتها ما دامت لا تتوفر على شغل ولا بطاقة بنكية… فذهبت إلى شرفة من شرفات المنزل تنظر إلى الشارع وتدعو الله أن تَسْقُط بعض الأوراق المالية من أحد المارة وتنزل هي مسرعة لتلتقطها كي تغيث أولادها وتسهر على علاجهم وتغذيتهم… ». يقول أحمد: « كانت زوجتي تتحدث وهي تعيش تلك اللحظة بكل جوارحها والصورة ماثلة أمامها كأنه فيلم وكادت الدموع أن تهطل من عينيها »…
ويزيد أحمد يحدثني عن تلك اللحظة المؤلمة ويقول: « وزوجتي تحكي عن حادث انتظارها الفرج مع سقوط ورقة أو ورقتين من عشرون درهما أو خمسون درهما، كنت أنا وأولادي نستمع إلى حكايتها وننظر إلى تقاسيم وجهها في خشوع وهدوء… كانت لحظة قاسية بالنسبة لنا كلنا، زوجتي، أنا وأولادي… وبعد هنيهة أكملنا حديثنا الأول حول المصاريف الشهرية حتى لا تسقط العائلة في آفة هذا الزمان؛ زمن الغرق في مستنقع الديون »…
كان أحمد وهو يحكي الواقعة ويرتشف فنجان قهوة جد متأثر بما حدث لزوجته لكونه لم يعلم بالحادث في حينه بل سنوات بعد ذلك وظلت الحكاية تؤلمه كثيرا. وكان لقائنا ونحن أصدقاء أوفياء فرصة لتفريغ ما بداخل قلبه من غضب مما وقع وإعجاب بتضحية زوجته وكفاحها من أجل تربية الأولاد والحفاظ على الأسرة رغم الصعاب والمحن وضيق ذات اليد…
كنت في تردد مع نفسي، أبحث عن ما سأقوله لصديقي أحمد حتى أهون عليه… لم يترك لي الفرصة إذ باغتني بعد شربه آخر قطرات من كأس قهوته بما يلي: « كنت في حيرة من أمري… لمن سأحكي قصة زوجتي ويفهم مغزاها الحقيقي… تعرف يا علي، منذ واقعة زوجتي وأنا كل وقت وحين أفكر في حكاية انتظار زوجتي سقوط بعض الأوراق المالية من جيوب المارة بالشارع… أسبوع كامل وأنا أفكر في الأمر… لقد خلصت إلى نتيجتين… من ناحية كون أمور من قبيل حادثة عائلتي وزوجتي تقع كل يوم لكل الفقراء والمستضعفين والذين يعيشون بما يجنون من دراهم بكدهم وعرقهم ومن ناحية أخرى كون أزماتهم وعذاباتها وقسوتها تجعلهم في بحث دائم لتحسين وضعهم والارتقاء اجتماعيا ».
الحكاية معروفة، يحكي أحمد: « الفقر والحاجة هما محركا البحث عن الثروة والاختراع… تحدث عن الموضوع فلاسفة وكتاب وروائيون من ضمنهم أحد عمالقة الرواية الأمريكية للقرن الماضي، « جون شتينباك » بروايته الرائعة « عناقيد الغضب » حول العائلة التي قررت الهجرة بحثا عن العمل والعيش الكريم وعن كل المحن التي تعرضت لها في مسيرتها وكذا عزمها على المضي قدما مهما كانت المصاعب والأهوال »…
يسكت أحمد قليلا وهو في حالة شرود كبير، في الوقت الذي كنت أضع أمامه كأس شاي بعد أن طلبت، بإشارة، من نادل المقهي الإتيان بكأس شاي فارغ… مد أحمد الكأس إلى فمه واستكمل حديثه قائلا: « الحقيقة أن حياة أسرتي تشبه إلى حد ما رواية « شتينباك »، ليس في فقر أبطالها المدقع ولكن في عزيمتهم على المضي إلى الأمام للبحث عن لقمة خبز والدفاع عن حقهم وكرامتهم… تعرف صديقي علي، أنني لا أقترب من مال الغير، أعيش على أجرتي وأربي أولادي على الكفاف والصدق وحب العمل وتحدي الصعوبات… تعرف أيضا يا علي، أن الكثير من الحاجيات لا أستطيع تحقيقها من أثاث جيد للمنزل وعلاج بعض الأمراض وتمكين أولادي من السفر وتناول وجبات خارج المنزل… رغم ذلك فالمرح والفرح والتفاؤل سمات حياتي وحياة عائلتي… ».
حديث صديقي أحمد عن رواية « عناقيد الغضب » ل »جون شتينباك » والفيلم المقتبس من القصة للمخرج الأمريكي العملاق « جون فورد » والذي لعب الدور الرئيسي فيه الممثل العالمي « هنري فوندا »، جعلني أسترجع ذكريات مرحلة الشباب وأيام الجامعة حيث كنت مع صديقي أحمد وأصدقاء كثر ننهم كل شهر العشرات من الكتب، فلسفية وسياسية وأدبية وقانونية واقتصادية وتاريخية، نناقش محتوياتها… كما كنا شغوفين بمتابعة ومشاهدة ومناقشة العديد من الأفلام بالقاعات السينمائية وخلال صباحيات الأحد بنوادي السينما حيث تعرض أفلام جريئة وملتزمة… كنا شبابا نطمح لتغيير المجتمع وكان سلاحنا التثقيف والتحليل والنقاش والمساهمة في كل معركة من معارك الشباب والطلبة…
وأنا شارد في ماض بعيد، إذ بصديقي أحمد يستجمع أنفاسه ويكمل حديثه: « تعرف يا علي، أول ما قمت به في اليوم الموالي لحكاية زوجتي عن انتظارها سقوط دراهم معدودة وتذكري نهاية رواية « عناقيد الغضب »، بحثت عن القصة لإعادة قراءتها ليس باللغة الفرنسية بل باللغة العربية وعثرت عليها ببعض مواقع الإنترنيت… هل تعلم أن النسخة العربية الصادرة بمصر تحمل مقدمة ل »سوزان مبارك » حرم الرئيس الذي أسقطه الربيع العربي وفيه تقول مدام سوزان « … ما زلت أحلم بكتاب لكل مواطن ومكتبة في كل بيت… »… شعار تجده في كل المجتمعات وعلى لسان كل الحكومات ولكن تحقيقه بعيد المنال خاصة في دول هي في حاجة لرغيف لكل مواطن ومسكن لكل مواطن ودواء لكل مواطن وتعليم لكل مواطن وأيضا كتاب لكل مواطن… »
ويزيد أحمد في حديثه الممتع والمفيد أنه خلال إعادة قراءته للقصة وقف طويلا عند فقرة جد معبرة عن قمة التضامن الإنساني ومساعدة الفقير لأخيه الضعيف. لنستمع إلى أحمد: » كانت عائلة « روزا شارون » وعائلات أخرى في معركة مع الجوع والمطر والموت… ولدت « روزا » طفلا ميتا وكانت في وضعية صحية حرجة، كانت العائلة تبحث عن مكان يقيها من البرد والأمطار وعثرت على حظيرة كانت مسرحا لحدث عظيم… ».
وهو يتحدث، مد أحمد يده لجيب معطفه وأخرج كتاب « عناقيد الغضب » وبدأ يقرأ:
« … فتحت (الأم) باب (الحظيرة) ثم قالت بفرح: « يوجد قش! احضر (روزا) إلى هنا، وأنتم أيها الصغار إلى هنا ».
قال وينفليد: « انظري يا أمي! هناك في الركن ».
تطلعت الأم .. كان هناك شخصان. رجل مستلق على ظهره وصبي يجلس إلى جواره. نهض الصبي واقفا ببطء. وسأل: « هل أنتم أصحاب المكان؟ ».
قالت الأم: « لا.. لقد جئنا إلى هنا لنحتمي من ماء المطر.. معنا فتاة مريضة. هل لديكم بطانية جافة، نستطيع استخدامها؟ ».
ذهب الصبي إلى الركن وأحضر بطانية قذرة.
قالت الأم: » شكرا لك.. ما حكاية ذلك الرجل؟ ».
قال الصبي: « إنه مريض.. يكاد يموت من الجوع. لم يأكل منذ ستة أيام! ».
اتجهت الأم ناحية الركن وتطلعت إلى الرجل ثم سألت الصبي: « أهو أبوك؟ ».
« نعم.. أعطاني كل الطعام. لقد أصابه الضعف. لا يستطيع التحرك ».
قالت الأم: » سيكون على ما يرام. انتظر فقط حتى أخلع الملابس المبتلة عن ابنتي ».
رفعت الأم البطانية كساتر بينما كانت روزا شارون تخلع ملابسها. ثم لفت البطانية حولها.
وفجأة قال الصبي: « أبي يموت، يموت من الجوع. لا بد أن يحصل على شيء من اللبن… ».
قالت الأم: » هس! ». ثم نظرت إلى روزا شارون.. والتقت عيون المرأتين، وتسارعت أنفاس روزا وقالت: « نعم ».
ابتسمت الأم: « كنت على يقين بأنك ستوافقي، كنت أعرف ».
قالت روزا شارون: « أيمكنكم… أيمكنكم الخروج جميعا ».
نهضت الأم بسرعة وقالت: « هيا بنا جميعا.. وأنت تعال معي أيها الصغير ». ثم انحنت وقبلت روزا على جبهتها. ودفعت الآخرين إلى الخارج بسرعة وأغلقت الباب خلفها.
جلست روزا شارون ساكنة للحظة. ثم اتجهت ببطء ناحية الركن. تطلعت إلى عيني الرجل الواسعتين المرتعبتين. ثم تمددت ببطء إلى جواره. أخذ يهز رأسه ببطء من جانب إلى جانب.
ثم قالت: « لابد أن تشرب اللبن ». وقربت رأسه من صدرها.
وقالت: « اشرب!.. اشرب!.. » بينما كانت يدها تسند رأسه بحنان، ثم تطلعت عبر الحظيرة وابتسمت! »
وضع أحمد الكتاب فوق طاولة المقهى ونظر إلي وقال: « كن على يقين صديقي علي أن الطفل كان، وهو يشاهد منظر أبيه يتضور جوعا، يطلب أن تسقط بعض قطرات من الحليب ليطعم بها أباه… فكان له بقوة قادر ما أراد… كما كانت زوجتي تتمنى سقوط دراهم تساعدها على تطبيب وإطعام أطفالها… وكان لها ذلك… لأن أطفالي تجاوزوا تلك اللحظة العصيبة وأصبحوا شباب يافعين… وها أنت ترى بأم عينيك صديقي علي، أن الفقراء والمستضعفين في الأرض رغم الحروب والكوارث الطبيعية والمجاعة والفقر والجوع والاضطهاد، ينهضون كل مرة ويعيدون بناء ما ضاع ويطمحون إلى الأفضل ويوسعون روابط التضامن والتلاحم والتعاون بينهم… ».
بقينا أنا وصديقي أحمد صامتين لعدة دقائق ونهضنا لنودع بعضنا… قبل ذلك طلبت من أحمد إن كان يسمح لي بكتابة هذه الحكاية وتعميمها كما يقال في المذكرات الإدارية: لكل غاية مفيدة… قال: « بالطبع صديقي العزيز » وانصرف إلى بيته وهو يتطلع إلي بابتسامة عريضة…
عبدالحق الريكي
الرباط، 27 دجنبر 2014
Aucun commentaire