مساره تأرجح بين ولعه للموسيقى وكتابة الشعر وعمله الإذاعي يحي بلخو: ذاكرة خصبة ولسان فصيح ينشر الشهد بين الناس
ميلود بوعمامة
للحديث عن ذاكرة أي مدينة مغربية عتيقة، يجرك خيالك دون ريب إلى الاهتمام بمن يوثق أو يؤرخ بدقة لحاضر ومستقبل أي مدينة أو قرية من ربوع المملكة، ومن يحفظ عن ظهر قلب عادات وتقاليد ساكنتها وخصوصيات مآثرها العمرانية والتاريخية والحضارية الضاربة في عمق التاريخ، وبالتالي من يدافع عن مورثها الثقافي باستماتة، سوى أناس قلة حافظوا على هذا الموروث اللامادي في صدورهم، لينشروه فيما بعد بين العامة، خاصة بين فئة الشباب المتعطش لأصالته وتاريخه.
من بين هؤلاء، نجد الباحث المغربي في التراث الشفاهي اللامادي يحي بلخو، الرجل الذي آمن بمبدأ البحث والتوثيق لذاكرة وجدة الألفية، بحيث يعد من بين رجالات المدينة القديمة الذي حفظ الذاكرة، وبالأحرى هو الذاكرة بعينها التي تمشي بين الناس وتوثق كل صغيرة وكبيرة بدقة وإتقان، تارة بالحكي الشفاهي عبر جهاز الراديو واللقاءات الخاصة، وتارة أخرى عن طريق المشاركة في الندوات والموائد المستديرة، وأحايين أخرى عبر البحوث والدراسات التي كتبها وأنجزها الرجل في السابق، أو التي يدونها في كل مرة عن حالة أو ظاهرة، أو معلمة تاريخية عن المدينة الألفية وجدة.
للنبش في ذاكرة ونسطالجيا الرجل، واستحضار سيرته الذاتية كطبق شهي يقدم للقراء والمستمعين الأوفياء للإذاعة على حد سواء، نجدها عميقة كبئر لا قرار له، ذاكرة خصبة وأفكار عميقة تستوعب كل الآفاق، إذا ما جمعت تدون بشأنها الكتب والمؤلفات، ذاكرة حية، وعقل نابغة رأى النور بالمدينة القديمة لوجدة في سنة 1945 بحي أولاد عيسى الذي يتواجد على مرمى حجر من « ثلث سقاقي » والمجسد الأعظم، تربى سي يحي تربية حسنة بمعية إخوته في هذا الحي القديم، ومارس في صباه كرة القدم كحارس مرمى كأقرانه بحي « أحراش » قرب مدرسة سيدي زيان ومتحف المقاومة وجيش التحرير حاليا، خاصة رفقة اللاعب الدولي محمد مغفور واللاعب المتألق آنذاك محمد الراقني وغيرهم من اللاعبين الذين جاوروا فريق المولودية الوجدية إبان عهدها الذهبي…
درس الطفل يحي وحفظ القرآن الكريم بجامع « دالية » الواقع بحي أولاد الكاضي، المتواجد مباشرة من وراء عمالة وجدة القديمة، وكان ذلك على يد الأخوين الفقيهين محمد وعبد القادر أمباصو، وذلك بالموازاة مع دراسته الابتدائية بمدرسة سيدي زيان العتيقة التي خرجت نخبة من والمثقفين والفنانين والسياسيين المغاربة والجزائريين…
بعد هذه الفترة بقليل، كان للفنان والباحث يحي بلخو ولع كبير بالموسيقى العربية، خاصة حفظه الشديد للأغاني المغربية والمصرية التي أنتجت آنذاك، خاصة أغاني رواد الأغنية المغربية الذين برزا بعد الاستقلال، وذلك عن طريق الاستماع لجهاز الراديو، ومشاهدة الأفلام العربية على شاشة سينما « ريكس » المغرب سابقا ودائما بالمدينة القديمة لوجدة.
بعد التحاق يحي التلميذ المجد، بالمستوى الإعدادي بمؤسسة عبد المؤمن، ثم « Lycee des garçons » عمر بن عبد العزيز (حاليا) ارتبط منذ سنة 1966 بالموسيقى أكثر فأكثر، خاصة مع أستاذه الشيخ الشادلي الذي كان يلقن تلامذته العزف على آلات وثرية ونفخية ونقرية مختلفة، تلقى حينها سي يحي مبادئ العزف على آلة الكمان والقانون، بالإضافة لأدائه لأغاني مغربية عصرية وتقليدية أصيلة كالطرب الغرناطي، بالموازاة مع ذلك التحق الأستاذ يحي بخلو بسلك التعليم بعد اجتيازه الامتحان الأهلية، فدرس بالمؤسسة الابتدائية « سبويه » بمدينة العيون سيدي ملوك، ثم بمجموعة مدارس تويسيت، وبعد هذه المرحلة مباشرة، التحق سي يحي بالتعليم الثانوي الإعدادي كأستاذ للغة الفرنسية بإعدادية الجاحظ الإعدادية ثم باستور ليحال بعدها على التقاعد.
كتب الشاعر يحي بلخو قصائد عديدة باللغة الفرنسية وخاصة نظمه الشعر الموزون، زيادة على أبحاث ودراسات كثيرة منها: « هجرة الغاربة بين الأمس واليوم » و »ثقافة وجدة من الباء إلى الياء » و »فن الراي بمدينة وجدة »، و »مقالات حول تاريخ المدينة »، وعدد كبير من الترجمات حول تقاليد وعادات أهل وجدة القدامى، التي أسهم في صياغتها وتدوينها لحساب كتاب ومؤلفين وباحثين مغاربة ينتمون للمنطقة الشرقية.
وفي مجال الموسيقى دائما، أسس الفنان والباحث يحي بلخو بمعية أصدقائه المولعين بالطرب الأصيل فرقة موسيقية أطلق عليها « جوق ابن الخطيب » للموسيقى العصرية، كانت تابعة لنيابة التعليم بوجدة، هذا بالإضافة لإبداعه لألحان مستحدثة لأغاني مغربية أداها شباب وشابات مدينة وجدة في المناسبات الوطنية كأعياد العرش والشباب، وكذا في التوأمات التي جمعت بين: « وجدة وليل » و »وجدة واكس بروفانس »، و »جدة ومولانيبك » البلجيكية، كما رافق سي يحي فرق عديدة بالمدينة كجوق المحلي برئاسة الحاج ابراهيم الكرزازي وجوق الفنان سي محمد الجيلالي كعازف ماهر على آلة « القانون » تارة وآلة الكمان تارة وأخرى.
التحق يحي بلخو بإذاعة وجدة الجهوية في الفترة التي كان فيها الإعلامي الراحل محمد بنهارة مديرا للمحطة، حيث أشرف على إعداد وتقديم بمعية إحدى الصحافيات برنامج « نجوم في سماء الجهة الشرقية »، الذي كان يستضيف بالمناسبة أسماء وشخصيات بارزة وذات اهتمامات مختلفة من أبناء الجهة، تدلي بآرائها حول موضوع ما في البرنامج، هذا بالإضافة لإشرافه على برامج إذاعية أخرى بعناوين ومواضيع مختلفة منها: » قصة نغم » و »من هنا وهناك » و »كان يا مكان » و »خفيف ضريف » و »الأزلية » و »بحور لكلام »، الذي سجل بشأنه 45 حلقة بثت في شهر رمضان المنصرم.
إجمالا، يعد يحي بلخو، الفنان » الباحث، الشاعر، المبدع، والإنسان المتعدد المواهب، خزانا لكل دروب الفن والإبداع، خبر مجالات واهتمامات عدة، وتشرب من معينها قسطا وافرا، ولازالت كتاباته الصحفية بجريدتي « الاتحاد الاشتراكي » والحدث الشرقي شاهدة، وكذا تسجيلاته الإذاعية حاضرة بقوة في ريبرطوار الخزانة، بالرغم من قلة عطائه مؤخرا بحكم تقدمه في السن، فتحية لرجل مبدع أعطى في السر والعلن دون أن يأخذ.
Aucun commentaire