المنجرة عالم أكبر من الحاجة إليه
المنجرة عالم أكبر من الحاجة إليه
رمضان مصباح الإدريسي
هذه القناعة ليست وليدة الوفاة ،ولا تندرج في سياق المرثيات – خصوصا الرسمية-التي تنتبه ،متأخرة غالبا، الى أن البنك المغربي للمادة الرمادية فقد ،سهوا ليس إلا،رقما صعبا من رصيد الذكاء الوطني.
ومن سعد الطالع العالمي أن يكون هذا العالم ببعد إنساني ،وليس مغربيا فقط؛مما جعله يفتح حسابات رمادية متعددة عبر أبناك العالم،لا سيما البنك الياباني .ستظل هذه الحسابات ،كما كانت قيد حياته ،نشيطة في بناء المستقبل .
قناعتي هذه لا زمتني منذ قراءاتي الأولى لمعادلاته الحضارية، السوسيواقتصادية، والقيمية ،التي لا
تفارق المجاهيل إلا وهي منكشفة تحت الشمس.
وعليه يبدو لي أن وفاة المهدي المنجرة ،بكل أسى الفقد الذي بعثته في النفوس، لا تنفصل عن مشروعه العلمي الكبير الذي نذر حياته له. ولو استفتيناه في تدبير هذه الوفاة لأومأ،قبل كل الطقوس المعروفة، إلى المستقبل :
استثمروا موتي في تدبير مستقبل المغرب. الآن الماضي لي، أما المستقبل فهو لكم.
ومن رثى المنجرة خارج هذا الإطار فهو شاعر.يقف على الطلل باكيا دون أن يفكر في إعادة بنائه؛لأن البناء يقتل شعر الأطلال.
نحن إزاء وفاة غير عادية؛وهل يموت من عاش في المستقبل؟ وقد كنا إزاء حياة مغربية ،غير عادية أيضا،لعالم ،انتهى مستثمرا في قيم عالمية ،بعد أن بدا له أن حاجتنا لم تكبر بعد الى مستوى علمه التوقعي.
لعلنا شبِعنا نبوة ووحيا ،يغطيان المستقبل ،فما الحاجة الى المنجرة،وهو يُعَقِّدنا بنِسب الناتج الداخلي ،المستثمرة،وطنيا، في البحث العلمي. أتخمتنا انتصاراتنا الحضارية القديمة ،فما الحاجة الى من يتعبنا بمتطلبات حرب كونية قيمية ؛هزيمتنا فيها أكيدة.
كيف نستثمر هذا الفقد باعتباره آخر دروس المنجرة المستقبلية؟
على السيد رئيس الحكومة،وقد أوصل العالِم الى مثواه الجسدي الأخير، أن يواصل خطواته الجنائزية صوب بنك الذكاء المغربي ؛وما أكثر المساهمين فيه – من الأموات والأحياء- بدءا من ابن رشد وابن خلدون وابن بطوطة ،ووصولا الى المنجرة والجابري ولحبابي والعروي وطه عبد الرحمن وأضرابهم،ومن هم دون طبقتهم. دون إغفال رجال الدولة الكبار الذين اشتغلوا بالعلم وقربوا العلماء.(محمد الرابع كمثال).
يجب أن يوضع نظام ما لهذا البنك ؛كما هو حاصل مع المحروس بنك المغرب. الذكاء قبل المال.
لا أحد يجادل في كون نهضة العالم الغربي تأسست على العلماء وفلاسفة الأنوار قبل المال .ولا نختلف حول كون المال لا يساوي الحضارة دائما ؛ولنا أكثر من مثال في عالمنا العربي ،الآخذ اليوم في الذوبان كقطعة شمع،في الوقت الذي تطاول أبراجه البلهاء عنان السماء.
وعليه ففي وجود بنك مغربي مهم للذكاء، لا حجة لنا في أن نظل في مصاف الدول المتخلفة على أكثر من مستوى.
يجب أن يُهيكل هذا البنك ،تحت أي مسمى ،ويجب أن تتفرع جداوله،بتفرع تخصصاته ،كما يحصل مع مياه السدود ،حتى يصل الى كل البرامج التنموية للحكومة.
إن الحاجة ماسة إلى هذا البنك أكثر من الحاجة الى أكاديمية تجتمع تحت الطلب لتخوض في مواضيع
حسم فيها غيرها،ثم ترحل العروض مع أصحابها ،بدوت تذاكر للعودة أبدا.
لا خير في برنامج حكومي لا تعيش فيه غير الأرقام .برنامج خال من الروح المغربية ،كما تشكلت عبر قرون؛ومن التراكمات المعرفية المغربية التي يمكن سحبها من البنك في أي وقت،شريطة هيكلته.
لا خير في قاموس حكومي رئاسي لا يخجل من علماء المغرب الأموات والأحياء،بل حتى من الأسر المغربية ،وهي متحلقة حول التلفاز،تنتظر الجد، ليُقذف في وجهها بكلام كأحذية العراقيين.
يؤكد المرحوم المهدي المنجرة أن المستقبل الآن لنا ، بعد أن فك مجاهيل معادلاته ؛وفق ما توفر له من معطيات رسمية وغير رسمية.ولو قربته مراكز القرار –ولو نافرا صعب المراس- لكانت توقعاته أوثق.
لا يمكن أن يكون هذا المستقبل لنا ،ونحن لم نحسم بعد – سياسيا- في مشروعنا التنموي العام ؛حتى نوحد كل جهودنا لتحقيقه ؛بعيدا عن التدافع العضلي والصوتي الذي نلاحظه اليوم ؛ولا أخاله إلا مدرسة سيئة التعليم،يجب أن نُجنب أبناءنا دروسها.
ولا يمكن أن يكون لنا هذا المستقبل ونحن بخطاب به حَوَل؛ يومئ علانية الى النزاهة والشفافية ،ونقاء الذمة ،وينصرف بحديد بصره الى العكس تماما. أشد الناس فسادا وإفسادا في الانتخابات ،مثلا، هم أكثرهم مطالبة بالنقيض.
ولا يمكن أن نكون من المنخرطين في الوطنية ،انخراط المهدي المنجرة ، ونحن لا نخجل من تقديم الجاهل على العالم ليشرع لنا ،أو يخطط لتنميتنا.
ولا يمكن أن نفهم استعادة المرحوم للنهج النبوي في طلب العلم – من المهد الى اللحد- ونحن نبني برامج إصلاح التعليم بمواد أولية فاسدة. ونوكل أمره لرجال تعليم نقلوا المؤسسات التعليمية العمومية الى منازلهم ،ليتاجروا بذكاء التلاميذ ،ويُنموا أرصدة ما كانت لتتأتى لهم لو كانت المادة الرمادية محصنة في بلدنا.
وأستثني الشرفاء منهم الذين وهبهم الله الشجاعة الكافية ليقولوا بأن نسبة كبيرة من انهيار نظامنا التربوي تعود الى رجاله الجشعين.
لقد عاش المنجرة عدوا لذودا للغطرسة والاستبداد ،منذ أن لَكَمَ ،في شبابه ، المسؤول الأمني الفرنسي في افران؛جوابا على خطابه التحقيري ،الموجه لمرافقه ،وعينه على الشاب وهو منتش في المسبح : مادامت السباحة مسموحة هنا للعرب فلماذا لا يسبح حتى الكلاب؟
قال هذا وأطلق العنان لكلبه ليقفز الى الماء. خرج المنجرة من الماء غاضبا،و كانت اللكمة بفاتورة أيام في السجن ؛لكنها حددت مسارا دراسيا كاملا. مباشرة عقب الحادث قرر المنجرة الوالد ألا مستقبل لابنه الشعلة في المغرب المستعمر.
رحل المنجرة،طالبا، الى الولايات المتحدة ،ولم يعد إلا في ركاب المرحوم محمد الخامس مديرا للإذاعة الوطنية الفتية.
ولأن العالم هنا أكثر من الحاجة إليه ،عاود الرحيل ،مرارا وتكرارا، الى أن رحل الى مستقبله.
ثقوا أن ورثة المنجرة لن يحولوا بينكم وبين رصيده من المادة الرمادية ،فقط هيكلوا طريقة الاستفادة
منه ،ومن غيره من علمائنا الأجلاء الذين لا يجوز فيهم الرثاء ؛كما لا يجوز غسل الشهداء في ديننا.
ramdane3.ahlablog.com
Aucun commentaire