إصلاح التعليم العالي بالمغرب في محك الثالوث الحكومي المقترح لإصلاح أنظمة التقاعد استحضار الكلفة المالية، وتغييب الكلفتين: البيداغوجية والاجتماعية.
إصلاح التعليم العالي بالمغرب في محك الثالوث الحكومي المقترح لإصلاح أنظمة التقاعد
استحضار الكلفة المالية، وتغييب الكلفتين: البيداغوجية والاجتماعية.
بقلم: د. بلقاسم الجطاري
شكل موضوع إصلاح أنظمة التقاعد بالمغرب، منذ ما يقارب عقدا ونيف، محور تجاذبات سياسية متفاوتة الحدة، وبؤرة سجالات إعلامية متزايدة الوتيرة. وبخاصة في ظل الحكومة الحالية التي اعتبرته أحد العناوين الرئيسية لمشروع الإصلاح الذي تروم تنزيله.
وإذا نحن ألقينا نظرة خاطفة عن مسار البوليميك الجاري في هذا الملف، وجدنا أن التصور الحكومي في هذا الباب تصور قديم-جديد، إذ لا يخرج عن دائرة مقترحات حكومة الوزير الأول إدريس جطو التي حاولت عام 2003 فرض تصورها القاضي بتطبيق ما يعرف بالإجراءات المقياسية (الرفع من سن التقاعد، الرفع من نسبة المساهمات، إعادة النظر في طريقة احتساب المعاش نحو تخفيضه)، والتي تلخصها عبارة: اشتغل لمدة أطول، لتحصل على معاش أقل.
والذي يعنينا عبر هذه المداخلة، هو محاولة وضع هذا المشروع التقنوي، بمقترحاته الثلاثة، في محك مشروع إصلاح التعليم العالي، وهو ما لن نعدم له الصلات والمسوغات، طالما أن التصور الإصلاحي الخاص بأنظمة التقاعد يمس أحد أقطاب عملية التدبير والتكوين، ونعني الموارد البشرية. وطالما لا تنفك التوجهات الرسمية الحكومية والقطاعية تنادي بتجويد العرض التعليمي للجامعة المغربية، وتطوير صيغ الإبداعية والبحث العلمي.
نريد إذا، أن نجيب على سؤال رئيس هو: ما هي الكلفتان البيداغوجية والاجتماعية المحتملتان إذا تم تنزيل هذا المشروع؟ وبعبارة أوضح: ما هي حدود الربح والخسارة التي يحتمل أن تجنيها الجامعة المغربية إذا تم تطبيق بنود الثالوث أعلاه؟
وجب القول بداية أن التصور الحكومي في هذا المشروع يسعى أساسا إلى ضمان التوازنات المالية لهذا الصندوق، باعتماد الطريق السهل الذي لا يستدعي أي ابتكارية تذكر، وهو الحل الذي تدور كل تدابيره حول قطبية واحدة ووحيدة هي الأجير، بحيث يتحمل الأخير أعباء إصلاح هذا الصندوق دون أن تكون له صلة بوضعية الإفلاس التي تتهدده. ولا بد من القول أيضا أن هذا التصور الإصلاحي الذي ما فتئت الحكومة تدافع عن صوابيته واستعجاليته بصيغة تهريب النقاش إلى غير فضاءاته المفترضة (عبر أذرعها: الحزبية والإعلامية) لا يستند إلى أي اعتبارات اجتماعية، ويكفي التذكير هنا بصلاته بمطالب صندوق النقد الدولي ذي التوجهات اللبرالية المعروفة، والذي لا يقيم اعتبارا للآثار الاجتماعية المحتمل بروزها بفعل هذا المقترح وغيره. كما يجدر التنويه إلى احتكار هذا الملف من قبل هيئتين رسميتين تعدمان أي تمثيلية نقابية لممثلي الأجراء، هما: لجنة إصلاح التقاعد التي يرأسها رئيس الحكومة، والمندوبية السامية للتخطيط.
هذا ونوجه العناية أخيرا إلى سُخْفِ المقارنات التي يتم اعتمادها في هذا الباب، بين ما تنوي الحكومة تطبيقه من حلول، وبين مقتضيات أنظمة التقاعد في بعض دول أوروبا الغربية (سن التقاعد مثلا)؛ لأن المقارنات الموضوعية تقتضي عقد تقابلات بين مختلف متغيرات المعيش (أمد الحياة، التغطية الصحية، جودة الحياة..)، وليس استدعاء بعض الأرقام أو التجارب معزولة من سياقاتها الاجتماعية والسياسية. ويكفينا هنا إعطاء مثال واحد هو: بنية الهرم العمري لسكان فرنسا، إذ يصل عدد سكان البلد الذين يفوق عمرهم 60 سنة إلى ما يزيد عن15 مليون، ويصل معدل أمل الحياة في هذا البلد إلى 84 سنة، بينما لا يزيد المؤشران المذكوران في المغرب عن 3,5 مليون، و72 سنة.
سنحاول، بعد هذه الإشارات، بيان بعض الجوانب الغائبة والمغيبة في بنود هذا التصور الاختزالي؛ وسنركز القول تخصيصا، على آثار هذا الثالوث في مسيرة إصلاح التعليم العالي، من منظور تكاملي يولي الاعتبارات البيداغوجية والاجتماعية ما يستحقانها من عناية. أي أننا نقتصر هنا على توصيف حجم الخسارة البيداغوجية والاجتماعية المنتظرة في حال تم تفعيل بنود هذا الثالوث. وهي بالتأكيد خسائر فادحة ستظهر في شكل أعراض جانبية لا تقل ضررا وفتكا عن الداء الذي تريد الحكومة مداواته.
إن الرؤية الحكومية التي تقضي برفع سن التقاعد بسنوات إضافية، سيكون من تبعاتها ما يلي:
ü خفض معدلات التوظيف في هذا القطاع، وهو ما يعني بالنتيجة ارتفاع متوسط أعمار الموظفين المزاولين. ولعله من نافل القول هنا، أن هنالك علاقة اطراد عكسية بين عمر الموظف ومردوديته، لأنها بداهة سوسيولوجية ونفسية؛ إذ أن التقدم في العمر يصاحبه انخفاض تدريجي في الصحة الجسدية والنفسية. ثم إن إمكانية قيام الفرد بالاستثمار في طاقاته الفكرية والنفسية والبدنية تتناقص كلما تقدم به العمر.
ü بروز اختلالات إضافية، ومشاكل جديدة في مجال التكوين والتقييم؛ بسبب ازدياد معدلات الاكتظاظ المرتفعة أصلا. وهو ما يدفعنا إلى وضع بنود الإصلاح الجامعي محط السؤال، ونعني مثلا:
· نظام التدريس بالوحدات التي تشترط عددا محدودا من الطلبة في كل فضاء دراسي.
· اعتماد صيغ التقويم التي جاء بها الإصلاح (المراقبة المستمرة والامتحانات) التي ستستحوذ على الزمن الجامعي كله، بحيث سيجد الأستاذ نفسه محاصرا بمهام التقييم المتراكمة، مما سيؤثر سلبا على مجال البحث العلمي.
· مهام الأطر الإدارية التي يدعوها الإصلاح الجامعي إلى ابتكار طرق جديدة لتطوير أداء مصالح المؤسسات الجامعية، إذ سيؤدي تزايد معدلات الاكتظاظ إلى إرهاق كاهلها بأعباء مختلفة، ستؤدي حتما إلى بروز اختلالات بيداغوجية كثيرة، على اعتبار علاقات التأثير القائمة داخل هذا المجال، ولنا أن نعطي مثالا واحدا في هذا الباب، وهو مثال المنح الجامعية (تفرض ضرورة تتبع نتائج الطلبة).
ü ارتفاع نسبة العطالة بين الشباب الحاصلين على شواهد عليا، ولاسيما في التخصصات الموجهة أساسا إلى مجال التدريس بالتعليم العالي.
ü تكريس أشكال التدبير الانفرادي لملفات موظفي هذا القطاع، وهو ما يعتبر نكوصا عن مقولات الإصلاح الجامعي الذي يدعو إلى التدبير التشاركي القائم على أساس تكامل المهام. وهو ما سيؤدي إلى إشاعة ثقافة الاستفراد بالقرارات داخل مختلف الهيئات الجامعية، من خلال تغييب الفرقاء النقابيين، وغيرهم من ممثلي الطلبة، وكذا المتدخلين السوسيواقتصاديين المحليين.
ü إشاعة مناخ التذمر بين مختلف فئات الموظفين بالقطاع؛ لأن فرض المقترح القاضي بإطالة أمد الحياة المهنية، من خلال سن سياسة الأمر الواقع ليس له إلا معنى واحد هو اعتماد منطق الابتزاز والاستغلال والعقاب الجماعي. وهكذا يمكن استشراف الأثر النفسي لمثل هذا القرار على عموم الموظفين، مع ما سينتج عن ذلك من انخفاض في مخزون الحافزية، وهو ما سينعكس سلبا على المردودية العامة داخل المؤسسات.
ü السير عكس شعار تشبيب الإدارة، في ظل مناخ ثقافي وعلمي تتسارع فيه وتيرة التجديد والإبداع على مستوى مختلف صيغ التسيير والتدبير. بل إن الإصرار على تشغيل الموظفين إلى ما بعد الستين سنة في كثير من المصالح الإدارية ستكون له تبعات سلبية كثيرة، يصبح معها عبئا معيقا للحيوية المطلوبة (يمكن أن نتنبأ بسهولة بانخفاض معدلات المواظبة بين الموظفين بسبب معاناتهم من أمراض الشيخوخة؛ في ظل نظام استشفائي مغربي ضعيف لا يوفر مراكز علاجية خاصة بهذه الفئة العمرية). وبهذا الشكل سيعيش القطاع حالة خسارة مزدوجة؛ إحداها تصيب الإدارة وأخرى تصيب الموظف.
ü زيادة المسافة العمرية الفاصلة بين الطلبة من جهة، وبين أعضاء الطاقم التعليمي والإداري بالمؤسسات الجامعية، وهو ما سيؤدي إلى حصول ارتداد في مستوى التواصل داخل المؤسسات.
أما بخصوص مقترح الرفع من مساهمات الموظفين، فإن نتائجه المباشرة كثيرة، سواء تلك التي تمس الاستقرار الاجتماعي للموظفين، أو تلك التي تمس البناء السوسيواقتصادي للبلد، ونحن نكتفي بذكر بعضها:
ü رفع المساهمات يعني تخفيض الأجور، مع ما يستتبع ذلك من إضعاف للقدرة الشرائية، ومن ثم تباطؤ الاستهلاك وإضعاف السوق الداخلية الضعيفة أصلا.
ü الوقوف في طريق تشكيل طبقة متوسطة فاعلة يوكل إليها ترويج قيم المشاركة في الحياة المدنية والسياسية، باعتبار الدور الرئيس الذي تلعبه هذه الطبقة (من خلال استقراء تجارب الشعوب المتقدمة) في خلق التنمية الاقتصادية المستديمة، وبلورة الأسس الكفيلة بإرساء دعائم ثقافة الديموقراطية.
وحرصا على استحضار خصوصية المهام المنجزة داخل المؤسسة الجامعية، نرى أنه من المقبول مبدئيا تمديد السن القانوني للإحالة على التقاعد، شريطة أن يظل قرارا اختياريا من قبل الموظف لا قسريا يفرضه التشريع، أي أن يظل محكوما برهانات الحرص على تمكين المرفق الإداري ومؤسسة البحث العلمي من الكفاءات والأطر ذات الخبرة والتكوين العالي، التي ترى أنها ما تزال قادرة على العمل والعطاء. (يمكن حسابه مبدئيا بناء على متغيرات فردية خاصة: سن التوظيف، الوضع الصحي لموظف، خصوصية المهام ..). وهذا هو عين ما يمكن اعتباره مساهمة موظفي هذا القطاع في تحمل إصلاح الصندوق. على أن يبادر الطرفان الآخران المعنيان بسؤال إصلاح هذا الصندوق إلى تحمل نصيبهما من المسؤولية ( الدولة كمشغلة، والمؤسسات المسيرة للتقاعد).
وفي الختام نؤكد على أن الدولة مدعوة إلى اعتماد مقاربة شمولية تستند إلى أبعاد مختلفة، بحيث يرتبط إصلاح التقاعد بإصلاح منظومة الأجور والمقاصة والإصلاح الضريبي، ثم ابتكار مداخل مستحدثة للإصلاح توفر آليات للحماية الاجتماعية بشكل هيكلي وشمولي، من قبيل تعزيز المشاركة الاقتصادية للنساء والتي لا تتجاوز %25 اليوم، ورفع وتيرة الاستثمار المنتج الكفيل بتوفير فرص التوظيف للعاطلين، وتوسيع قاعدة المشاركين في نظام التقاعد. على أن تكون مثل هذه المقترحات قاعدة لمباشرة الحوار الاجتماعي التفاوضي (وليس التشاوري)، الذي يقوم على الإنصات إلى مقترحات النقابات في هذا المجال.
Aucun commentaire