مـآزق التعليم بالبــادية المغربية ج 4
نستكمـل حديثنـا في هـذا الجزء الأخير عـن بعض العوائق الفرعيـة التي تتفاقم في ظل الأقسام المشتركـة ، فبالإضـافة إلـى غياب نقطـة الارتكـاز المتمثلة في الطموح المفقود و مـا ينتجه من لامـبالاة دراسية تؤثر على التفـاعل الايجابي فإن ثمـة اعتبارات أخـرى تمـارس دورهـا في إعـاقة تحقيق الجودة، فضعف التعبير اللغوي بالبـادية و محدودية القامـوس العربي ترهقان المدرس في عمليات شرح المضامين خصـوصا و أننــا أمـام فصل مزدوج يتطلب صياغـات مفهومية لكل مستوى علـى حدة، و تشتـد المشكلة أكثر عندمـا تتراكم الضحـالة القاموسية علـى مدى سنوات و هيمنـة لغة الأم في الفصل الدراسي بـما لا يتيح للمدرس إمكـانية التواصل الفعـال، و هـذا الإشكـال في نظري يعود أساسا إلـى اعتبارين :
الأول: لـه عـلاقة مباشـرة بالوسط القروي الذي يحد من اكتساب المضامين و المفردات الجديدة خصوصـا بالنسبة للتلاميذ الذين حـوصروا في البوادي و لم يتفاعلـوا مع منـاخات المدن التي تغذي معـاجم المتعلم، فجل الذين لم يتمكنوا من مغادرة القرية و الاحتكـاك بأجواء المدينة يعـانون من ضعف شديد في فهم المفردات العربية و الذي يؤثر بدوره علـى الأنشطـة المتنوعـة إبان شرح النصوص أو الدروس، و يزداد الأمـر سوء عندمـا لا يفهم المدرس لغة الأم للتلاميذ فتصبح لغة الرموز و الإشارات أقرب وسيلة لتوضيح المعـاني فتتراكم المفردات المجهـولة المعنـى و يصبح خطاب المدرس داخـل الفصـل أشبه بمحـاولات من يبني عمـارة علـى رمـال متحركة!
الثانــي : له ارتبـاط بمشكل الاكتظاظ العددي للمتعلمين إذ يدفع الأستـاذ غـالبا إلـى تجاوز العديد من المراحل البيداغوجية أثنـاء عملية البنـاء خصوصـا و أننــا أمـام مستويات أخرى تنتـظر دورهـا في فك ألغـاز النصوص أو في شرح نشاط معين ، و هـذا التجاوز اضطراري نظرا لضغط المقررات التي تلزم المدرس علـى الاختصار و الاكتفاء بالقراءات دون الشرح أحيانـا عكس مـا تفرضـه المراحل الأساسية لإعداد نص قرائي أو تعبيري. إن هـذا التجاوز القسري المتراكم يسبب في عدم تحقيق العدة اللغوية اللازمـة عند المتعلم و تنتج لديه عجزا متواصـلا في فهم المتون و مشكـلا في التعبير و التخـاطب ، و يتعزز هـذا أكثر مع غياب متـابعة الآباء لمسار تعلم الأبنـاء و عدم الاهتمـام المباشر لهم في المنـازل بحيث تسهم في تعقِّـد مَهمـة المدرس شيئا فشيئا، و مـما يدل و يكشف عن ذلك لامـبالاة جل المتعلمين بالواجبات المنزلية وعدم مراجعـة الدروس و القواعـد فضلا عن إنجاز تمـارين الدعم،و للأسف يندر- إن لم نقل يعدم- أن تجد ولي أمـر يستفسر عن وضع ابنه المدرسي أو يبدي اهتمـامـا بمستوى اجتهـاده أو كسله ، كــل شيء يوحي بالسكون و الخمول بل حتـى جمعيات آباء و أمهـات التلاميذ أخلدن للراحة فمـا عـادوا يسائلون المدرس عن الوضعيات الدراسية و لا تواصلوا مع المعنيين بالأمـر لإصـلاح أوجـه القصور البادية في عـلاقـة المحيط بالمدرسـة، فكيف إذن لمدرس أن يقوم بدوره في غياب المعينـات الموضوعية ؟
إن خصوصيـة الوسـط القروي تختلف كثيرا عن واقع الوسط الحضري، فموجبات التعثر الدراسي ترتبط بعوامـل شتـى قد تكون لهـا عـلاقة بطبيعـة المقررات الدراسية التي تفوق مستويات الإدراك التعلمي بالباديـة و قد ترتبط بإشكـال الوسط في حد ذاته حيث تضغـط الظروف الصعبـة على الآباء لاستخدام الأبنـاء في أغراض الدعم الفلاحي بدل الدعـم المدرسي، و قد ترتبـط أحيانـا أخـرى بكسل المدرس و استسلامـه للظرف الصعب فـلا يستفرغ وسعـه لإنقاذ مـا يمكن إنقاذه من ضحـايا المحيط، و قد ترتبـط – و هـو الأشد- بالمشكلات النـاجمـة عن الأقسـام المشتـركة بمضاعفاتـه العددية و آفـاته اللاتربوية . إن المدرس الغيور الذي يواجـه هـذا الكم من العقبات فضلا عن ظرفـه الخـاص المزري لـن يكون حتمـا قادرا علـى بنـاء المنظومة التربوية بشكل سليم رغم المحـاولات الحثيثـة و المستميتـة للعديد منهم في التقليل من آثارهـا، و للأسف فإن مجهـودات البعض تضيع وسـط لامبالاة إدارية أو حتـى من المحيط نفسـه إذ أن إهمـالات الدواوير و عدم تعـاون أهلهـا مع الأستـاذ حتـى علـى المستوى الاجتمـاعي يورث في الغـالب اليأس و يدفعـه أحيانـا بالاكتفاء بالعمـل البسيط داخـل الفصل، كمـا أن الغياب المطلق لبعض المدراء عن النـظر في استحقاقات الأساتذة بل و تواصلهم أحيانـا مـع الكسـالى و القاعدين و تشديد الخنـاق علـى المجدين عبر الزامـات السلـطة الإدارية غـالبا مـا تجعـل المدرس الشريف يطرح أسـئلـة عدة قد تقوده إلـى حـالة الركون مع القاعدين .
من جهــة أخـرى، يواجـه المدرس مشكـلا آخـرا متمـثلا في الغيابـات المتكررة للمتعلمين في العـالم القروي إذ تجعـل مهمـة التدريس منقوصـة و مترهلـة بفعـل التقطعـات التعلمية التي تخلفهـا الغيابات، فهـاته الأخيرة تؤثر في الصيرورة الاكتسابية و تعيق بنـاء سـلاسل معرفية و تزيد من مضاعفـات التعثر الدراسي كما أنهـا ترهق عمل المدرس بحيث تلزمه بالعودة في كل مـرة إلـى الأنشطـة الغير مدروسـة شرحـا و توضيحـا ممـا يؤثر بدوره علـى الجدولـة الزمنية و يحد من وتيرة التعلم . إن عـدم استنـفاذ الغـلاف الزمنـي يعود –في نظري – بجذوره إلـى مشكلين : الأول مرتبط بإكراهـات الأقسام المشتركـة كمـا سبق الحديث عنه و الثانـي إلـى التغيبات الفردية أو الجمـاعية ، و في هـاته الحـالة فإن للمدرس خياران : إمـا الاشتغـال علـى أنشطـة الحـاضرين و الاستمـرار في تغطية مضامين الحصص الدراسية و بالتـالي الإعـراض عن العودة إلـى مواضيع و أنشطة المتغيبين مما سينتج عنه بالضرورة تراكمـا رهيبـا في الدروس الغير مفهومـة و تحولهـا فيمـا بعد إلـى عوائق ذاتية تحول دون اكتساب القدرة المهاراتية و التعلمية، و إمـا أن يُلزِم المدرس نفسه عدم تخطـي أي نـشاط تعلمي و إن اقتضـى الأمـر عدم مسايرة وتيرة التعليم فيضطـر إلــى مضاعفة الجهـود و القيام بشروحات إضافية فردية و تذكيرية للآخرين ،الشيء الذي سيستنزف حتمـا طـاقة المدرس و يبدد الكثير من القوى و الأزمنة المدرسية مضافـة إلــى أعـباءه و أتعـابه اليومية العـادية .
إن مـا يُـمَكِّـن المدرس من التحكم فيه بخصوص إعـاقات التعلم الذاتية تـظل مسـاحـة قابلـة للترميم التربوي، لكن إعـاقات التعلم من النـاحية الموضوعية تمثل تحديا خـارج السيطـرة أحيانـا ، و من بين مـا لا يمكن التحكم فيه في مجـال منظومـة التربية والتكوين بالنسبة للمدرس مشكـل ظـاهرة الإنجـاح الإجباري الذي تنهـجه الوزارة تحت مسمــى « الخريطـة التربوية » بخصوص المستويات الفردية مـع مشروع مدرسة « جميعـا من أجل مدرسـة النجـاح »، للأسف هـذا الخيار الإنجـاحي القسري الذي لا يأبه للاستحقاق و الكفاءة خلقَ مآزقَ حقيقية و أوجــدَ مفارقات عميقة في الفصل الدراسي أفرزت تشكيلات متناقضة و خرائط عقلية متنـافرة في صفوف المتعلمين يستحيل التوفيق بينهـا أو حتـى التقريب بينهـا كأنْ نجد متعلما في المستوى الرابع لا يتهجـى القراءة و لا يحسن الحساب أُنــجِِــحَ قسرا بموجب مطـالبات « الخريطة المدرسية » التي تنظر إلـى الاعتبارات المـادية دون الاستحقاقات التعلمية، فرغـم النتـائج الهزيلـة المحصل عليهـا لبعض المتعلمين و رغم مـلاحـظات الأساتذة حول مردودية المتعلم إلا أن الغريب أنْ يُــنــقَــلَ عنوة إلـى المستوى الموالي خوفـا من التكرار الذي يولد اكتظاظا و بالتـالي ميزانية مـالية أخـرى ، بل أن المرء يعجب أيمـا عجب حينمـا يسمـع بوجود معـاق (صم بكم) في المستوى الثالث مثلا و هـو أصلا لا يتكلم و لا يسمع كيف انتقل بلا أدوات إدراك ! إن الإنجـاح القسري يتناقض تمـامـا مع المقاربـة بالكفايات لأنـه أسلوب يعتمـد علــى تغليب « المنفعـة » المـادية علـى الجودة التربوية، و هـو خيار يكرس النظرة « المقاولاتية » في التعـامل مـع قطـاع حساس كقطـاع التعليم، و كـل التجـارب أثبتت أنه فعـلا أفرز مطبات تربوية محورهـا الرئيسي استمرار مسلسل تعثر المتعلم و استحـالة معـالجة نتائجهـا الكـارثية في أقسام مشتركـة تعج بالمتنـاقضات ، فالطفل و هـو يلج لأول مرة فضاء المدرسـة في سن صغير عندمـا لا يأخـذ حـظه من التعلم فيتم رفعـه بعد ذلك إلــى مستوى آخـر بلا مبرر تربوي فإن القضيـة تصير أشبـه بلعبة أبطـالهـا أطفال ضحـايا يقعون أسـرى تخطيط يهـدر حقهم في الفهم السليم و التعلم الجـاد .
تلكـم بعـض مـلامـح الأزمـة كمـا نراهـا في العـالم القروي، و الحـال أن نظام التربية و التعليم في هـذا العالم الغريب لا زال يترنـح بفعل أمراضهـا المتجذرة في واقع المـارسة، و مـا ذكرنـاه لا يعدو أن يكون تأملات عـابرة أملتها تجربتنـا الشخصية في العـالم القروي و إلا فإن في ذاكرة الأساتذة الأفاضل مـا يزيد هـذا بؤسا و قتـامـة لواقع أريدَ أن يكون عنوانـا دائمـا للأزمـة التعليمية و الله أعلــم
Aucun commentaire