قراءة في قرارات وزارة التربية الوطنية – الحلقة 1 –
قبل مباشرة صلب الموضوع لابد من الإشارة إلى ما أثارته مجمل القرارات التي أصدرها السيد وزير التربية الوطنية منذ توليه على رأس هذه الوزارة ، من ردود أفعال مختلفة في صفوف كل الفاعلين والمتتبعين، ومهما اختلفت هذه الردود شكلا و مضمونا فإنها أجمعت على مجموعة من العيوب التي اتسمت بها هذه القرارات كالتسرع ،والانفراد ، ومخالفة بعضها للقوانين الجاري بها العمل داخل هذا القطاع ، وبعدجلها تماما عن روح إدارة مطبوعة بالتربية والتهذيب ، وتناقضها في كثير من الأحيان مع روح دستور المملكة الجديد الذي ينص في عدد من مواده على ضرورة الإشراك والمشاركة وعلى تعميم المعلومة على كل الفاعلين ، ….وقد عبرت جل الهيئات النقابية عن استيائها العميق من منهجية العمل هذه ،القائمة على الإقصاء وإصدار الأوامر من فوق دون أي اعتبار للفاعلين الذين يرفضون أن ينظر إليهم كأدوات ميكانيكية ، ويستغربون من الإمعان والتمادي في هذا التوجهالذي يؤدي لا محالة إلى القضاء على رغبات ودوافع الفاعلين وضياع الخبرات والتجارب والتراكمات . إن هذا التجاذب بين القيادة والمرؤوسين في قطاع التعليم كما في قطاعات أخرى مرده في اعتقادي إلى الأسلوب الذي تنهجه الإدارة الوصية على القطاع في صناعة واتخاذ القرارات ، خاصة إذا علمنا الخطوات المتشابكة والمتدرجة التي ينبغي مراعاتها واحترامها عند صناعة القرار ، حتى لا تكون له انعكاسات سلبية على المرفق الإداري ، وحتى نضمن انخراط الجميع ومساهمتهم وحرصهم على تحقيق الأهداف العامة للمؤسسة والهدف أو الأهداف التي يحملها القرار نفسه .
إن صناعة القرار الإداري عملية خطيرة تعنى بالحاضر، وتحدث تغيرات على الواقع ، وتلحق تأثيراتها المستقبل ، وإذا كان القرار في حد ذاته اختيارا رصينا ومدروسا من جملة من البدائل المتاحة ، فإن صناعته تطال كل المتغيرات من مرحلة اتخاذ المسؤول القرار إلى مرحلة تنفيذه ، ومن ثم فإن صناعة القرار – خاصة في قطاع التربية والتكوين – لا يمكن بأي حال من الأحوال اختزالها في إصدار أوامر أو توجيهات عن طريق مراسلات أو مذكرات ، بل هي عملية واسعة تضم عددا من الإجراءات ، في مقدمتها تحديد المشكلة ، ثم البحث عن البدائل الممكنة ، ثم اختيار البديل العملي ، ومن هنا ينبغي التمييز بدقة بين صناعة القرار ، واتخاذ القرار الذي لا يعدو ان يكون مجرد خطوة في صناعة القرار . وفي هذا الباب نتساءل عن مآلات القرارات الصادرة عن وزارة التربية الوطنية في هذه الحكومة ؟ وإلى أي حد احترمت الوزارة منهجية صناعة القرارات التي اتخذتها ؟
وللتحقق من هذا لابد من استعراض عدد من القرارات والبحث في منهجيتها ومآلاتها في الميدان ، وسأشرع في تحليل ومناقشة جملة من القرارات في عدة حلقات ، سأبدأ في هذه الحلقة بقرار توقيف بيداغوجيا الإدماج كالآتي :
قرار توقيف بيداغوجيا الإدماج :
كلنا يتذكر مراسلة السيد الوزير في موضوع بيداغوجيا الإدماج الصادرة بتاريخ 16فبراير 2012 تحت رقم 037×12 والتي تضمنت أربعة محاور :
– الاحتفاظ ببيداغوجيا الإدماج في التعليم الابتدائي على أساس إعطاء الصلاحية لمديري المؤسسات التعليمية والأساتذة من أجل اعتماد هذه البيداغوجيا ؛
– إلغاء التقويم الوارد في المذكرة رقم 204 بتاريخ 23محرم 1432 الموافق لـ 29 دجنبر 2010 وذلك تسهيلا لعملية التقويم ؛
– إرجاء العمل ببيداغوجيا الإدماج بالسلك الثانوي الإعدادي إلى حين وضع تقييم لنتائج تطبيقها بالتعليم الابتدائي
– توقيف جميع عمليات التكوين المرتبطة ببيداغوجيا الإدماج ؛
قبل التفصيل في هذه المراسلة ، وجبت الإشارة إلى أنها تشكل منعطفا خطيرا في نمط التدبير بوزارة وصفت في المراحل السابقة بقاطرة لإرساء الحكامة الجيدة ، القائمة على الإشراك والتشارك والاستشارة ، وستتفنن الوزارة الجديدة في تعميق التدبير الانفرادي ، وفي إرساء مقولة التربية في خدمة الإدارة ،عبر عدة قرارات ، ضاربة عرض الحائط كل البنيات التنظيمية والتراكمات وكل الخبرات البيداغوجية والتربوية التي تزخر بها بلادنا .
ولمعرفة حجم القرار موضوع المراسلة ، ولإدراك الفرق في خطوات صنع القرار ، لا بد من التذكير بنموذج من نماذج صنع القرار في الوزارة السابقة ، وآثرت أن يكون هذا النموذج في عملية إرساء بيداغوجيا الإدماج في السلكين الابتدائي والثانوي الإعدادي ، وقد تمت صناعة هذا القرار وفق المراحل التالية :
– مذكرة رقم 112 في موضوع تجريب بيداغوجيا الإدماج بتاريخ 10 شتنبر 2008 ؛
– مذكرة وزارية تحت رقم 174 في موضوع إرساء بيداغوجيا الإدماج بتاريخ 8 نونبر 2010
– سلسلة من اللقاءات التواصلية بين كافة الفاعلين التربويين ، والفرقاء الاجتماعيين ،
كل هذه الإجراءات تنطلق من الميثاق الوطني للتربية والتكوين ، ومن البرنامج الاستعجالي الذي ظل امتدادا لتحقيق الاهداف المسطرة في الميثاق .
ونترك للقارئ استنتاج الفرق الشاسع في منهجية صنع القرار ،بين الوزارتين السابقة والحالية ، لنعود إلى قراءة تحليلية لمراسلة توقيف بيداغوجيا الإدماج الفاقدة لأي مرجعية بيداغوجية أو تشريعية ، وقد يلاحظ القارئ في بداية الأمر حسم الوزارة في نقاط مهمة داخل المراسلة ، منها إلغاء التقويم الوارد في المذكرة رقم 204 ، و إرجاء العمل ببيداغوجيا الإدماج بالسلك الثانوي الإعدادي ، وتوقيف جميع عمليات التكوين المرتبطة بهذه الببيداغوجيا ، في حين جاء قرارها فيما يخص الاحتفاظ ببيداغوجيا الإدماج غير واضح ، ورمت به بعيدا عنها إلى السادة مديري المؤسسات والمدرسين ، محاولة إبراز حرصها على الاستشارة والإشراك .
اعتقد أن بناء المراسلة بهذا الشكل لم يكن بريئا ، بل كانت تحكمه جملة من الخلفيات التي حاولت تبرير القرار قبل كتابة المراسلة ، إن الحسم في توقيف التقييم وتوقيف التكوين هو بمثابة اجتثاث للمتحكمات الأساس في كل بيداغوجيا ، ولا حياة لأي بيداغوجيا في غياب نمط التقييم لمخرجاتها ، والتكوين الداعم لها ، ، ومن ثم فإن الوزارة قررت و بشكل قطعي توقيف هذه البيداغوجيا قبل تحرير هذه المراسلة ، وقبل التداول المشار إليه باحتشام بين مديري المؤسسات والمدرسين ، ولذا كان يكفيها أن تصدر مراسلة إخبارية بهذا الشأن دون الإشارة إلى التقييم والتكوين وإرجاء العمل بها في الإعدادي الثانوي لأن هذه الأمور كلها تحصيل حاصل . أعتقد أن محرري الوزارة المشرفين على الشق البيداغوجي في الوزارة لا ولن تغيب عنهم مكانة التقييم والتكوين في أي بيداغوجيا، ولكنهم بصنعهم هذا آثروا خدمة الإدارة والتضحية بما هو بيداغوجي و تربوي ، حفاظا على مناصبهم ، وكراسييهم . علما أنهم كانوا بالأمس القريب يعتبرون بيداغوجيا الإدماج المنقذ الوحيد لمنظومتنا التربوية .
إن الحرب التي شنها السيد الوزير – منذ تعيينه على رأس هذه الوزارة – على بيداغوجيا الإدماج في الصحافة ، وفي لقاءاته الرسمية منها وغير الرسمية ،،بدءا بمنظرها » بوشعكاكة على حد قوله »، ومرورا بما طال المؤطرين وخاصة هيأة التفتيش من تهديد بالمحاسبة ، ونعتا بأكل المال العام ،كلها كانت مؤشرات على القرار الذي كان يطبخ داخل دهاليز الوزارة ، مستغلا في ذلك رفض البعض لهذه البيداغوجيا ، ودعوات البعض لمقاطعتها . وقد جاءت المراسلة في كساء بيداغوجي تربوي مستحضرة دفوعات جيوب المقاومة فيما تطرحه البيداغوجيا من صعوبات في التقويم ، وفيما تراه هذه الفئة من هدر للمال العام ، وتحولت المراسلة بهذا من مراسلة إلى دعوة رسمية لمقاطعة بيداغوجيا الإدماج .
نعم لقد تم اتخاذ القرار ، ولنفترض جدلا أن الوزارة كانت صادقة في استشارة السادة مديري المؤسسات والمدرسين ، فهذا مفاده أن القرار لم يعد بيد الوزارة الوصية ، وأن القرار لم يعد ملزما للجميع بل هو قرار اختياري . والحالة هذه هل اخبرتنا الوزارة بنتائج اللقاءات داخل المؤسسات التعليمية ؟ كم عدد المؤسسات التي أوقفت الاشتغال ببيداغوجيا الإدماج ؟ وكم عدد المؤسسات التي أرتأت الاحتفاظ بها ؟ وهل يجوز الاشتغال بمقاربتين في منظومة تربوية واحدة ؟ وإذا كان الجواب بنعم ، ما مصير التقييم خاصة في الامتحانات الإشهادية ؟ وما هو البديل المقترح لتجاوز الفراغ الذي خلفه توقيف هذه البيداغوجيا ؟
وبمناسبة الحديث عن البديل لا يتوانى البعض ممن ساهموا في هذا بتذكير الفاعلين إلى الاشتغال بالمناهج السابقة ، وبالمقاربة بالكفايات ؟ وكم من مرة طلب من المسؤول على الشأن البيداغوجي تدوين دعوته هذه في مراسلة رسمية ، لكنه لم يفعل ولن يفعل ، لأنه يعلم أن بيداغوجيا الإدماج التي سعى في توقيف الاشتغال بها ، كانت هي كذلك تشتغل على المناهج السابقة وتوظف مقاربة التدريس بالكفايات ، ومقاربات أخرى .
هكذا تمت صناعة قرار توقيف بيداغوجيا الإدماج ، فاتخذ القرار بعيدا عن الفاعلين التربويين ، في منتصف السنة الدراسية ، دون متابعة آثاره على العمل داخل الفصول ، ودون اقتراح البدائل الممكنة ،فإلى متى ستتشبث وزارتنا بمنهجها في صنع قرارات بعيدا عن الفاعلين ، ودون استحضار التراكمات التنظيمية والبداغوجية ؟
Aucun commentaire