المقامات المزمارية : المزمار الخامس – الرجل الذي عينوه في الامتحانات ملاحظا فظل طيلة الأسبوع لعينيه جاحظا.
المقامات المزمارية : المزمار الخامس – الرجل الذي عينوه في الامتحانات ملاحظا فظل طيلة الأسبوع لعينيه جاحظا.
حدثنا أبو الغرائب عن أبي العجائب أن رجلا من أهل المداعبة، اشتهر بانشغاله الدائم للأزمات بالتحليل والمقاربة، وكان يرى أن المشكل قائم على مستوى المتابعة والمراقبة…ظل يدعو إلى مراجعة الأسباب في الأصل، وقطعها من الأساس قبل أن تُجهر البطون بالحمل، وقبل أن تَبْلُغَ عنانَ الزُّبى مياهُ السيل…كان أينما حل وارتحل إلا ويرحب به بالأحضان، وكان يعتبر ذلك اعترافا به ونوعا من الامتنان، لما يقدمه من حلول لاجتياز محن الامتحان…عاد يوما إلى منزله منهكا من كثرة حل القضايا والمشاكل، وأحس بدبيب النمل يسري في عروق المفاصل، فاستسلم للنوم غير مكترث بما سيأتي به جديد النوازل…وحدث يوما أن سافر إلى بلاد المآثر، حيث تدرب على مهارة كتابة التقارير وإثبات المحاضر، حتى حصل على شهادة وكانت بالنسبة إليه جوهرة من الجواهر…قضى حياته يسعى إلى امتلاك العلم والأدب، تارة بالبحث والمثابرة وتارة بالإلحاح في الطلب، وقد كلفه ذلك جهدا وكثيرا من الكد والتعب…يروي أحد الفضوليين المتخصصين في تجميع البيانات، أن صاحبنا عُيِّن ملاحظا لتتبع إجراءات الامتحانات، في إطار ما تنص عليه مقررات الانتدابات والتعيينات…زودوه بالمطبوعات والمساطر والمطويات والدلائل، وطلبوا منه تسجيل كل ما يراه بالتدقيق المتكامل، وواعدوه أن كل شيء سيكون طبعا بالمقابل…قارن سبل المطلوب بما تعلمه طيلة الشهر، واستنتج أن ذاك يتطلب الكثير من الصبر، ثم أنشد مفتخرا يقول أبياتا من الشعر:
اللحـظ أحسن إجراء من الكسل في ضبطه العدل بين الغش والعمل
كُلِّفْتُ طوعا وأوصوني بما يجب وكـلَّ ما يقتفي مظـاهـر الفـشل
وأطلعوني على الدليل بالشـرف وطالبـوني بتقـرير على العـجل
هضم دليل الإجراء وجرى مسرعا بكل براعة، وبدأ يتحقق من حضور طاقم الإجراء قبل نصف ساعة، ثم تجول في الممرات لمعاينة ما يوجد في كل قاعة…راجع دليله وقد شد على تعليماته بالنواجد، وأخرج مترا ليقيس به المسافات الفاصلة بين المقاعد، ثم اطمأن على كمية الإضاءة المتسربة عبر النوافذ…تفقد المطبوعات الخاصة بالمترشحين الغاشين في الامتحان، وفتش كل الطاولات تحسبا لدوائر الزمان، وألقى نظرات فاحصة على السبورات مزيدا من الاطمئنان…يروي أحد الفضوليين المتخصصين في علم الهندسة، أن صاحبنا عند دخوله لاحظ اعوجاج يافطة بباب المدرسة، فحاول تعديل وضعها مستعينا بعمود المكنسة…تأكد من عدم زيادة سعة القاعة عن عشرين مترشحا، مع التدقيق جيدا إن كان –لا قدر الله- واحد منهم متسلحاً، وتحرير محضر غش في حق من ضبط للأحراز متصفحا…اطمأن على وجود مقص ضمن معدات القاعة، وفُتِحَت الأظرفة وبدأ الإجراء مع رأس الساعة، وتسلم كل مترشح ما خُصِّص له من الأوراق والبضاعة…زركشت الأظرفة والمطبوعات بشتى أنواع التوقيعات والخواتم، وتم التحقق من هوية طاقم المركز والمراقب والمداوم، وجُرِّد المترشحون من الهواتف والأحراز والتمائم…سخر كل مهاراته لتتبع كل حركة أو نفَس أو دبيب، حتى يُخْرص كل فم قد يفوه بأمر مريب، مصمما على كبح جماح كل سلوك مشين معيب…تمتم صاحبنا بكلام مبهم غير مفهوم، ثم سجل شيئا ما على ورق مختوم، وكأنه عثر على ضالته أو فك شفرة سر مكتوم…يروي أحد الفضوليين المطلعين على الخبايا، أن صاحبنا انزوى خلسة في إحدى الزوايا، وهاتف جهة ما يستفسر عن بعض القضايا…انتهى إلى علمه أن شيئا ما يروج عبر شبكة العنكبوت، فتفحص دليله الذي لم يضع في الحسبان إجراء « البلوتوت »، فما كان منه إلا أن يلتزم بحكمة الصمت والسكوت…انتهى اليوم الأول بتذييل الإجراء ببصمة الظروف العادية، حيث سارت عملية الإجراء حسب الاستعدادات الأدبية والمادية، وحسب ما تناقلته مصادر الأخبار والملاحظات المحايدة…جدد نشاطه وحيويته في اليوم الموالي، بعد أن طمأنه ما جاء في تصريح سعادة المعالي، فصمم أن يكون لمهامه خير المنفذ المثالي…شدد على التعامل الصارم مع محترفي الغش، وأوصى بالزيادة في البحث والتفتيش والنبش، لقطع دابر ريش الغش والتسريب في عقر العش…مُنِعَ الخروج إلى المراحيض بقوة قانون الإجراء، وقرر أن يدون كل ما يلاحظه من التسهيل والإغراء، دون رغبة في سماع الكلام المعسول الممزوج بالإطراء…فُتِحت الأظرفة وأُحْكِم إغلاقها في الموعد المحدد، وأطلق سراح المترشحين وفُتح ظرف المداوم المقيد، وعلى نفس الوتيرة سارت إجراءات طيلة الأسبوع الممدد…خفَّت الأوزار وقَلَّت الأتعاب في اليوم الأخير، وأعلن صاحبنا اقتراب انتهاء مرحلة النفير، متمنيا للجميع السداد والتوفيق وحسن ختام المصير…يروي أحد الفضوليين المتفقهين في التعقيب والتصريح، أن صاحبنا استدعي لتتبع عمليات التقويم والتصحيح، فقبل شريطة تجنيبه كل أنواع النقد والتجريح…اطلع على مقررات إجراء التصحيح من جديد، وزار الورشات مكتفيا بالتتبع والملاحظة من بعيد، مُبرئا نفسه قدر المستطاع من كل وعد أو وعيد…وبينما هو كذلك أحس بإغفاءة تعبث بجفنيه، وبلفحة ترغمه على إغلاق ما تبقى من فتحات عينيه، وأحس بشيء غريب يخدش وقر أذنيه…ولما سقط أحد الأظرفة وارتفعت حدة الصوت، استيقظ مذعورا فوجد نفسه يتصبب عرقا كالزيت، ثم مات دون ضجيج وبكامل الهدوء والصمت…وفي رواية أخرى أنه لما أدرك أن ما رآه كان إجراء حافظا، لعن اليوم الذي تمنى أن يكون فيه ملاحظا، ثم مات ثلاثا ولعينيه ظل جاحظا….
يتبع مع مزمار آخر محمد حامدي
Aucun commentaire