أبو زيد: تفـاعــــل النخبــة المثقفــة مــع الربيــع العربي ليــس في المستوى المطلوب
قال المفكر المقرئ الإدريسي أبو زيد إن التحولات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لها منطق مختلف وإيقاع أبطأ عن التحولات الأمنية والعسكرية، الأمر الذي يفسر طبيعة التحولات في الربيع العربي، وأضاف أن مؤشرات التحول التي يمكن رصدها ليست بالضرورة تحولات إيجابية، ربما تكون سلبية وكارثية، لكنه اعتبر أنها ستكون جذرية وحاسمة، مشيرا إلى أن التحولات لا يتم استيعابها إلا عندما تأخذ مداها من الزمن وفي التأثير وفي الآثار عبر تقييمها بأثر رجعي وبإسقاط بعدي.
من جهة أخرى، دافع أبو زيد في حوار « التجديد »، عن مصطلح « الثورة » الذي ترفض بعض التحليلات إلصاقه بالربيع العربي، بالمقابل أبدى تحفظه على مقارنة ما يحصل في الأمة بالثورات الكبرى التي عرفها التاريخ، وأكد أن المرحلة الحالية برزخية ليس مستغربا أن تظهر فيها بعض السلوكات التي تأتي على شكل انتكاسة وارتداد أسوأ من السابق في المجال الحقوقي والاقتصادي.
أفرز ما يسمى « الربيع العربي » تحولات سياسية مست الحكام بالأساس، هل رافق ذلك تحولات اجتماعية واقتصادية وثقافية؟
ما يميز التحولات العسكرية أو الأمنية أنها تحدث بسرعة، بخلاف التحولات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية فلها منطق مختلف وإيقاع أبطأ، لذلك نرى بعد الربيع العربي أن التحولات مست الجوانب ذات الإيقاع السريع بطبيعتها وهي أساسا السياسية والأمنية، في حين لا يمكن أن نرصد في إطار الحيز الزمني الضيق تحولا هاما في الجوانب الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، لكن يمكن أن نرصد مؤشرات كانت تمهيدا للربيع العربي وفي نفس الوقت تمهيدا لما بعده في تحولات قادمة، على المستوى الثقافي والفكري والنفسي والإعلامي والاقتصادي، لكن هذه التحولات ليست بالضرورة تحولات إيجابية، ربما تكون سلبية وكارثية، وقد تشهد المنطقة انهيارات ترجع بها إلى الوراء بطريقة تجعل البعض يندم على حصول هذا الربيع وعلى الأمل الذي عقده على هذا التحول.
هناك بعض التحليلات ترفض تسمية ما يحصل ب »ثورات »، بالمقابل يتحدثون عن احتجاجات ذات مطالب سياسية، بدليل أنها لم تفرز تغييرا جديدا في الدولة والمجتمع كما هو الشأن في الثورة الفرنسية. هل تتفقون مع هذه الأطروحة؟
الذين يرفضون تسمية ما يحصل بالثورة يرتبطون بعنصرين؛ أولا، الإطار الفلسفي والفكري للتجربة الغربية التي أصبحت اليوم نموذجا ذهنيا مسيطرا في كل مجال، وبالتالي أصبح يقاس عليه كل شيء، ثانيا، لأنهم يقرؤون الثورات الأوروبية التي حصلت قبل قرن أو قرنين من الزمن، ويراكمون في لا وعيهم كل مكاسب هذه الثورات في هذا المدى الزمني الواسع العريض ليجعلوه جزءا من الحكم على الثورة، في حين يجب عليهم في المرحلة الأولى التخلص من أسر النموذج الغربي، وفي المرحلة الثانية العودة إلى الوقائع الجزئية التي كانت تبدو في وقتها بسيطة ومجرد حوادث عارضة وتحول استثنائي وسوف تعود الأمور إلى نصابها.
ينبغي أن ننظر إلى الثورة الفرنسية في سنواتها الأولى ونقارنها بما يحدث في مصر؛ حينها سنخلص إلى أن ما يجري في مصر اليوم ربما أشد قوة مما حصل في السنوات الأولى للثورة الفرنسية، وفي هذا الإطار، أذكر بأن الثورة الفرنسية التي استمرت 41 سنة انتكست في سنواتها الأولى وارتدت إلى الملكية وإلى الإمبراطورية مع نابليون، ثم جاء استبداد الثورة نفسها بل همجيتها وطريقتها الموغلة في الإبادة والعقاب الجماعي والقتل ونصب المشانق في الشوارع، وافتقاد كل الحقوق والمعاني والقيم التي دعت إليها الثورة.
خلاصة الأمر، أن كثيرا من التحولات لا يتم استيعابها إلا عندما تأخذ مداها في الزمن وفي التأثير وفي الآثار، عبر تقييمها بأثر رجعي وبإسقاط بعدي، ولهذا فإن الثورات العربية لن تكون بدعا من كل الأحداث التي لم تأخذ حقها من الفهم والتقدير والاعتبار، إلا بعد أن مر على حدوثها عقد أو عقدان واستبانت آثارها العميقة وامتدت تأثيراتها إلى مجالات مهمة، ولم يعد بالإمكان الرجوع إلى ما قبل هذه الثورات وإلى نمط التفكير والمعاملة والحكم، ونمط العيش الذي كان قبلها؛ آنذاك يعترف لها أنها كانت ثورة.
في نظري، أن ما حصل هو ثورة بالمعنى العميق للثورات، بل أعمق بكثير مما نراه الآن وما يراه أكثر الناس تفاؤلا وتهليلا وانحيازا لهذه الثورات، وأنا أتصور أن تأثيرها على الأمة سيكون جذريا وحاسما لكني لا أدري هل سيكون التأثير إيجابيا أم سلبيا.
يلاحظ البعض أن تحولات « الربيع العربي » لم تمس النخبة المثقفة والمجتمع المدني والحركات الإسلامية والمواطن العربي، يؤكد ذلك عدم حدوث تحول في السلوك والمشروع، ما رأيكم؟
البرزخ بين البر والبحر، لا يستطيع الإنسان فيه أن يستبين الماء هل حلو أم مالح؟ هذه المرحلة برزخية، لذلك ليس مستغربا أن تظهر بعض السلوكات التي تأتي على شكل انتكاسة وارتداد أسوأ من السابق في المجال الحقوقي والاجتماعي. أما تفاعل النخبة المثقفة مع هذا الربيع فليس في المستوى المطلوب وهناك نوعان؛ نوع أكاديمي فكري لم يتوقع هذه الثورة ولم يستطع أن يتنبأ بها ولم يستطع أن يلتفت بما يكفي لإرهاصاتها، ثم نوع يرتبط بالسلطة الحاكمة، يشكل جزءا من القوة المرتدة على هذه الثورة ويوجد ضمن جيوب المقاومة والممانعة المعادية للمشروع الإسلامي الذين يرون أن الثورات عبدت الطريق للإسلاميين، وبالتالي حاربوها وأصبحوا جزءا من جيوب المقاومة من قوى الردة من الجاهلية الجديدة، كما يبدو ذلك بشكل وقح ومستفز في مصر، ويمكن أن يظهر بشكل واضح في تونس كما يمكن ملامسته بشكل لطيف في ليبيا والمغرب، على العموم، المثقفون لم يلتقطوا اللحظة ويوجدون الآن على هامش التاريخ وخارج مسار التحولات الحاصلة.
أما الجماهير، فطبيعي أن لا تحصل على ما كانت تطلبه من حرية وعدل وتحسن في مستوى العيش وخدمات صحية وتعليمية، لأن ذلك يحتاج إلى وقت طويل، والأنظمة التي سقطت تركت وراءها الصناديق الفارغة والمديونيات المرتفعة والسياسات الفاشلة فضلا عن تربص القوى الدولية، بالتالي لا يمكن أن نرى اليوم مستفيدا من الربيع العربي لأنه يحتاج إلى من يعطيه لا من يأخذ، يحتاج من يبذل لا من يطالب، والموجة لكي تصل مداها يجب أن تحمل على رجال لا يفكرون في مصالحهم وإنما يفكرون في المستقبل من أجل إنقاذ الوطن والهوية وما تبقى من كينونة الأمة.
جوابكم يجرنا للسؤال عن تناقض تعيشه الجماهير التي تمكنت من إسقاط حكام فاسدين، ألا ترون أن سلوك الجماهير الشعبية تتناقض مع مطالبها، على سبيل المثال، المغاربة يطالبون بمحاربة الفساد في السلطة، بالمقابل لا مانع للبعض في تقديم رشاوى لوصول مبتغاه، كيف يستقيم مثل هذا السلوك بالتحول؟
ظاهر الأمر أن جيل التحول هو جزء من الأزمة، صانع التحول هو أيضا منتج الأزمة جزئيا، هذه الجماهير التي خرجت ثائرة في وجه التلوث هي من يستنشق هذا الهواء الملوث، هي من يعاني من الإفلاس القيمي والأخلاقي بسبب الإعلام المتدني والسياسات التعليمية التي جعلت المدرسة فاقدة لقدرتها على أداء دورها، بل انهارت كليا من الناحية التربوية، صحيح أن الجماهير مكتوية بنار المعاناة لكنها تصنع هذه المعاناة بنفسها وتصنعها جزئيا لغيرها، لكن كل هذا لا يمكن أن يخفي حقيقة أن النفوس قد اشرأبت إلى عالم آخر، إلى منطق آخر في العيش وإلى نمط آخر من العلاقات الإنسانية والسياسية والاجتماعية، بالتالي المعركة ذاتية وداخلية يمارسها كل واحد مع نفسه أولا ومع الآخر ثانيا.
هناك في الجهة الأخرى أناس يملكون وعيا عاليا وروحا وطنية متميزة ورغبة في التغيير وصدقا في التوجه، هؤلاء المتميزون والخيرون والواعون والاستشهاديون والطلائعيون إن استطاعت الثورات أن تجعلهم في الأعلى في المواقع التي يحتلها المفسدون والمتنفدون فسوف يستطيعون مع الزمن أن يتجاوزوا الوضع السيء الذي نعيشه ولو جزئيا.
أليس نتيجة ما يحصل اليوم أن الثورات التي قامت لم يكن لها تأطير نظري وفكري قبلي كما هو الشأن في الثورة الفرنسية مثلا؟
الذين يقولون إن هذا الربيع ليس ثورة يستندون في طرحهم على أن لكل ثورة فلاسفة ما قبل الثورة الذين أنضجوا الوعي ونشروا الفكر وألفوا الكتب ودرسوا في الجامعات وأسسوا المنابر الإعلامية والثقافية التي صنعت جيلا واعيا، استطاع أن يتطلع مع هذه النخبة إلى التغيير، لكن القياس على الثورة الفرنسية أو الروسية أو الأمريكية ليس قياسا ملزما، والسبب أن الوعي اليوم أصبح واسعا مفتوحا ولم يعد خاصا، فوسائل الإعلام والتواصل والاتصال توسعت؛ بالتالي هذا ليس الجيل الذي يحتاج إلى الفلاسفة والزعماء وإنما الجيل الذي يحتاج إلى مواقع التواصل الاجتماعي وبناء شبكة التواصل الإلكتروني والتواعد على الفكرة وموعد الانطلاق، هذه الأجيال امتلكت من وسائل الوعي والتواصل ما لم تمتلكه أجيال القرون الماضية القرن 17 و18 و19.
هل تتوقعون ربيعا آخر أو ثورات أخرى تحدث تحولات تلامس بنيات المجتمع بشكل شامل، ولن تكون تحولات سياسية تنحصر في تغيير حاكم فقط؟
لن نسميه ربيعا آخر لكن نسميه محطات أخرى في نفس الربيع، الإيقاع واحد والمحطة واحدة لكن الفقرات والخطوات تتدرج، رأينا هذا في كل الثورات التي مرت، مثلا في الثورة الروسية جاءت مرحلة لينين ثم بعدها مرحلة ارتداد البلاشفة ثم جاءت مرحلة النزاع السطاليني التروسكي، قبل أن تستقر الدولة السطالينية وهي التي أخذت مداها إلى أن انهار الاتحاد السوفياتي، حيث تأسس منطق سطالين في بناء الدولة الجديدة.
الثورة الفرنسية مرت بثلاثة زلازل ارتدادية عميقة جدا، عاد لويس 17 و18 إلى الحكم وجاء نابليون ورجعت الملكية ثم جاءت الثورة المضادة فأحداث 1830 و1841 إلى 1905 مع قانون العلمانية، ثم القانون الذي نظم العلاقة بين الدولة والدين ثم إلى المرسوم التطبيقي الذي نشر سنة 1907. استمرت الثورة الفرنسية من 1789 إلى 1907.
الثورة الأمريكية بدأت سنة 1774، ودخلوا في نقاش طويل ثم نظموا الانتخابات بعد عشر سنوات وجاء أول رئيس بعدها بحوالي 13 سنة، كما أخذ الدستور سنوات من النقاش ومرت أمريكا بمحطات حتى استقرت دولة على حالتها التي نراها عليها اليوم.
أظن أن ثوراتنا ستأخذ وقتا يحتاجه التحول الجذري والعميق الذي نحن مقبلون عليه، بالتالي سوف نمر بمحطات ارتدادية، قد تفشل بعض الثورات وتنتكس، قد يكفر الناس ببعض الوجوه الجديدة الطلائعية التي جاءت لهذه الأنظمة، قد يقع الحنين لهذه الأشكال التقليدية من أجل الرجوع إليها. رأينا في تجارب أمريكا اللاتينية نموذجا من الانتكاس ثم الانتعاش ثم الارتداد ثم التوتر، لكن لا أتوقع ما يسمى ربيعا جديدا، ما أتوقعه هو حدوث تحولات دراماتيكية قد تكون أحيانا مأساوية وذات طبيعة انتكاسية، ثم تستقر الأمور في المدى المتوسط وليس البعيد والقريب على الوجه الذي ينسجم مع هذه الهبة التي قامت من أجل الكرامة والخبز، وبعد مدة من الفشل لهذه الأنظمة القطرية التي لا هي توحدت ولا هي صنعت نهضة وتنمية ولا حررت فلسطين ولا صنعت هوية، بالتالي يجد المواطن في ظل هذه الأنظمة شيئا يتعزى به.
حاوره : محمد كريم بوخصاص
Aucun commentaire