حديث الإصلاح
كثر الحديث عن الإصلاح في الآونة
الأخيرة ، فكل المنابر العربية تناولت
الموضوع وحاولت جاهدة أن توحي للآخرين
أنها السباقة إلى طرحه وتبنيه ،
فالإعلام يتحدث عن الإصلاح والمربون
يتبارون في إظهار فوائده وأسسه ومرتكزا
ته، جمعيات وأحزاب أسست باسم الإصلاح
وللقيام به والدفاع عن حرماته ، علماء
ومفكرون وسوقة كلهم يتبنون الإصلاح
ويتحدثون عنه ، واتضح من خلال هذا الكم
الهائل من المداد الذي سال والحناجر
التي بحت ، والدماء التي سفكت في بعض
البلدان ، كم كانت الأمة في حاجة إلى
الإصلاح والى المصلح الذي يأخذ بيدها
ويصلح حالها .
كانت الأمة ومنذ مدة تتلمس الطريق
المفضي إلى اكتشاف ذاتها والتعرف على
هويتها في ظروف صعبة معقدة تضافرت
مجموعة من المعطيات للحيلولة دون
الوصول إلى هذا الهدف ، وكانت وفي كل
مرة معطاءة تبذل أبناءها وقودا للإصلاح
، وكم كانت في حاجة إلى الارتواء
بمفاهيم وسلوك تعينها على الاستقامة
على هذه الطريق للقيام بدورها
وبرسالتها ، ولكن و في كل مرة كانت تبعد
عن هذه الطريق التي بذلت جهود هائلة
ولعقود من الزمن كي لا يصطف العرب
والمسلمون عليها .
إن الفساد الذي ابتلي به العالم العربي
فعشش في مختلف قطاعاته ودواليبه ، حتى
أصبح جزءا من الحياة الإدارية
والسياسية والاقتصادية والنفسية
للمواطنين ، لا يقتصر ضرره على فئة
معينة من الناس بل يكتوي بناره كل فئات
المجتمع ، كما أن جميع الصادقين
والمخلصين والأكفاء والنزهاء من أبناء
الوطن هم من ضحاياه ، لان الفساد يسعى
للحفاظ على مكتسباته وامتيازاته ، ولا
يستطيع تحقيق ذلك إلا بخلق بيئة فاسدة
موبوءة خانقة تألفه و تتعايش معه ،إن
الفساد الذي يتحدث عنه الجميع لم يعد
خافيا على احد ، ولم يعد مستترا يعمل في
الظلام أو في غفلة من أهل الحق ، بل أصبح
له رموز ومؤسسات وفلسفة ، وأصبح يعلن عن
نفسه في كل المناسبات .
إن مفهوم الإصلاح الذي تناولته
الأقلام والألسن بالشرح والتحليل ،ودعا
إليه الحكماء والفقهاء ، ورغب فيه
الخطباء والدعاة ،كل من وجهة نظره ومن
زاوية اختصاصه ، لم يكن يجد له صدى في
واقع حياة الأمة قبل هذه القومة التي
تشهدها الأمة العربية وتعقد عليها آمال
الانعتاق من التخلف والارتهان للأجنبي
، والقطع مع أساليب الحكم العتيقة
والانتخابات المزورة ، والظلم الذي
أضحى عملة رائجة في عالمنا العربي،
والذي نال الجمهور منه نصيبه الوافر عبر
سنين عددا ، إن مفهوم الإصلاح الشامل
لجميع المرافق التي نخرها الفساد طفح
على السطح بقوة اثر القومة العربية
الأخيرة التي أعادت ترتيب الكثير من
الأوراق من جديد ، ولولا هذا الربيع
الذي افزع الفاسدين فانكفأوا على
أنفسهم لكانت الكارثة في الكثير من
البلاد العربية .
الإصلاح خلق عال لا يقوم به إلا عصبة
شرفت أقدارهم ، وطابت منابتهم ، لأن
الإصلاح رسالة الأنبياء والمصلحين ،
فهذا شعيب يقول تعالى على لسانه : )إن
أريد إلا الإصلاح ) . سورة هود آية 88 ،
وكأنه عليه السلام ما بعث إلا للإصلاح
وكأن رسالته قاصرة على الإصلاح ، وكأن
تعاليمه لا تحتوي على عقائد ولا عبادات
، لان الأمر قد يعرف بأهم ما فيه .
إن الإصلاح الذي تحدث عنه المرسلون
والدعاة والساسة وحتى المفسدون لان
الله تعالى قال في شان المفسدين (( وإذا
قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما
نحن مصلحون )) سورة البقرة آية 9، ضرورة
للمجتمعات البشرية ، فحتى يستمر تواجد
الخير ، ونماؤه واستواؤه على سوقه ،
وحتى يكون الصلاح والخير هو الحاكم لابد
من تواجد فئة من الناس تبذل جهدها
لمحارة الفساد والحيلولة دون تحكمه في
دواليب الدولة ، ولابد لهذه الفئة من
الناس التي وهبت نفسها لهذه الرسالة
النبيلة عن قناعة من طاقة هائلة
لمحاربة الفساد وأهله ، لان الفساد لم
يعد أمرا معزولا ، ولأن بعض النفوس
البشرية وحيثما حلت وارتحلت سعت
بالفساد ، ونشرته بين الناس بكل فخر و
سرور ، خاصة و أن الكثير من صور الفساد
محبب إلى النفوس ، ولذلك ينشط أصحابه في
نشره وتعميمه حتى يصعب بعد ذلك اجتثاثه
والتغلب عليه ، خاصة أن بعض النفوس
تستطيب أنواعا منه ، فإذا لم يقم
المصلحون بدورهم فإن الفساد سيصبح هو
آلحاكم على الأشياء والأشخاص وهو
المتحكم في القرارات والمؤسسات ، وإذا
آل الأمر إلى هذه الدرجة فان المجتمع قد
يستمرؤه ويستطيبه فيصعب علاجه بعد ذلك .
إن أمر محاربة الفساد ليس خاصا بفئة
معينة من الناس ولا بطبقة بعينها وإنما
هو رسالة الجميع، الكل يجب أن يشارك في
هذه المهمة النبيلة، والواجب الوطني
الحال ؛ قد يطلب من البعض ما لا يطلب من
الآخرين نتيجة لوظائفهم أو لإمكانياتهم
أو لقدراتهم أو لقربهم من صناع القرار
أو … ولكن الجميع مطالب بموقف من
الفساد ومن أهله، لأنه من المنكر الذي
يطالب الجميع بتغييره و باتخاذ موقف
منه، وبهذا يعزل الفساد ويصبح منبوذا
غير مستساغ بين أهل الوطن الواحد فينكمش
أهله ويتواروا إلى الخلف ، وإذا سعوا
بالفساد فأنهم يسعون مستخفين من الناس
ولا يجرأ أحدهم على إعلان فساده
وإفساده عندما يكون المجتمع يقظا
ايجابيا لأنه يعلم نتيجة تهوره ، فيتم
تحييد هذه العناصر الخبيثة التي تعيش
على دماء ودموع الغير ، أما إذا انكفأ
الأخيار على ذواتهم وعلى مصالحهم
واستعذبوا الحياة الهنيئة المريئة ،
غير المكلفة للجهد والمال والنفس
أحيانا فان الفساد سيطل برأسه وسينفث
سمومه وينشر فجوره ، فلابد لأهل الخير
والصلاح من جهد ومن يقظة وانتباه وإلا
عم البلاء ، لان وجود الفساد يعني
اختفاء كل مظاهر الحق والصدق والخير
..ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يكثر من
الدعاء (( اللهم اصلح لي ديني الذي هو
عصمة أمري ، واصلح لي دنياي التي فيها
معاشي ، واصلح لي آخرتي التي فيها معادي
، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير ،
واجعل الموت راحة لي من كل شر )) رواه
السيوطي عن أبي هريرة ( رض ) و صححه
الألباني .
1 Comment
يا استاذ يحي:قال الاولون:ان الشجرة تعرف من ثمارها,فاين هي الشجرة,واين هي ثمارنا؟
يا استاذ يحي لا بد لهؤلاء القوم ان ارادوا اصلاحا ان يصلحوا انفسهم اولا ومن ثم يتم البحث عن الافات والعلل التي اصابت هذه النفوس,فتعالج وتهيا التربة الصالحة لكي نزرع تلك الشجرة الشهيرة فتنمو ثمارها.
يا استاذ يحي قال شوقي مرة:باطن الامة من ظاهرها,فان كان ظاهرها فسادا فاعلم ان باطنها فساد لا محالة.
المجتمعات الراقية عرفت قيمة الانسان فنمته الى الافضل لتكون النتيجة الطبيعية منعكسة على مجتمعه,فاين نحن من قيمة الانسان؟ذاك ياكل حتى التخمة,وذاك يصارع من اجل البقاء.
لوننا كالح باهت بين الالوان,نطلب الله جل في علاه ان ينظر الى امة اخرجت بخيرها الى الناس .