مقاصد الكلام في المذهب المالكي – الجزء الرابع-
الدكتور عبد القادر بطار
علاقة المذهب المالكي بالمعتقد الأشعري:
استطاع أئمة المذهب المالكي إقامة نظام كلامي قائم على الإثبات مع التنزيه، وبهذا المنهج القويم حافظ هؤلاء على جوهر التوحيد الإسلامي بعيدا عن مذاهب المشبهة والمبتدعة، وقد جاء المذهب الأشعري بوصفه تأسيسا للنظر الكلامي القائم على الاستدلال العقلي ليعيد بناء المذهب المالكي في جانبه العقدي بناء جديدا يجمع بين النقل والعقل.
هذا التكامل المنهجي بين المذهبين المالكي والأشعري لا يثير إي إشكال بالنسبة لمعتنقي هذين المذهبين، لكن الباحثين ممن قصر نظرهم وضعفت بضاعتهم يذهبون على سبيل الشذوذ إلى أن هناك انفصالا بين مذهب الإمام مالك في الفقه والعقيدة ومذهب عامة أئمة العقيدة الأشعرية في العقيدة، فيقول على سبيل النصح: وإنني أوجه الدعوة إلى الإخوة المالكية الذين ينتسبون إلى مذهب الإمام مالك رحمه الله في الفقه، ويسلكون منهج الأشاعرة في العقيدة المخالفة لمنهج السلف والصحيح من عقيدة مالك، ويدعون أن ذلك هو اعتقاد الإمام مالك … أقول لهم: هذا منهج الإمام مالك، وهذه عقيدته الصحيحة الثابتة الحقة فما وجه التفريق بين موافقة مالك في الفقه ومخالفته في العقيدة ؟ (42)
وهذا استنتاج باطل وربط ساذج، بين المذهب المالكي الفقهي والمذهب الأشعري، لأن مذهب مالك الفقهي أسبق من المذهب الاشعري، ولأن مذهبه في العقيدة هو نفسه مذهب السلف الصالح، وهذه الحقيقة لا تخفى على السادة الأشاعرة الذين يفرقون بين مذهب السلف ومذهب الخلف بما يمتاز به الأول من إحكام وضبط، وأن الثاني جاء نتيجة لتطور العلوم وظهور قضايا كلامية جديدة … على الرغم من العلاقة الجوهرية التي تربط بين المذهبين من حيث تنزيه البارئ سبحانه وتعالى والقول في النبوة والصحابة والإمامة وسائر قضايا الاعتقاد…
وإذا كان هذا الباحث يظن ظنا أن هناك فرقا بين المذهب الفقهي المالكي والمذهب العقدي الأشعري فإن هذا يلزم أيضا أصحاب الخطاب السلفي الذين خالفوا مذهب مالك في العقيدة بل خالفوا الإمام أحمد رضي الله عنهما، فإنه لم يرد عن مالك أنه قال: إن الله تعالى يتكلم بحرف وصوت كما تقول المدرسة السلفية اليوم، وإنما قال كما قال الإمام أحمد رضي الله عنهما: القرآن كلام الله غير مخلوق، ولم يقل مالك: إن الله استوى استواء حقيقيا، كما تقوم المدرسة السلفية اليوم بل قال: الاستواء معلوم والكيف مجهول … ولم يقل: إن الله تعالى ينزل نزولا حقيقيا كما تقول المدرسة السلفية اليوم بل وردت عنه تأويلات تنسجم مع نزعته التنزيهية، منها: أنه سبحانه وتعالى ينزل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يصدقون بهذا الحديث، ولا يكيفون. وقال قوم من أهل الأثر: إنه ينزل أمره وتنزل رحمته. وهذا التأويل مروي عن مالك أيضا. قال الحافظ ابن عبد البر: وقد يحتمل أن يكون ما قال مالك -رحمه الله- : على معنى أنه تتنزل رحمته وقضاؤه بالعفو والاستجابة، وذلك من أمره، أي أكثر ما يكون ذلك في ذلك الوقت والله أعلم.
وإذا كان البعض يقول: إنه ينزل بذاته، فإن هذا القول ليس بشيء، عند أهل الفهم من أهل السنة، لأن هذا كيفية، وهم يفزعون منها، لأنها لا تصلح إلا فيما يحاط به عيانا. وقد جل الله وتعالى عن ذلك.(44)
ومن الأمور المقررة عند الإمامين مالك وأحمد بل و سائر أئمة السلف أنهم قالوا نؤمن بما ورد به الكتاب والسنة، ولا نتعرض للتأويل بعد أن نعلم قطعا أن الله عز وجل لا يشبه المخلوقات، وأن كل ما تمثل في الوهم فإنه خالقه ومقدره، وكانوا يحترزون من التشبيه إلى غاية أن قالوا: من حرك يده عند قوله تعالى » خَلَقْتُ بِيَدَيَّ » [ص: 75] أو أشار بأصبعه عند روايته » قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن » وجب قطع يده وقلع أصبعه » (45)
وإذا كان بعض الباحثين يذهبون على سبيل التخيل العلمي أن هناك انفصالا معرفيا بين المذهب المالكي والمذهب الأشعري فإن هذا الاستنتاج لا يثبت أمام ما يقوله أئمة المذهب المالكي أنفسهم، وإنصافا للمدرسة الأشعرية أنقل هنا جواب ابن رشد الجد عن سؤال وجهه إليه أمير المسلمين يوسف بن تاشفين:
ما يقول الفقيه القاضي الأجل الأوحد أبو الوليد وصل الله توفيقه وتسديده، ونهج إلى كل صالحة طريقه، في الشيخ أبي الحسن الأشعري، وأبي إسحاق الأسفرايني وأبي بكر الباقلاني وأبي بكر بن فورك وأبي المعالي وأبي الوليد الباجي ونظرائهم ممن ينتحل علم الكلام، ويتكلم في أصول الديانات، ويصنف للرد على أهل الأهواء، أهم أئمة رشاد وهداية، أم هم قادة حيرة وعماية؟ وما تقول في قوم يسبونهم، وينتقصونهم، ويسبون كل من ينتمي إلى علم الأشعرية، ويكفرونهم، ويتبرؤن منهم، وينحرفون بالولاية عنهم، ويعتقدون أنهم على ضلالة، وخائضون في جهالة، فماذا يقال لهم، ويصنع بهم، ويعتقد فيهم ؟ أيتركون على أهوائهم أم يكف عن غلوائهم؟ وهل ذلك جرحة في أديانهم، ودخل في إيمانهم؟ وهل تجوز الصلاة وراءهم أم لا ؟ بين لنا مقدار الأئمة المذكورين ومحلهم من الدين، وأفصح لنا عن حال المنتقص لهم والمنحرف عنهم، وحال المتولي لهم، والمحب فيهم مجملا مفصلا، ومأجورا إن شاء الله تعالى
فأجاب ابن رشد -رحمه الله- تصفحت -عصمنا الله وإياك- سؤالك هذا، ووقفت عليه، وهؤلاء الذين سميت من العلماء أئمة خير وهدى، وممن يجب بهم الاقتداء، لأنهم قاموا بنصر الشريعة، وأبطلوا شبه أهل الزيغ والضلالة، وأوضحوا المشكلات، وبينوا ما يجب أن يدان به من المعتقدات. فهم بمعرفتهم بأصول الديانات العلماء على الحقيقة، لعلمهم بالله عز وجل، وما يجب له، وما يجوز عليه، وما ينفى عنه، إذ لا تعلم الفروع إلا بعد معرفة الأصول. فمن الواجب أن يعترف بفضائلهم، ويقر لهم بسوابقهم، فهم الذين عني رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: » يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين ». فلا يعتقد أنهم على ضلالة وجهالة إلا غبي جاهل أو مبتدع زائغ عن الحق مائل، ولا يسبهم وينسب إليهم خلاف ما هم عليه إلا فاسق. وقد قال الله تعالى: » وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ». [الأحزاب : 58] فيجب أن يبصر منهم الجاهل منهم، ويؤدب الفاسق، ويستتاب المبتدع الزائغ عن الحق، إذا كان مستسهلا ببدعة فإن تاب وإلا ضرب أبدا حتى يتوب كما فعل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بصبيغ المتهم في اعتقاده من ضربه إياه حتى قال: يا أمير المؤمنين إن كنت تريد دوائي فقد بلغت مني موضعَ الداء، وإن كنت تريد قتلي فأجهز علي، فخلى سبيله، والله أسأله العصمة والتوفيق برحمته، قاله محمد بن رشد. (46)
التعليق على فتاوى ابن ر شد:
السائل هو أبو الحسن علي بن يوسف بن تاشفين اللمتوني أمير المسلمين بمراكش، ثاني ملوك دولة المرابطين. المتوفى سنة 537 هـ وسؤاله للفقيه أبي الوليد بن رشد الجد يدل دلالة واضحة على أنه لم يكن مقتعنا بما كان يروج له بعض خصوم العقيدة الأشعرية من تهم واهية، وافتراءات بينة حول هذه العقيدة السنية، بل كأنه بسؤاله لأبي الوليد بن رشد وحرصه الشديد على استصدار فتوى من العلماء المعتبرين الثقات من أمثال أبي الوليد أراد من خلالها أن يضع حدا فاصلا لهذه التهم الباطلة التي يتعالى عنها أعلام المدرسة الأشعرية، كما أنه بسؤاله أيضا لأبي الوليد مهد لظهور العقيدة الأشعرية التي ستصبح فيما العقيدة الرسمية للمغاربة.
· إن التشغيب على العقيدة الأشعرية ظهر منذ ظهور هذه العقيدة السنية الجماعية من قبل أناس قصر نظرهم، وضعفت بضاعتهم، ثم إن الطعن كان موجها بالأساس إلى كبار أئمة المذهب الأشعري، ربما لاعتقاد أصحاب هذا الأسلوب غير النبيل أن النيل من هؤلاء الأئمة الأعلام كاف لهدم المذهب الأشعري من أساسه، ولكن سقط في أيديهم، حيث أصبح المذهب الأشعري مذهبا رسميا مجمعا عليه من قبل الشافعية والمالكية والحنفية وفضلاء الحنابلة كما قال العز بن عبد السلام.
· لقد تولى كثير من العلماء الفضلاء بيان افتراءات المفترين على المدرسة الأشعرية وعلمائها، مثل ما فعله الإمام الحافظ ابن عساكر الدمشقي في كتابه: تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري » وقد قال في مقدمة هذا الكتاب: » … واعلم يا أخي، وفقنا الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء -رحمة الله عليهم- مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمره عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم … »(47)
· ارتكز جواب ابن رشد على العناصر الآتية:
أن أئمة العقيدة الأشعرية قاموا عبر التاريخ بحفظ الشريعة والرد على المخالفين لعقيدة أهل السنة والجماعة. في إطار رسالة العلماء التي حددها الحديث النبوي الشريف الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم » يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين » والذي حمله ابن رشد على أئمة العقيدة الأشعرية.
· أن مهمة الأشاعرة واشتغالهم العقدي ارتكز بالأساس على بيان أمور العقيدة بخاصة مع الرد على الشبه التي كانت تثار حول العقائد الإسلامية بعامة.
· حدد ابن رشد ثلاث مستويات للرد على من يطعن في أعلام المدرسة الأشعرية: تبدأ بتبصير الجاهل منهم بحقيقة هؤلاء الأعلام، ثم تأتي مرحلة الجزر بالنسبة للمبتدع والفاسق.
· عمد بعض الباحثين المعاصرين إلى العبث بهذه الفتوى، وقراءتها قراءة غير منصفة. فقد كتب هذا الباحث فصلا بعنوان: موقف علماء المغرب من على الكلام والأشعرية، أورد فيه نص سؤال أمير المسلمين الذي أثبتناه فوق، ولم يعرج قط على جواب ابن رشد. بل اكتفى بالقول: » وبغض النظر عن جواب أبي الوليد ابن رشد عن السؤال فإن مضمونه يشير إلى وجود اتجاه في المغرب كان أصحابه ينقمون على علماء الأشعرية خصوصا ».(48)
وتعليق الباحث على فتوى علمية بهذا الشكل في سياق الحديث عن مواقف علماء المغرب على زعمه، خلق غير علمي وغير نبيل، الهدف منه النيل من السادة الأشاعرة، تمشيا مع الخط الذي رسمه لنفسه منذ البداية، وهو يصدر عن منهج آخر ليس هو منهج أهل السنة والجماعة الذي نهض بالدعوة له أئمة العقيدة الأشعرية، فالزعم أن هناك اتجاها في المغرب كان يعارض الأشعرية ليس صحيحا، إذ كيف يعارض عاقل عقيدة سنية جماعية أجمع عليها العلماء الثقات، بل هي أي العقيدة الأشعرية الصياغة النهائية لعقائد أهل السنة والجماعة. وقد رأينا ابن رشد وهو واحد من كبار علماء المغرب الثقات الأثبات كيف يقدم لنا أئمة العقيدة الأشعرية ويعتبرهم المتكلمين حقيقة… فإذا كان مقصود هذا الباحث بالناقمين عوام المشبهة فهؤلاء لا يلتفت إلى كلامهم.
Aucun commentaire