مقاصد الكلام في المذهب المالكي الجزء الثالث
مقاصدالكلام في المذهب المالكي – الجزء الثالث –
الدكتور عبدالقادر بطار
الكلام المحمود والكلام المذموم:
مهما يكن من شيء فإنالاشتغال بعلم الكلام يكون بحسب الحاجة إليه، وفي حدود الرد على الشبهات والبدع، ثملابد أن يكون المشتغل بالكلام قد بلغ درجة عالية من الفهم لأمور العقيدة، متمكنا منعلوم الشريعة، خبيرا بمقالات المتكلمين… وهناك نص يورده الحافظ بن عبد البر يحددفيه الإمام مالك مفهوم المبتدعة وموقفه من علم الكلام المحمود، يقول ابن عبدالبر:
قد بين مالك رحمه اللهأن الكلام فيما تحته عمل هو المباح عنده، وعند أهل بلده، وأخبر أن الكلام في الديننحو القول في صفات الله وأسمائه، وضرب مثلا فقال: نحو قول جهم … والذي قاله مالكرحمه الله عليه جماعة الفقهاء والعلماء قديما وحديثا من أهل الحديث والفتوى، وإنماخالف مالك أهل البدع المعتزلة وسائر الفرق، وأما الجماعة فعلى ما قال مالك رحمهالله إلا أن يضطر أحد إلى الكلام فلا يسعه السكوت إذا طمع برد الباطل وصرف صاحبه عنمذهبه أو خشي ضلالة عامة أو نحو هذا. (26)
لقد أدرك فقهاء المذهبالمالكي خطورة الكلام، ومن ثم وضعوا شروطا صارمة لمن يشتغل بالرد على الشبه والبدعالكلامية التي يثيرها أهل الأهواء في كل عصر ومصر.
يقول القاضي عبد الوهابفي معرض بيان أهمية المناظرة التي يقصد منها رد الشبه: » فأما المناظرة المقصود منهاإيضاح الحجة وإبطال الشبهة، ورد المخطئ إلى الصواب، والزائغ إلى الحق، والضال إلىصحة الاعتقاد فإن ذلك غير منهي عنه، بل مندوب إليه، ومحضوض عليه، وقد قال تعالى: » وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » [النحل : 125] وقال: » وَلَا تُجَادِلُواأَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » [العنكبوت : 46] وقال مخبرا عنقوم نوح: » قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَافَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا » [هود : 32] هذه هي المناظرة التي بينالمناظرين. (7 2)
يقول الإمام جلال الدينعبد الله بن نجم بن شاس: » وأما القيام بدفع شبه المبتدعة فلا يتعرض له إلا من طالععلوم الشريعة وحفظ الكثير منها، وفهم مقاصدها وأحكامها، وأخذ ذلك عن الأئمة وفاوضهمفيها، وراجعهم في ألفاظها وأغراضها وبلغ درجة الإمامة في هذا العلم بصحبة إمام أوأئمة أرشدوه إلى وجه الصواب، وحذروه من الخطأ والضلال حتى ثبت الحق في نفسه وفهمه،ثبوتا قوي به على رد شبه المخالفين، وإبطال حجج المبطلين، فيكون القيام بدفع الشبهفرضَ كفاية عليه، وعلى أمثاله حينئذ، فأما غيرهم فلا يجوز له التعرض لذلك، لأنه ربماضعف عن رد تلك الشبهة وتعلق بنفسه منها ما لا يقدر على إزالته، فيكون قد تسبب إلىهلكته وضلال، ونسأل الله العصمة.(28)
ويقول ابن الحاجب فيعقيدته: » ولا يجب القيام بدفع شبه أهل الضلال إلا على من تمكن في النظر في علومالشريعة تمكنا يقوى بها على دفعها وهو فرض كفاية. (29)
وقد ألف الإمام الأشعريرسالة بعنوان « استحسان الخوض في علم الكلام » ومضمون هذه الرسالة كما يدل عليهعنوانها هو التدليل على جواز الاشتعال بعلم الكلام الذي حكم بعض العلماء بتحريمه،دون تميز بين المحمود منه والمذموم وفي أحسن الحالات بتبديع المشتغل به، على الرغممن أهميته وشرف موضوعه.(30)
فقد ألف عبد اللهالأنصاري الهروي (تـ481 ﻫ) كتابا سماه « ذمالكلام »للتحذير من علم الكلام والإمام موفق الدين ابنقدامة المقدسي، في كتابه » تحريم النظر في كتبالكلام.(31)
وكان الإمام الأشعري منأوائل من ردوا على دعاوى ذم الكلام والنهي عن الخوض فيه مطلقا فيالرسالة السابقة « استحسان الخوض في علم الكلام » فقال: إن طائفة من الناس جعلواالجهل رأسَ مالهم، وثقل عليهم النظر والبحث عن الدين. ومالوا إلى التخفيف والتقليدوطعنوا على من فتش عن أصول الدين، ونسبوه إلى الضلال… »
وقد نقض الإمام الأشعريدعاوى هؤلاء الرافضين من خلال تفكيك خطابهم التبديعي لينتهي بعد ذلك إلى إقرارشرعية علم الكلام لكون أصوله النظرية مأخوذة من القرآن الكريم. » فقد قال تعالى:}لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَاللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ{ ] الأنبياء[: 22 وهذا الكلام موجز منبه على الحجة بأنه واحد لا شريك له، وكلام المتكلمينفي الحجاج في التوحيد بالتمانع والتغالب فإنما مرجعه إلى هذه الآية. (32)
وقد سلك الإمام الأشعريمنهجا واضحا في الدفاع عن مشروعية الكلام، فبعد أن أشار إلى أهم المقدمات التياستند عليها خصوم الكلام والحكم على المشتغل به بالضلال والابتداع قال: الجواب عنهمن ثلاثة أوجه:
أحدها: قلب السؤال عليهم،بأن يقال: النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل أيضا أنه من بحث عن ذلك وتكلم فيهفاجعلوه مبتدعا، فقد لزمكم أن تكونوا مبتدعة ضلالا إذ تكلمتم في شيء لم يتكلم فيهالنبي صلى الله عليه وسلم، وضللتم من لم يضلله النبي صلى الله عليه وسلم.(33)
لقد تطور علم الكلام وأصبحمع المدرسة الأشعرية من العلوم الشرعية بل من أجلها وأشرفها لكونه يبحث في ذات اللهعز جل وصفاته وأفعاله، وذوات رسله عليهم الصلاة والسلام وأحوال الآخرة …
وعن شرف علم الكلامومنزلته يقول الإمام سيف الدين الآمدي : » وأشرف العلوم إنما هو العلم الملقب بعلم الكلام، الباحث عن ذات واجب الوجود وصفاته،وأفعاله ومتعلقاته، إذ شرف كل علم إنما هو تابع لشرف موضوعه الباحث عن أحوالهالعارضة لذاته…(34)
ويقول سعد الدينالتفتزاني: » … وبالجملة فهو –علم الكلام–أشرف العلوم لكونه أساس الأحكام الشرعية ورئيس العلوم الدينية، وكون معلوماته: العقائد الإسلامية، وغايته: الفوز بالسعادة الدينية والدنيوية … وما نقل عن بعضالسلف من الطعن فيه والمنع عنه فإنما هو للمتعصب في الدين، والقاصر عن تحصيلاليقين، والقاصد إفساد عقائد المسامين، والخائض فيما لا يفتقر إليه من غوامضالمتفلسفين، وإلا فكيف يتصور المنع عما هو أصل الواجبات، وأساس المشروعات.(35)
Aucun commentaire