الضمير المهني العملة النادرة والصعبة في واقع حالنا المؤسف جدا
الضمير المهني العملة النادرة والصعبة في واقع حالنا المؤسف جدا
محمد شركي
بكل موضوعية ، وبكل تجرد من كل الخلفيات ، وبعيدا عن أية مزايدات ، وبعيدا عن كل تشاؤم ،لا مفر من القول إن واقعنا الحالي هو واقع تسيب بما لكلمة تسيب من دلالة . فالإضرابات المفتوحة التي لا نهاية لها تشمل كل القطاعات ، وتشل السير فيها . ومصالح الناس معرضة للضياع ، وهي مصالح قاسمها المشترك هو المصلحة العامة. ومن سوء طالع الحزب الفائز في الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة أنه ورث هذا الوضع السائب ، وهو مطالب بأن يخرج البلاد من هذا الوضع المؤسف جدا ، علما بأن من كان قبله لم يسأل حتى مجرد السؤال عن دوره في هذا الوضع بله يحاسب عليه . وأكبر تحد تواجهه حكومة هذا الحزب هو معالجة الوضع السائب بما يقتضيه من عدالة ، وشجاعة ، وصرامة سواء في ما يخص تصحيح الأخطاء المرتكبة من طرف الدولة ، أو تصحيح ردود الأفعال على هذه الأخطاء ، والتي هي بدورها أخطاء. لا أحد ينكر أن الدولة مقصرة بالفعل في حق العديد من الفئات المهضومة الحقوق ولعقود طويلة ، ولكن لا يمكن أن يكون ذلك مبررا لنهج نفس الأسلوب ، وهو ما يلحق الضرر بالصالح العام ، الذي لا يمكن أن يتحمل مسؤولية أخطاء الدولة. فالصالح العام صار بمثابة رهينة بين الدولة ، والفئات المهضومة الحقوق ، والتي تلحق الضرر بهذه الرهينة من أجل الضغط على الدولة. ولا أحد يجادل في أن الإضراب حق من هضم حقه ، ولكن لا أحد أيضا يستطيع أن يعطل الواجب بذريعة المطالبة بالحق . فالحقوق بين جميع فئات المجتمع متداخلة ومشتركة ، فكل حق يتوقف بالضرورة على واجب ، ولهذا يعتبر تعطيل واجب ما مساسا متعمدا بحق من الحقوق . والضمير المهني الحي هو ذلك الضمير الذي يوفق بين الحقوق والواجبات ، ولا يجرمنه شنآن الدولة ، وحيفها على ألا يقوم بالواجب . ولأمر ما تعرف المجتمعات الراقية حضاريا نوع الإضرابات الراقية من حيث أسلوبها من قبيل أسلوب الشارات أو غيره ،حيث يعتمد المضربون طرقا للإضراب تراعي الصالح العام ، ولا تعرضه للخسارة والضياع . وخلاف هذا الأسلوب الراقي في المطالبة بالحقوق دون المساس بالواجبات، نجد المجتمعات المتأخرة حضاريا تعرف الإضرابات المفتوحة التي لا نهاية لها ، والمستنزفة للحقوق والواجبات ، والتي تتحول إلى عبث لا مبرر له ، لأنها من جهة لا تستطيع إرغام الدولة على تحقيق مطالب المتضررين ، ولا تصون حقوق ضحايا هؤلاء المتضررين المضربين ، وتصير الخسارة مركبة حيث يخسر المضربون المتضررون ، ويخسر الصالح العام أيضا ، وتظل الدولة غير مبالية بخسارة هذا الطرف أو ذاك . وخلال الصراع بين الدولة والمتضربين يحاول كل طرف ركوب الصالح العام ، واستعماله كورقة ضغط أو كبش فداء من أجل إلحاق الضرر بالطرف الخصم ، علما بأن الصالح العام يكون ضحية بالنسبة للطرفين معا ، ويستغل من قبل الطرفين معا . فما ذنب ناشئة محرومة من الدراسة طيلة أيام الأسبوع باستثناء يوم واحد ؟ وما ذنب مواطنين مرضى يحرمون من العلاج ؟ ، وما ذنب مواطنين وثائقهم التي تتوقف عليها مصالحهم الإدارية الملحة معطلة ؟ ، وما ذنب مواطنين تؤذيهم الزبالة ؟ وما ذنب مواطنين ينالهم ظلم أو حيف بعينه بسبب الإضرابات….. لأن الإضرابات ـ وهي حق لا يناقش ، ولا ينكر ، والمظالم المسبب لها واضحة وضوح الشمس ـ لا تراعي أصحابها حقوق غيرهم المعطلة والضائعة ، مع أنهم يشتكون من ضياع حقوقهم . والغريب أن يتشبث البعض بحقوقهم ، في حين يدوسون على حقوق غيرهم ، بل يعاملون هذا الغير معاملة الدولة التي داست على حقوقهم ، وشعارهم » الطوفان من بعدي » . وأمام تصلب الدولة مع المضربين تتحول الإضرابات إلى عملية انتحارية الخاسر فيها المضرب والمواطن على حد سواء . وأمام هذا الوضع السائب ، لا بد من قيم أخلاقية توقظ الضمائر المهنية الميتة التي تتسبب في شلل القطاعات خاصة العمومية شللا تاما ، وتلحق الضرر الفادح بالمواطن . فلو أن كل شرائح المجتمع سلكت نفس أسلوب المضربين الذين لا يحسبون حسابا لحقوق غيرهم عندما يخوضون صراعا مع الدولة ،لهلك المجتمع عن بكرة أبيه . ولا شك أن تصحيح الأوضاع المتردية في كل القطاعات لا يمكن أن يتم بين عشية وضحاها . فلا بد لحكومة جديدة ورثت المشاكل المتناسلة،والمزمنة من وقت وفرصة لدراسة المظالم على ضوء مبادىء العدالة الاجتماعية ، خصوصا ، وأن هذه الحكومة تتخذ من هذه العدالة شعارا لها . فعلى كل المضربين أن يكونوا أكثر واقعية ، فيعطوا هذه الحكومة فرصة تدبير ملفات المظالم من خلال العودة إلى أعمالهم، ومن خلال القيام بواجباتهم التي تتعلق بها حقوق غيرهم ممن لا يتحملون مسؤولية أخطاء الدولة ، اللهم إلا إذا كان هؤلاء المضربون وبإيعاز من الدولة نفسها أو جهات مغرضة أخرى يتعمدون إحراج هذه الحكومة وتعجيزها قبل أن تنطلق لتنصرف ، وتؤول الأمور إلى من كان سببا في الوضع السائب الحالي . وإذا كانت بعض القطاعات تسير بالحد الأدنى من الفعاليات والإمكانات البشرية، فلأن بقية من الضمائر الحية لا زالت باقية في غياب الضمائر الحية سواء عند المضربين أو عند الدولة ، مع العلم أن أصحاب هذه الضمائر الحية يعانون أيضا من الحيف ، ولهم مظلمتهم التي قد تكون أكبر من مظلمة من اختاروا شل القطاعات. ومن المؤسف أن تؤول الأمور إلى هذا الحد من التسيب غير المسبوق ، وتعطل القوانين في دولة الحق والقانون . وأعرف مسبقا أن البعض سينتقدني من قبيل من يتسبب في حرمان أبناء غيره من حق الدراسة ،لأن أبناءه يتلقون الدروس بشكل منتظم عند غيره ممن لا يضرب . ولهذا الصنف أقول عليك ألا ترسل أبناءك إلى المدرسة ،لتشعر بما تذيقه لآباء وأولياء غيرك ممن تحرمهم الدراسة . وللذين يخوضون الإضرابات المفتوحة ، وسينتقدون أيضا وجهة نظري هذه ، أقول أيضا تأملوا ما تستفيدون منه من خدمات مختلفة بسبب عدم إضراب غيركم ، وتصوروا أن يحذو غيركم حذوكم ، فيعطل مصالحكم ، كما تعطلون مصالح غيركم ،كيف سيكون موقفكم ؟ والدولة بوزاراتها المختلفة لن يضرها تعطيل الهواتف المخصصة للعمل ، ولن يضرها الامتناع عن معالجة الوثائق الإدارية ، ولن يضرها أن تحرم الناشئة من حق التعلم ، وحق الإطعام . أو حق التطبيب إلخ … وغيرهما من الحقوق المدنية الضائعة والمعطلة ، والمتضرر الوحيد من ذلك ،هم المواطنون الأبرياء الذين لا يتحملون مسؤولية المظالم التي يعاني منها المتضررون، والذين يعالجون ضررهم من خلال إلحاق الضرر بغيرهم ، وهم يظنون أنهم يلحقون الضرر بالدولة التي هضمت حقوقهم وضيعتها . وعلى الذين لا تعجبهم وجهة نظري هذه ألا يكلفوا أنفسهم مجرد الالتفات إليها ، وأن وينسوها بمجرد الاطلاع عليها حتى لا تسبب لهم وجع الرأس ، أو تفسد عليهم إضراباتهم المتواصلة من عهد حكومات متعاقبة دون جدوى ، وبأضرار مضاعفة مست كل فئات الشعب .
Aucun commentaire