المقامات الدفية : الدف الثاني والعشرون – الرجل الذي صب الماء على بطنه .
حدثنا أبو الغرائب عن أبي العجائب أن رجلا من ذوي الرهان ، يعرف بسليط اللسان ، جرب أن يطلق خبثه للعنان ، ويخدم العناد بالمجان ، استشار أهل اللغة عن معنى السليط فقالوا : السليط عند عامّة العرب الزيْتُ، والزيت في السليط أنواع ، زيت تُشتَرى وتُباع ، وزيت بها يُنار ويُستضاء ، وزيت يطبخ بها الحساء ، وزيت في النار كما الهواء ، وهو ما أكده أكبر فضوليي العصر ، حين أوصاه وصية العمر ، أن يربط جأشه وعزمه رباطة ، كلما أراد للناس قهرا وسلاطة .تذكر يوم طافت أمه على سكان الحارة ، طالبة من كل بعيدة وجارة ، لتجمع له سبعة ألسن ، تزرعها في لثته كأرسُن ، حتى يستطيع النطق السليم ، كما أوصى فقيه القرية العقيم . ومن يومها بدأ يتهجى الحروف ، كما تصيح الشاة والخروف ، وهو يعصرها بريق سنانه ، حتى إذا تخثرت فوق لسانه ، أدرك بعد جهد ومشقة ولأي ، أنه بسبب أكل لسان الجدي ، اقترح عليه أحد الفضوليين المحنكين في الثرثرة ، أن يشتغل ما قدر الله بالسمسرة ، فاقتنع بما توصل إليه من علم ، وتوهم ما توهم من اسم ، حتى ظن نفسه لبيبا ، وعلى أنفاس الناس رقيبا . حشر أنفه في كل شأن ، مخلطا بين المَعْز والضأن ، وأصبح لا يتذوق إلا ما فيه زيت ، ولا يتبع إلا ما فيه ميل ونَيْت . فلما شاع في أوساط العموم ، تعيين شهبندر العلوم ، ضاق صاحبنا بالهموم ، وأدخل في فيه بَنانَه ، ليشحذ به لِسانَه ، حتى يقطع به قطعاً ، دابر الكل فردا وجمعاً ، وهو يلعن الرهطَ تسعاً. بعد أن ضاقت أحلامه وسعاً
. اشتعلت نار زيته رحابة ، وزاد نصل لسانه صلابة ،إذ مططه حتى طال واستطال ، وتودد حتى نال ما نال . واتُّفِقَ أنَّ خَطْبا أصاب إحدى القرى ، جندت له كل القوى والعرى ، حيث زعموا أن شيخا للتعليم ، لم يقم بما عليه من تعظيم ، مغيرا بذلك كل تصميم ، لذا وجب فيه التقليم .. وجده صاحبنا ظرفا مغليا، وتقطر لسانه زيتا مقليا ، أذكا به كل ما كان مطليا . حرك لسانه فتحركت خلفه وفود ، أجبر على استقبالها الشيخ اللدود ، ومن لسان صاحبنا سال زيت ووقود . فتحت الوفود كل سجلاتها ، على مُهمها وخزعبلاتها ، فككوا وركبوا واستنتجوا ، وحللوا وهددوا واستغنجوا . وسألوا الشيخ : من فعل بقريتنا هذا ؟ فأجابهم : فعله كبير كبيركم هذا . مشيرا إلى صاحبنا بأصبعه ، الذي تجمد الزيت في أضلعه. دعا الشهبندر إلى جمع عام ، ليطلع على ما جرى بالتمام ، وبعد أن أميط عنه اللثام ، وكُشٍفَ ما ستره الكلام ، أُحْضٍرَ ذو الزيت الهمام ، ليرد على سبب الزكام ، الذي أصاب الخاصة والعوام . تقدم صاحبنا بجرأة زائدة ، نافخا في البركة الراكدة ، عله ينال من ذاك فائدة، وقال بلهجة كائدة : ما أنطقني أيها الشهبندر السعيد ، إلا جودك وفضلك المجيد ، فبفضلك وُصِلَتْ غايتي ، وبعطفك رُفِعَتْ رايتي ، فإن كنت يوما حَنَّطْتُ ،وعليك لساني سَلَّطْتُ ، ولكثير من الخلق غَلَّطْتُ ، وبين كثير الأمور أخْلَطْتُ ، فما كنت أريد إلا نارا ، وقبلي طلبها قيس مرارا . اعلم ، حفظك الله ، أن ما فعله وما قاله ، ذلك الشيخ لم يكن مجاله ، فأنا أدرى وأهل له ، أنا من خلقت للرقابة أمينا ، ولعورات الناس سكينا ، لا طامعا ولا مريدا ، لما كان زائلا بديدا . صرخ الشهبندر في الجمع ، آمراً الجلسة بالرفع ، فقاموا على الطاعة والسمع ، فتميز بذلك القرد من السبع ، وسخرت الببغاء من الضبع .
يحكي أحد الفضوليين المبرزين أن صاحبنا لما نفذ ما نفذ من صبره ، قطع لسانه من جذره ، وترك شؤونه لغيره ، ثم نام ما قدر له من الأيام ، حتى يُشْفى لسانه من الجذام . رأى في عز أحلامه ، وهو في أبهى أيامه ، أنه دُعي إلى شبه وليمة ، أقيمت بالديار القديمة ، كانت له أحسن غنيمة . ولما حضر وجد آنية من نحاس ، بريقها يفتك بالنعاس ، ويُسيل ريق الحواس . وضعت فيها أربع بيضات كبيرة ، تحوم حولها جماهير غفيرة . ثلاث منها تبدو حمراء ، والرابعة كانت صفراء . من تحتها نَبْتٌ ، ومن فوقها زيْتٌ .وعلى يسارها لسان طويل ، وعلى يمينها لسان هزيل . أمامها أسنان ملسوعة ، وخلفها أنوف مقطوعة . أفاق من نومه هائجا مذعورا ، فوجد لسانه على صدره منشورا، وأصبعا ينزف بيمناه مبتورا. فنادى في جمع من الفضوليين العوام ، أن إفتوني يا قوم في هذا المنام . حضر خبيرهم مفسرا بيقين ، وهو لما سمع جد حزين ، فقال شارحا بعقل رزين : فأما الأنف المقطوع المبتور ، فهو كتاب مصور مسطور ، لمن في كل الأمور محشور، وأما الأسنان فتفسيرها النَّهَمُ، حيث لا شَبَعٌ ولا عَدَمُ . واللسانان باختلافهما عنوان ، وعلى صاحبيهما حجة وبرهان . وأما النبت فذلك هو السير ، دأبه التواضع والخير . وكذا الزيت تفسيرها الأكيد ، كل من يذكو النار ويزيد.فأما البيضات الحمراء ، هي عقول فيها دم وعطاء ، والرابعة الباقية الصفراء ، جمجمة خواء فيها هراء ، بيضة صنعت في عجالة ، زادها الوهم شأنا وهالة ، وسيفقسها صاحبها لا محالة . هذا ما بلغني من تفسير الحلم ، والله أدرى بالغيب والعلم .
ودع الفضولى المقام وانصرف ، وتدفق صاحبنا في المتاهات وانجرف ، وشكر الله على ما لطف ، ثم افترش لسانه كاللحاف ، وقام حوله بالطواف ، ولعن الأيام العجاف ، ونام نومة الخراف .وفي رواية أخرى أنه اقتلع لسانه بالتمام ، وخلصه من كل حب ووئام ، ثم صب الماء على بطنه ثلاثا فمات .
يتبع مع فضول آخر .
Aucun commentaire